ناصر الحزيمي في أيام مع جهيمان الجماعة السلفيّة المحتسبة قتلَها مَهْدِيُّها
قد لا نصل الى الحقيقة إلا ببوح الإنسان الذي ساهم في صناعة الحدث منتسباً إلى زمانه ومكانه. فالمصوّر والمراسل والمعلّق والمحلّل ومذيع الخبر والسياسيّ... كلّهم يبقون على مسافة من الحقيقة متفاوتة وربّما ينحرفون من حقيقة إلى أخرى، بقصد أو بغير قصد، لأنّ أكثر من مسألة تستطيع التحكّم بنوعيّة النظر الى الحدث. وهذا لا يعني أن المساهم في صناعة الحدث هو أبو الحقيقة وأمّها، لأنّه هو أيضاً، قد يقدّم حقيقة تتلاءم مع ما يريد وليس مع ما هو كائن وحادث، إلا إذا شاء أن يقول نَفْسه بصراحة وجوديّة وبعراء من أيّ اعتبار. كتاب «أيّام مع جهيمان»، كنتُ مع الجماعة السلفيّة المحتسبة، لناصر الحزيمي ينتمي إلى شكل من أشكال السيرة الذاتية الناقصة، لأن صاحبه اكتفى بتأريخ أحد مناحي حياته المتعدّدة وكان همّه أن يؤرّخ تجربة خاصّة جدًا تختصر رؤيته الى الله والإنسان من خلال الدّين الإسلاميّ. وإذا كان الكتاب لا يشكّل سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق للتسمية إلا أنّه مرجع ووثيقة فائقة الأهميّة لكلّ راغب في الاطلاع على مدّ وجزر في المجتمعات العربية لأسباب تعود إلى المجتمعات نفسها والظروف المحليّة والإقليميّة والدوليّة.
يعلن الحزيمي أنّه تعرّف إلى الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة عام 1974 إذ تديّن عليها قبل أن ينتمي إليها. وفي هذا الوقت كانت الصحوة في بدايتها في الشرق الإسلاميّ كلّه وتزامنت مع انحسار قوى اليسار والمدّ القوميّ. في الكويت، عام 1976 تعرّف المؤلّف الى الجماعة السلفيّة وأعلامها، ففهم السلفيّة ورفض التمذهب والمذاهب الأربعة وأقوال العلماء وفقههم... وفي أدائه العمرة للمرّة الأولى في حياته، عام 1976، التقى الشيخ علي المزروعي وقصد المدينة المنوّرة للتتلمذ على يده. ولاحظ حضور جماعة الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ بشكل فاعل. وفي موسم الحجّ، في مخيّم منى تعرّف إلى جهيمان ورموز آخرين في مقدّمهم الشيخ الألباني المحاط بحاشية كبيرة من سلفيّي الشام، والذي تأثّر الحزيمي بكتبه تأثّرًا كبيرًا. وبعد هذا الحجّ المتوّج بدروس الإخوان والألباني، شعر المؤلف بأنّه ينتمي فعلاً إلى جماعة سلفيّة حقيقيّة وكانت قد توطّدت علاقته بجهيمان. في معهد الحرم تلقى الحزيمي دروسه في زمن دراسي اتّصف بالضيق المادّي لعدم إيجاد وسائل للإنتاج. وكان يذهب يوم الجمعة للدعوة في القرى المنتشرة في ضواحي مكّة، حيث تكون جماعة التبليغ هي السبّاقة إلى هذه القرى. ومن الملاحظ أن الكثيرين من الجماعة السلفيّة المحتسبة كانوا ينتسبون قبل إلى جماعة التبليغ. يومًا بعد يوم صار المؤلّف رفيق طريق السفر للدعوة مع جهيمان، وتعلّق به وأعجب بشخصيّته، إلا أنه رفض تعصّبه لقبيلته «عتيبة» ونقده القبائل الأخرى. وكان جهيمان ابن إحدى الهجر التي كانت لتعليم البدو واستقرارهم. أمّا الجماعة السلفيّة المحتسبة فقد أُسّست بعد سنة 1965، ومؤسّسوها ستّة خارجون من عباءة جماعة التبليغ، باستثناء واحد قد يكون من جماعة الإخوان المسلمين، ويتقدّم هؤلاء الستّة جهيمان. قصدت الجماعة الجديدة الشيخ عبد العزيز بن باز وأخبره أهلها بأنّهم يرفضون التمذهب ويدعون الى التوحيد والتّمسك بالكتاب والسنّة وسيسمّون حركتهم الجماعة السلفيّة فزاد لهم الصفة «المحتسبة»، لأنّهم يحتسبون الأجر من الله. وكانت الجماعة علنيّة جدًّا، تعلن عبر الميكروفون حملة حجّها. تمادت الجماعة السلفيّة المحتسبة في مخالفتها مشايخ عصرها الذين نفروا منها بسبب بعض الفتاوى كفتوى الصلاة خير من النوم وهي في الآذان الأوّل من الفجر لا من الثاني. وأذّنت في المساجد التي سيطرت عليها ورفضت المحاريب لأنّها أتت بعد زمن النبوّة ورفض أئمّتها الصلاة فيها... وكان جهيمان يتبنّى كل أفكار الجماعة ويتفرّد ويستبدّ بقراراتها، إلى أن أصبح القائد المطلق. وبعد مطاردة السلطات له واعتقالها عددًا من رفاقه تبدّل واقع الجماعة وفرح المنتسبون إليها لأنّهم يدخلون السجن لأسباب الدعوة وهم بذلك يقوون وينافسون الحركات الأخرى التي عزّزها الاضطهاد ونمّاها. لم يقتنع الحزيمي بفكرة «المهدي»، وبما بني عليها لحمل السلاح وإطلاق النار في الحرم، ولم يورّط نفسه في توزيع الرسائل، وانتبه إلى أنّ الجماعة تأخذ شيئًا فشيئًا منحى خطيرًا والأمر يستدعي إعادة النظر والتبصّر، وبدأت علاقته بجهيمان تتغيّر وتفتر. وجدير بالذكر أن جهيمان شبه أمّي وكان يتولى كتابة رسائله أحمد المعلّم أو محمد عبدالله القحطاني. عام 1399 تنامى الحديث عن الرؤى المتعلّقة بآخر الزمان ليخرج المهدي في ظلال كثافة رؤيوية. وعاشت الجماعة هذا الهاجس إلى أن سميّ محمّد بن عبدالله القحطاني مهدي آخر الزمان، وتمّت الدعوة إلى حمل السلاح، وهكذا اتجهت الجماعة إلى الكارثة تحت ضغط أفكار الخلاص والمهدي والمنامات والرؤى. انتهت حادثة الحرم بخسارة الجماعة ومقتل «المهدي» الذي كان منتظرًا. وليس الحزيمي وحده من رفض فكرة المهدي إنّما شاركه الكثير رفضها. دخل جماعة جهيمان الحرم صباح 10/01/1400 هـ لمبايعة المهدي بين الركن والمقام. وطالت أيّام القتال داخل الحرم، وألقي القبض على الحزيمي في 01/15/1400 هـ. وكان السلاح قد أدخل إلى أكثر من مكان في الحرم قبل الحادثة. تولّى جهيمان التعليق على بعض ما جاء في خطبة خالد اليامي، وتوزيع أتباعه في الحرم، وتوزيع السلاح والذخيرة على الموجودين... وكان هو أوّل من بايع القحطاني مهديًّا منتظرًا، واقفًا بين الركن والمقام كما أتى في حديث الرسول... وبعد أيّام من القتال قُتل القحطاني ورفض جهيمان تصديق الخبر وقال إنّ المهدي لا يموت قبل تحقيق رسالته وهو حصر في مكان ما من الحرم. وانتهى القتال بمحاصرة من بقي من الجماعة في غرفة أو اثنتين لتلقى عليه من فتحات السقف القنابل المسيلة للدموع... وصف الحزيمي في كتابه جهيمان مطوّلاً وهو باختصار عدوّ للمعرفة، وقد أخذ موقفًا من الفقه والنحو والصرف والإملاء واحتجّ بالمسلمين الأوّلين البسطاء وبأنّ الإيمان بالله يكفي والله يعلّم من يؤمن به، وقد ساعدته ذاكرة قويّة جدًّا وقدرة على الاستدلال. وبعد كلام الحزيمي يكتشف القارئ ويستنتج أنّ جهيمان ضحيّة جهله وضعفه أمام المعرفة وأعانته الظروف ليصل إلى ما وصل إليه وأنّ معظم أتباعه في الجماعة قليلو العلم وأهل بادية تغلب عليهم البساطة والانجرار العفوي خلف أيّ فكرة يروّج صاحبها أنّها لخدمة الإسلام الحقيقيّ... ويكاد القارئ لا يصدق أنّ الكثيرين من التلامذة تركوا مدارسهم ليلتحقوا بالجماعة في سنّ مبكرة باعتبار أن المدارس تعلّم ما هو كفر، مثل كرويّة الأرض ودورانها... لم يترك جهيمان للصلح مكانًا مع أحد، فلقد عادى السلطة والشرعيّة ورفض الآخر وكان موقفه عنيفًا من الشيعة والمسيحيين... وغالى في مشروعه إلى حدّ الانتحار، إلى أن قتل الجماعة السلفيّة المحتسبة مهديُّها... ما رواه الحزيمي في كتابه يدعو إلى التأمّل الهادئ في نشوء الحركات المتطرفة. واللافت أن المنتسبين إلى هذه الحركات هم في سوادهم الأعظم أهل جهل وفقر وخشونة حياة، تجذبهم في البداية الحياة الإسلاميّة القريبة جدًا بشكلها من حياة المسلمين الأوائل، وفي ما بعد يصيرون دمى في أيدي قادتهم ويصلون إلى الموت بقناعة ساذجة، ويحملون السلاح وكأنّه سلالم إلى السماء. روى الحزيمي أيامًا له مع جهيمان، وأورد تفاصيل ذات دلالات مهمّة لأيّ راغب في معرفة نشوء التنظيمات التي تخالف سير الزّمن وتعبر من الحاضر الى الماضي إلى الهلوسة القاتلة ـ إذا جاز الكلام ـ لكنّه لم يشر إلى أيّ جهة تقف وراء جهيمان وأمثاله، فمسألة التسلّح والقتال والتبشير بالعقائد المتطرّفة ليست بريئة ولا تتمّ بمجانيّة مطلقة. أهدى الحزيمي القارئ جزءًا من حقيقة الجماعة السلفيّة المحتسبة والزمن الآتي كفيل بإهداء البقيّة.