وحيدة 
في غرفة أمسح الغبار

نشر في 20-09-2010
آخر تحديث 20-09-2010 | 00:00
 فوزية شويش السالم كنت في بداياتي الشعرية أستغرب وجود مفردات يرددها ويكتبها الكثير من الشعراء في قصائدهم، مثل كلمة الغزالة وأسراب القطا وطائر الفينيق، وغيرها من مفردات كثيرة كانت شائعة فيما بينهم كنت أظنها من ضروريات كتابة القصيدة، أي لزوم الديكور لكتابة قصيدة عصماء.

ولم تقنعني أبداً تلك القصائد الغارقة في رمزيتها المستعارة من تجارب لا تتطابق معها ولا تشبهها في تجربتها الحياتية، فما يُستعار من الآخر أو من خارج التجربة الحياتية للشاعر لا يُثري القصيدة، ولا يمنحها مصداقيتها وعفويتها وصدقها الشفاف القادر على اختراق العواطف وإثارتها والتجاوب معها.

كما أن تلك الرموز قد تكون صالحة لزمنها ولتجربتها الحياتية الماضية، لكنها لا تصلح لزمن غيرها، فهي تبدو مصطنعة المناخ وباهتة، ولا أظن أن أحداً من القراء قد شاهد في حياته طيور القطا أو الفينيق، وتبدو استعارتها في القصيدة الحديثة هزلية ومضحكة...

الشعر لا يحتاج إلى أكثر من الصدق، والنظرة الإنسانية العميقة لكل تفاصيل الحياة وعيشها بتأمل شفاف رهيف.

ومثال على ذلك سأتناول بعض مقاطع ديوان «وحيدة في غرفة أمسح الغبار» للشاعرة الأميركية دوريان لوكس، وهي مختارات من عدة دواوين لها كلها تنصبّ في لقطات لتلك التفاصيل الصغيرة العابرة للحياة المُعاشة في هدرها اليومي العادي... تلك التفاصيل بفرحها وحزنها معاً، تلتقطها عين الشاعرة المتأملة لكل دقائق الحياة الإنسانية المُنسابة فيها ومن حولها، تفاصيل مثل أدوات المطبخ والأسمنت الرطب، الحذاء المتعب والشراشف الزهرية، كلب الساحة، اللبلاب المعترش، الخلافات العائلية، رحيل الموتى.

والضوء الذي ينسكب كمياه برّاقة من نجوم/ ميتة منذ وقت طويل، وها هي ترصد الحب في مراحل العمر المختلفة كنت في العشرين، على بعض أسابيع من الوقوع في الغرام/ الرجل الذي ينتظر بصبر في مستقبلي/ كنبتة حمراء على الرصيف/ ذلك النوع من الجمال/ الذي يتطلب أن يُرى.

ويتطور الحب إلى زواج لتكتب أشد لحظات حبي له/ حين يعود إلى البيت من العمل، أصابعه مازالت مكورة من تركيب الأنابيب، قميصه مجعد من العرق، ويفوح منه الملح وأعشاب المحيط الميتة.

أذهب إليه حيث يجلس على حافة السرير، جبينه متسخ بلطخات الشحم، يداه المنهكتان بين فخذيه، أفك جزمته ذات الطرف الفولاذي، وأمسّد كاحلَيه، ربلتَي ساقَيه، وعظام قدمَيه/ ثم أشق قميصه وابدأ امتصاص اليوم كله إلى داخلي.

ويغيب الزوج في رحلة موت طويل، وتكتب أنني ألوح/ أعطني إشارة إذا كنت تراني/ لا أحد سواي هنا/ يجثو على ركبتَيه/ أي شيء أنت الآن؟

هواء؟ ضباب؟ غبار؟ ضوء؟

أي شيء؟ أعطني إشارة/ يجب أن أعرف إلى أين أرسل صوتي.

هو ميت «هو لن يرجع، وستكون المرة الأولى التي تصدقين فيها ذلك/ وأفكر أنني حتى في المستقبل البعيد، وفي الكون الأبعد/ كنت سأميز صوته الواهن كضوء نجمة صغيرة مجهولة.

وحينما تكبر ويضيع الحب، ويختفي العشاق تكتب وأدركت كم أني وحيدة، وكم لم يعد مهماً/ من أحبني أو من أحببت/ أدركت أخيرا بعد فصل في الفلسفة، وألف كتاب من الشعر، بعد الموت والولادة، وصرخات الرجال الصاخبة/ الذين هتفوا باسمي، أدركت كم أني وحيدة.

وحتى عندما يتذكرها حبيب ما تكتب كلّمني ليلة أمس، وأخبرني بالحقيقة، لم تكُن أكثر من بضع كلمات، لكنني فهمت، يأتي الملاك إلى نافذتك، لكنك لشدة ما أنت متعب/ لا تقوى على فتح النافذة.

وتكتب مهما كان وزن الحزن، فإننا مجبورون على حمله/ ننهض ونحشد قوتنا الدافعة، تلك القوة البليدة/ التي تقودنا عبر الحشود.

back to top