لوك بيسون... مخرج غريب الأطوار
يباشر المخرج الفرنسي لوك بيسون، أغنى صانعي الأفلام الأوروبيّين الذي حققت أعماله نجاحات عالميّة من بينها The Fifth Element، في بناء أحد أكبر استوديوهات الأفلام في أوروبا، وذلك في ضواحي مدينة باريس في فرنسا. يقف بيسون وسط موقع البناء على أرض جرداء فتتطاير ذرات الرمل الى وجهه، وتلوح في الأفق آثار مصنع لا تزال عواميد الأساس فحسب صامدة فيه. يلقي بيسون نظرة حوله ولوهلة يخيَّل إليك، بسترته السوداء المصنوعة من الجلد وخوذته البيضاء الواقية وجزمته المطاطية زيتيّة اللون، كأنه آخر رجل على وجه الأرض.
يقول بيسون البالغ 51 سنة: «صوّرنا أفلاماً عدّة في هذا الموقع خلال السنين المنصرمة، فقد وجدنا صوراً كثيرة هنا، معظمها كان صور دمار». أما الآن فينوي بناء مدينة الفيلم (Cité du Cinéma) في موقع محطة طاقة سابقة في مدينة سان دونيس، في ضاحية باريس الشمالية. إذاً، بيسون في صدد تشييد أكبر استوديو في فرنسا، على مساحة 60 ألف متر مربّع. ستتضّمن المنشآت تسعة مواقع تصوير، مدرسة للفن السينمائي ومسرحاً يضمّ 450 مقعداً ومقهى يسع لألف شخص. تؤمن مجموعة من المستثمرين بمن فيهم: مصرف وشركة عقارية وشركة بناء وبيسون نفسه، مبلغ 216 مليون دولار لتمويل هذا المشروع. «المخيّلة كالعضل»يقول بيسون: «نقف الآن وسط مبنى يملأه النور، كأنه جادة يمكنك التنزّه فيها، أترى ذلك؟ لكن ما تراه مساحةٌ فارغة وبعض البنائين. لكن بيسون تصوّر في قرارة نفسه المبنى مشيّداً بكامله، يضيف: «المخيّلة كالعضل، عليك أن تمرّنها باستمرار وعلى مدار الساعة، فتصبح قادراً على الإبداع من لا شيء».على مدى سنوات، لم ينجح إلا القليل من صانعي الأفلام في ابتكار أكثر من عالم. أما بيسون فأخرج 13 فيلماً بما فيها The Big Blue عام 1988 وفيلم الخيال العلمي The Fifth Element عام 1997. كذلك، ألّف أو شارك في كتابة حوالى 40 نصاً لأفلام سينمائية وأنتج ما يقارب المئة فيلم. وقد افتُتح في ألمانيا أخيراً، المشروع الذي أخرجه حديثاً وهو مستوحى من سسلسة هزليّة تحمل اسمThe Extraordinary Adventures of Adèle Blanc-Sec. رُزق بيسون من ثلاث نساء بأربع بنات وصبيّ، ولعلّ هذا ما دفعه بصورة جزئيّة الى تأليف Arthur، سلسلة كتب مخصّصة للأطفال، بيعت منها ثلاثة ملايين نسخة وسرعان ما تحوّلت الى سلسلة أفلام سينمائية. وسيُعرض الجزء الثالث منها في دور العرض الفرنسية راهنًا. أعلنت صحيفة «لو موند» الفرنسية منذ سنوات عدّة أنّ بيسون «أمبراطور السينما الفرنسيّة». أما اليوم فبات أغنى المخرجين الأوروبيين، وكأنه يشيّد cité du cinema تكريماً لأعماله وليثني على نجاحاته. يحبّ الجمهور في أفلام بيسون، مشاهد القتل المفرطة والمعارك المسلّحة والمطاردات، بالإضافة الى صورة الأبطال البريئين. يترك بيسون الساحة دائماً أمام النساء الجامحات سواء ظهرن في العصور الوسطى في فرنسا أو في البندقيّة الآن أو في نيويورك في المستقبل. أماّ النخبة في مجال صناعة الأفلام في فرنسا التي تتناول الطعام في مطعم Fouquet الراقي في شارع الشانزليزيه فتعتبر أعمال بيسون كوجبات الطعام السريعة. طالما صنّفت هذه النخبة بيسون كشخص ينزع الى المادية غير مثقف تطاول على الفن السابع. كان والدا بيسون معلّمي غطس وأمضيا سنوات من حياتهما يجولان في منطقة البحر المتوسّط مع ابنهما. يطلعنا بيسون على جزء من طفولته فيقول: «بدأت أكتب القصص حين كنت في الـ13 من العمر، حين بلغت العشرين، كنت قد كتبت ما يقارب الـ25 نصاً، صوّرت لاحقاً قسماً منها. وجدت في الكتابة ملاذاً من الواقع، أفضل بكثير من الانغماس بأمور سيئة أخرى كالكحول أو المخدرات. لعلّ هذه الأساليب كافة كالغطس وتصوير الأفلام خدمت غرضاً أساسياً فمنحتني حماسة واندفاعاً لا مثيل لهما». يضيف بيسون: «لم يكن لديّ أصدقاء كثر حين كنت صغيراً، كنت أتنقّل مع والديّ من بلد الى آخر ولم أكن أملك ألعاباً حقيقيّة. كنت أجمع قطع الصخور والخشب لأصنع منها ألعاباً، وأطلق العنان لمخيّلتي. لو وُلدت في عائلة غنيّة، ما كنت لأبلغ هذه المرحلة المتقدّمة». يُظهر بيسون أنه كان في طفولته ولداً منبوذاً لم يرغب أحد في اللعب معه، ما دفعه الى ابتكار كلّ الألعاب بنفسه. بالتالي، معظم شخصيات أفلامه أفراد مرفوضون من المجتمع. يروي Subway، أوّل فيلم ناجح لبيسون، قصّة أشخاص مشرّدين يعيشون في نفق تحت الأرض في باريس. يقع أحدهم وهو شاب أشقر من هواة حركة البانك (أي الذين يعيشون في الأحياء المتاخمة ويتميّزون بتسريحة شعرهم ولباسهم اللافت الذي يعكس رفضهم تقاليد المجتمع) يُدعى فريد (كريستوفر لامبير) في حبّ زوجة رجل غني تُدعى إيلينا (إيزابيل أدجاني). سرعان ما يجرّ فريد إيلينا الى عالمه، ويعيد بناء شخصيّتها فتتمرّد في النهاية على زوجها. وكأنّ شخصيّة فريد العصري وغير الاجتماعي طبعت شخصيّة المخرج، فصبغ هذا الأخير شعره باللون الأشقر البراق وصار يصفّفه بطريقة غير مألوفة مع نتوءات شائكة حادة، وترك لحيته تنمو كثيراً قبل أن يتوّجه الى مهرجان «كان» السينمائي ليقابل كبار النجوم. كان يرتدي بذلة سوداء ويضع ربطة عنق على شكل فراشة شبيهة بثياب فريد في Subway. وجد بيسون صورة الحبيبة «إيلينا» في شخص الممثلة ميلا جوفوفيتش، فجعل منها نجمة أفلام ومعشوقته. حين ظهرا على البساط الأحمر في «كان» عام 1997، كانت ميلا ترتدي ثياباً من السلاسل المعدنيّة، فبدا الثنائي كشخصيتين من Subway. الفتى المنبوذنشعر بأن بيسون يستمتع بدور الشخص المنبوذ من المجتمع. فاختار بناءCité du Cinéma في إقليم سين سان دوني الذي شهد اشتباكات دموية بين شباب والشرطة في خريف عام 2005. كان المخرج يستخدم هذا الموقع لتصوير أفلامه منذ الثمانينيّات وأصبح مندمجاً في مجتمعه. يقول بيسون ضاحكاً: «لا شكّ في أنّ الكلّ يحلم باقتناء مكتب في شارع الشانزلزيه، أما أنا فقمت بالعكس». ما يعني أنه يتطلّع الى تلك اللحظة حين يضطر المصوّرون الفرنسيون الكبار والممولون الأميركيون الى قصد هذا المكان لتصوير مشاهد من أفلامهم ويخشون أن يلطّخ المراهقون هناك سياراتهم الفاخرة. لا شكّ في أن بناء Cité du Cinéma أكبر مشروع يقوم به بيسون، ولعلّه أعنف معركة يخوضها. وقد وجد الرأسمالي الفرنسي الكبير هذا في عمدة سين سان دوني الشيوعي حليفاً مهماً له. يضيف بيسون: «سأظلّ متمسكاً بهذا المشروع ولن أتراجع قبل أن أثبت للجميع، من سياسيين ومسؤولين في السلطات وأصحاب مصارف، أنني عازم على تحقيق حلمي وبناء هذا المركز للأفلام السينمائية الفرنسية». يتطلّع بيسون الى بناء مصنع لجميع المعنيين بالأفلام السينمائية يختلف عن الاستوديوهات في فرنسا وفي الولايات المتحدة. في هذا الإطار، لا يرى بيسون نفسه كصانع الأفلام بل ككبير العمال القادر على مساعدة الجميع في إعداد أفلام تستقطب الجمهور. يرى بيسون أن المشروع يسير بوتيرة بطيئة، يقول: «نحن في فرنسا، لا نأخذ القرارات هنا، بل نضيّع وقتنا في الجدل». يعتبر هذا المخرج البارز الإجراءات برمتّها كزحمة السير التي تعيق مسار مشروعه، مع أنه ينجح دائماً وهو يقود دراجته النارية من طراز هوندا في تجاوز السيارات، ويجد طرقاً مختصرة لتفادي الزحمة الخانقة. عندما تسأله: متى يصبح الاستوديو جاهزاً؟ يجيب ضاحكاً: «خلال أسبوعين».