بحث في الهبة لمارسيل موس شكل التبادل وعلّته في المجتمعات القديمة

نشر في 25-02-2011 | 00:00
آخر تحديث 25-02-2011 | 00:00
صدر أخيراً عن «المنظمة العربية للترجمة» كتاب «بحث في الهبة، شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة» للعالم والإثنولوجي الفرنسي مارسيل موس (ترجمة الدكتور المولدي الأحمر).

عبر دراسته لظاهرة الهبة يخرج مارسيل موس بنتيجتين أساسيتين: الأولى هي أن الهبة تعد أحد الاكتشافات البشرية المذهلة التي ابتدعها الناس للتواصل في ما بينهم وإقامة علاقات تبادل بين الأفراد والجماعات تعزز من فرص التعايش السلمي بينهم، وما إلزامية الهبة إلا إلزامية تبادلية. أما النتيجة الثانية، فهي أن الهبة في المجتمعات القديمة لم تكن مجرد أفعال ثنائية ينخرط فيها عشوائياً طرفان (أفراد أو جماعات)، بل هي نظام شامل شديد التعقيد من المبادلات ينتقل بموجبه جميع أنواع الممتلكات والحقوق بين الأطراف المعنية دونما حاجة إلى السوق وإلى العقود الوضعية التي عرفتها البشرية في أوقات لاحقة من تطورها بشكل متفاوت وحسب التجربة التاريخية لكل مجموعة.

إضافة إلى ذلك، لم تكن الهبة في هذه المجتمعات تقتصر على الأشياء (المنتوجات الفلاحية والحرفية)، أو الأشخاص (الأطفال والنساء والعبيد)، بل شملت أيضاً الرموز والمعاني (الأرواح، والطقوس، والأغاني، والرقصات، والقصائد...).

يعلن موس أنه يتوخّى من خلال دراسته هذه تحقيق هدفين، من جهة الوصول إلى استنتاجات تتعلق بأحد الوجوه بالأصول القديمة لطبيعة المبادلات الإنسانية في المجتمعات المحيطة بنا أو التي سبقتنا مباشرة. ومن خلال ذلك نتعرف إلى السوق قبل ظهور التجار، وقبل أن يظهر ابتكارهم الأساسي الذي هو العملة بحد ذاتها.

من جهة ثانية، يمكن التعرّف إلى الكيفية التي عمل بها كل من الأخلاق والاقتصاد داخل هذه المبادلات. وبما أن الأخلاق والاقتصاد ما زالا يعملان بشكل ثابت في مجتمعاتنا ولو بطريقة ضمنية، إذ إن ذلك يمثل إحدى الصخور الإنسانية التي بنيت عليها مجتمعاتنا، تكون القدرة على الخروج ببعض استنتاجات تخص المشاكل التي تطرحها الأزمة الحالية لقوانيننا واقتصادنا ممكنة.

مذهب وضعي

يرى المترجم المولدي الأحمر في مقدّمته للكتاب أن مارسيل موس بدأ تجربته الفكرية السوسيولوجية، تكويناً وبحثاً، في الإطار الذهني للمذهب الوضعي. غير أن النتائج التي خلص إليها في هذا البحث شكلت محطة فارقة في تاريخ تطور هذه المدرسة السوسيولوجية الكبرى: «لا يمكن دراسة الهبة، ومن ثم جميع الظواهر الاجتماعية، مفهوماً ومنهجاً، إلا بصفتها ظواهر كلية». وهذا يعني أنه أصبح من الواجب مراجعة المبدأ الوضعي القائل بأن المعرفة العلمية بالظواهر الاجتماعية تقوم على تطبيق مناهج العلوم الطبيعية التي تدرس خصائص الأشياء المادية وعلاقاتها السببية ببعضها. والسبب هو أن هذه الظواهر تتضمن أبعاداً رمزية معنوية غير حسية يصعب إخضاعها لهذا المبدأ، على الأقل في تلك المرحلة من تطور تقنيات البحث ومناهجه.

وفي تفسيره لسبب إلزامية رد الهدية، أن هذه الهدية التي لا يُرد عليها تجعل متقبلها في وضعية دونية، خصوصاً عندما تقبل الهدية من دون أن تكون هناك نية للرد عليها. فالصدقة ما زالت حتى اليوم مهينة لمتقبلها، وكل جهدنا الأخلاقي يتجه نحو الحماية اللاواعية الشائنة التي يمارسها الغني على الفقير. فيجب الرد على الضيافة بالضيافة، مثلما هي الحال بالنسبة إلى التحية. ويجب الرد على الهدايا بأحسن منها كي لا نكون من ضمن أولئك «الذين عليهم دين»، كما يقال، وتكون «الدورة» هنا أكبر وأكثر كلفة. ويضرب موس مثلاً عن العائلات القروية في منطقة لوران في فرنسا، إذ إن هذه العائلات تعيش في شظف وبساطة خلال حياتها العادية، لكنها تجهد نفسها إلى حدود الإفلاس أثناء الأعياد الدينية والأفراح والأتراح في إكرام ضيوفها، إذ يجب اتخاذ مظهر «الأسياد الكبار» في هذه المناسبات.

قانون

يرى موس أن قسماً من القانون الحديث، قانون الصناعيين والتجار، في نزاع مع الأخلاق، فأفكار الشعب المسبقة، أفكار أولئك المنتجين، تتحدر أصلاً من إرادتهم الحازمة في تتبع الشيء الذي أنتجوه، وفي شعورهم القوي بأن عملهم يجري بيعه من دون أن يشاركوا في الأرباح التي يوفرها. كذلك، يعتقد موس بأن المبادئ القديمة اليوم ترد الفعل ضد القسوة والتجريد واللاإنسانية التي توصف بها قوانيننا. ومن وجهة النظر هذه، يمكن القول بأن قسماً من قانوننا الذي هو في حالة مخاض، وبعض ممارساتنا الجديدة، يشكلان عودة إلى الوراء. وهنا يمكن اعتبار أن ردة فعل تظلمنا الأخلاقي القوية ضد برودة الإحساس الرومانية والسكسونية علامة على الصحة والعافية، ومبادئ جديدة في القانون وفي الممارسات قد تقرأ على هذا النحو.

أما النتيجة التي يصل إليها موس في نهاية بحثه، فهي أن المجتمعات تقدمت بقدر ما وصلت إليه، هي وأقسامها الصغرى وأفرادها، من تثبيت لعلاقاتها المتمثلة في تقديم الهدايا والقبول بها والرد عليها. في البدء، كان لا بد من تعلم وضع الرماح جانباً، ومن ثم نجحنا في تبادل الأملاك والأشخاص، ليس بين العشائر فحسب، بل أيضاً بين القبائل والأمم وخصوصاً بين الأفراد، ولم يعرف الناس إلا بعد ذلك كيف يبتكرون المصالح ويستجيبون لها، وأخيراً يدافعون عنها من دون استخدام السلاح. وبهذه الطريقة عرفت القبائل والشعوب كيف تتصارع من دون أن تتقاتل، وأن تعطي من دون أن يضحي بعضها بنفسه لفائدة بعضها الآخر، وهذا ما يجب أن تتعلمه وتعرفه الطبقات والأمم والأفراد في عالمنا الذي يوصف بالمتحضّر.

يدعو موس إلى الرجوع إلى عادة «الإنفاق النبيل»، فكما هي الحال في البلدان الإنغلوسكسونية وفي مجتمعات متحضرة كثيرة، المتوحش منها وفائق التحضر، يجب على الأغنياء أن يعودوا بشكل حر إلى اعتبار أنفسهم نوعاً من أمناء صناديق المال بالنسبة إلى مواطنيهم، فالحضارات القديمة التي خرجنا منها كانت لبعض منها عادة إقامة الحفلات وتنظيم الأعمال الخيرية التي يدفع الأغنياء تكاليفها، وعادة إقامة المآدب الجماعية، وعادة دفع الأموال للمصلحة العامة من طرف ناظر المدينة والشخصيات القنصلية في العهد الروماني. لذا يجب العودة إلى قوانين من هذا النوع، ثم بعد ذلك يجب الاهتمام أكثر بالفرد وبحياته وصحته وبتربيته، وبعائلته ومستقبلها. يجب علينا أن نتعامل مع عقود التأجير والخدمات وبيع المواد الأساسية بصدق وحس مرهف وبكرم، ويجب علينا العثور على طريقة نقلص بها نتائج المضاربة والربا. وفي الوقت ذاته، لا بد للفرد من أن يعمل، وعليه التعويل على نفسه أكثر من تعويله على الآخرين. ومن جهة أخرى، عليه أن يدافع عن مصالحه شخصياً وجماعياً، فالكرم الزائد وفكرة تقاسم الثروات بالمعنى الذي تعطيه له الشيوعية سيلحقان الضرر به وبالمجتمع، مثلما هي حال الأنانية التي يتصف بها معاصرونا والفردانية التي تعتمدها قوانيننا بحسب الكاتب.

back to top