سلاسل آسيا المكبِّلة
لقد دأب المصنعون على التنقل والنزوح بحثاً عن العمالة الأرخص، وحتى وقت قريب، كانت الصين مقصداً نهائياً لهم، فاستحوذت على حصة متزايدة الضخامة من الاستثمارات التي تديرها شبكات الإنتاج الضخمة في آسيا، ولكن هناك ثلاثة تطورات في الصين: ارتفاع تضخم الأجور، والخطة الخمسية الجديدة التي من المفترض أن تسعى إلى تحويل تركيز الاقتصاد الصيني بشكل جذري من الاعتماد على التصدير إلى الاعتماد على الاستهلاك، وقطع الإمدادات من العناصر المعدنية النادرة عن الشركات اليابانية، وهي التطورات التي قد تبشر بتغيرات بالغة الأهمية فيما يتصل بالكيفية التي سوف تدير بها هذه الشبكات استثماراتها في الأعوام المقبلة.ورغم أن الصين يُنظَر إليها الآن بشكل روتيني باعتبارها ورشة عمل العالم، فإن شبكات الإنتاج المتكاملة والواسعة في آسيا هي التي تمثل الآن القلب النابض ليس فقط للنمو الصيني، بل أيضاً للنمو الاقتصادي في مختلف أنحاء آسيا، والواقع أنه كان من المتصور قبل وقت ليس بالبعيد أن العديد من شبكات الإنتاج التي تمتد عبر آسيا قد تنقل كل منشآتها الإنتاجية تقريباً إلى الصين، والآن يبدو أن هذا الاتجاه بات في تراجع واضح.إن السبب الرئيس وراء ذلك هو أن الأجور في الصين بدأت بالارتفاع بسرعة أكبر كثيراً من الحال في غيرها من الدول الآسيوية ذات الأجور المنخفضة، فضلاً عن ذلك فإن الشركات داخل شبكات الإنتاج في آسيا تجد صعوبة كبيرة في الاحتفاظ بأكثر العاملين الصينيين موهبة، خصوصاً في المناطق الساحلة المزدهرة من البلاد، والواقع أن متوسط الأجور اليوم في مجال التصنيع على طول الساحل الشرقي للصين أعلى من نظيراتها في الفلبين وتايلاند، وهي البلدان التي كانت ذات يوم تتمتع بأجور أعلى كثيراً في قطاعات التصدير.ولقد استجابت الحكومة الصينية لهذا الوضع من خلال تشجيع الشركات المصنعة على الانتقال إلى المناطق الداخلية الشاسعة، حيث الأجور أدنى كثيرا، ولكن كلما تغلغل المنتجون إلى المناطق الداخلية من البلاد قلّتْ مهارة الموظفين وارتفعت تكاليف نقل السلع إلى الأسواق، ويزعم البعض الآن أن عصر «السعر الصيني» في العديد من القطاعات- والذي يحدده المصدرون القادرون على عرض أرخص السلع على مستوى العالم- ربما يقترب من نهايته.بطبيعة الحال، لا ينبغي لأحد أن يستبعد القوة التي تتمتع بها آلة التصدير الصينية، حتى عند الطرف الأرخص من الإنتاج، فمثله كمثل الإنتاج الياباني قبل أربعين عاما، يرتقي الإنتاج الصيني الآن إلى أعلى سلم الإنتاج من حيث القيمة المضافة.إن العواقب التي سوف يتحملها جيران الصين نتيجة لارتفاع الأجور في الصين من المرجح أن تكون هائلة، ويرجع مدى تأثر هذه البلدان إلى موقفها الحالي في شبكات التصنيع، وبالنسبة للبلدان التي تنافس الصين الآن على نحو متزايد، فإن التحدي يتخلص في جعل تصنيعها أكثر تطوراً وتصميمها أكثر تخصصا.ويعمل ارتفاع الأجور في الصين أيضاً على خلق فرص جديدة لمصدرين إقليميين آخرين، فقد استفادت فيتنام بالفعل من هذا، حيث تجاوز نموها السنوي 8% في الأعوام الأخيرة، وعلى السهل الواقع بين هانوي وهايفونغ، تقام المصانع الكورية الجنوبية واليابانية إلى جانب حقول الأرز، بل إن النمو في فيتنام كان قوياً في الأعوام العشرة الأخيرة إلى الحد الذي أصبح معه اقتصاد البلاد يعاني فرط النشاط.والآن تبدأ بنغلاديش أيضاً في الانضمام إلى سلاسل الإنتاج في آسيا، وهو أحد الأسباب التي تفسر لنا لماذا شهدت بنغلاديش نمواً قوياً منذ عودة رئاسة الوزراء إلى الشيخة حسينة في عام 2009. فهناك لم تكن نقطة الانطلاق نحو الانضمام إلى سلاسل الإنتاج العظمى في آسيا تتلخص في انخفاض الأجور في البلاد فحسب، بل كانت في القرار الذي اتخذ بتصحيح أخطاء الحكومة السابقة: تحرير التجارة، وخلق مناخ استثماري أكثر ملاءمة، وتحسين البنية الأساسية.إن انتشار التصنيع، وبالتالي المزيد من الازدهار، في زوايا وأركان المناطق النائية في آسيا من خلال تدفقات الاستثمار والتجارة، يشير إلى ضرورة بدء الحكومات الآسيوية في فهم وإدراك أهمية التكامل الاقتصادي، غير أن أغلب الحكومات تبدي في الوقت الحاضر قدراً كبيراً من الحساسية إزاء المحاولات الرامية إلى الاتفاق على قواعد والتزامات قابلة للتنفيذ. والواقع أن الأمر يبدو وكأن الأزمة فقط قادرة على تركيز العقول الرسمية حول الحاجة إلى قدر أعظم من التعاون، ففي عام 1998، وفي أثناء الأزمة المالية الآسيوية، توصلت بلدان آسيا إلى أرضية مشتركة لاتقاء أزمات المستقبل، بدلاً من الانخراط في سياسات خفض قيمة العملة والاستفادة على حساب الجيران وتدابير الحماية المالية. كما أطلقت البلدان الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية، أطلقت ترتيبات مشتركة فيما يتصل بمقايضة العملات في إطار مبادرة شيانغ ماي، التي جمعت احتياطيات البلدان الأعضاء من النقد الأجنبي من أجل مساعدة البلدان المتضررة من الأزمة والتي تعاني أزمات سيولة.كما تضاعفت اتفاقيات التجارة الحرة الإقليمية والثنائية منذ عام 1998، حيث دخلت حتى الصين في ترتيبات مماثلة مع آسيان في بداية هذا العام، ولكن السياسة الانفرادية التي تتبناها الصين اليوم فيما يتصل بتقييم الرنمينبي (عملة الصين) تلحق الضرر باقتصاد البلدان الآسيوية بقدر ما تلحقه بالولايات المتحدة الأعلى صوتا، ولا شك أن هذه الرؤية الضيقة من غير الممكن أن تستمر إذا كانت آسيا راغبة في استمرار اقتصادها في التوسع.وإذا تبنت الصين نظام سعر صرف يتميز بعملات متعددة، وأسعار مرجعية تستند إلى سلة عملات عريضة النطاق، فإن الفوائض الضخمة المتولدة داخل شبكات الإنتاج في آسيا من شأنها أن تدفع قيمة العملات في المنطقة إلى الارتفاع بشكل جماعي، بدلاً من فرض الضغوط على عملة واحدة أو اثنتين، كما يحدث اليوم. وآنئذ يصبح بوسع قوى السوق أن تعمل على الاستفادة من هذه الارتفاعات في مختلف بلدان سلاسل الإمداد استناداً إلى قيمتها المضافة في التجارة التجهيزية. ولن يؤدي هذا إلى خفض الفائض الصيني ولن يؤثر في احتياج الصين إلى الاستمرار في تكديس الاحتياطيات الدولارية فحسب، بل قد يعطي الشركات الآسيوية أيضاً الحافز لإعادة توجيه الإنتاج باتجاه الأسواق المحلية.ويتعين على زعماء آسيا أن يتحركوا في اتجاه تحسين التدابير الرامية إلى تأمين بلدانهم ضد مخاطر الخلل الاقتصادي الناجمة عن التكامل الإقليمي المفروض كأمر واقع، ولابد أن تبدأ المناقشات بقدر أعظم من تنسيق السياسات النقدية والمالية، مع تركيز الزعماء بنفس القدر على المصالح الإقليمية والمصالح الوطنية الفردية.* وزيرة الدفاع اليابانية ومستشارة الأمن القومي سابقاً، وهي تشغل حالياً منصب رئيس المجلس التنفيذي للحزب الديمقراطي الليبرالي.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة». كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة