الشعر انحراف مستمر

نشر في 16-03-2011
آخر تحديث 16-03-2011 | 00:01
 زاهر الغافري اطرق بقوة فالحياة صماء

ميمي باران

هناك من الشعراء من يذهب بعيداً في استقصاء اللعبة الشعرية قاصماً ظهر اللحظة، ومستشرفاً بجنون آفاق الداخل، هناك حيث لا يظهر غير خطر الانزلاق صوب المناطق المحرمة والذهاب أبعد فأبعد صوب القول الخاص للقبض على عصور الأبدية، فالشعر وهو يربض على الصدر يحاول بيأس إماتة الجسد أي تحفيزه على اختراق الجوانب الخفية والأكثر سرية فيه، أنه يوقّع بصدق ندوبه فوق جلد العالم، ومن بين هؤلاء الشعراء يظهر اسم هنري ميشو كعلامة فارقة وشديدة الخطورة في هذا المجال، وكأن نافذة غرفته تطل مباشرة على بركان كما قال مرة، مثله مثل معاصره انطونان آرتو هذا الملعون الكبير الذي هو الآخر مارست فيه الحياة شراستها بشكل مرعب لقد حقق ميشو إشراقته الشعرية عبر منعطفات حياته الطويلة وعبر عذاباته الشرسة، هو الذي لم يرغب في كتابة الشعر أصلاً وعندما كتب الشعر لم يتبع منحى الآخرين فظل ميشو يحفر تلك النغمة الطويلة والقاسية في روحه وجسده.

وهكذا نتذكر جيداً «بلوم» شخصيته المبتكرة، العبثية والساخرة حد السذاجة، وإذا كان ميشو قد اشترك مع السورياليين في أكثر من نقطة إلا أنه اختلف عنهم أيضاً، لقد ذهبت المُخيلة بميشو إلى استقصاء الداخل بصورة متوترة كحالة مرضية معتمداً وبشكل أليم زعزعة الروح ومجابهة الواقع بضراوة بالغة. إن الشعر بالنسبة لميشو غير قابل للضبط انه انحراف مستمر وامتداد فجائي للعالم لقد عاش تجربة «الميسكالين» بجنون صاعق دون رحمة هذا الذي طرق ذات يوم باب الحياة بقوة لأنها لم تكن تسمعه وتجول في متاهات روحه مكتشفاً أنه لكي يعيش هناك عليه أن يكون قديساً. قيل عن ميشو إنه كان يعبر عن المساحة الداخلية للنفس وتميز بكونه عاش حياته على الهامش بعيداً عن الأضواء وكان مهتماً على نحو خاص بتجاربه الداخلية بما في ذلك تجاربه المعروفة بتعاطي أنواع مختلفة من الأعشاب المُخدرة تحت إشراف طبي. كتب مرة يقول: أنا أكتب لكي أجوب مجاهل قارات نفسي ولذلك أرسم وأؤلف وأكتب، أتجول داخل نفسي، المغامرة هي أن تكون على قيد الحياة. لنقرأ قليلاً هذه الصرخة الكالفكوية:

«لمرض ريح الشوكة ألم قاتل وما كان يؤلمني أكثر هو أنني كنت لا أقدر على الصراخ لأنني كنت في الفندق كانت الدنيا ليلاً وكانت غرفتي بين غرفتين فيهما ناس نيام لذلك أخذت أخرج من جمجمتي طبولاً كبيرة ونحاسيات وآلة تدوي بأقوى من صوت الأرغن، وقد استغللت القوة العجيبة التي كانت تمدني بها الحمى، فألفت جوقة صاخبة حتى أخذ كل شيء يهتز من الدوي ولما تأكدت من صوتي لن يسمع في هذه الضوضاء أخذت أصرخ وأصرخ طوال ساعات كاملة حتى أخذ الألم يخف شيئاً فشيئاً». وصف الناقد والكاتب الفرنسي موريس بلانشو شعر ميشو أنه «نفق ما أن ندخله حتى لا يعود بمقدورنا إلا أن نتقدم ليس فقط دون أي أمل بالخروج منه وإنما فاقدين كل ذكرى عن أنه كان هناك يوماً ما عالم آخر سوى هذا العالم المجرد من المخارج. فاصل آخر: عشق ميشو فن السفر، فارتحل إلى المكسيك والهند وأميركا اللاتينية والصين والشرق الأقصى إلا أن رحلته الداخلية كانت الأعمق والأكثر مأساوية وعندما كانت الكلمات تأبى إلا أن تختنق في أعماقه حينذاك كان يتبع مساراً آخر: الرسم حيث تشكل الخطوط والألوان معادلاً أخوياً للكتابة وموقعاً شعرياً آخر، كان ميشو يقذف الألوان بتوتر شديد ولكن أيضاً بضجر ساحق فالكلمات لم يعد يريدها. تسقط الكلمات! كان يقول: كان يلطخ سطوح الورق ليخربها هو المخرب كيانه أصلاً وقد تحول إلى جرح فاغر».

back to top