عُمَر الزعنّي موليير الشرق... جزءٌ نبيل من ذاكرة لبنان المبدع

نشر في 14-12-2010 | 00:00
آخر تحديث 14-12-2010 | 00:00
تميّز لبنان عن محيطه الشرقيّ بهامش من الحريّة سمحت لمبدعيه بتوجيه النقد الذي يحظى بتأييد شعبيّ واسع قلّما حظي به السياسيّون. غير أنّ هذا الهامش لم يمنع السلطة اللبنانيّة من التضييق على أصحاب الرأي المعارض، وكثيراً ما أدخلتهم السجون. لكن، مما لا شكّ فيه أنّ الفنّان اللبناني الملتزم يحترف المواجهة ويستطيع الاستمرار بحصانة شعبيّة، فاللبنانيّون ما خذلوا يوماً عظيم فنٍّ وأدب وفكر تعرّض لاضطهاد أهل الحكم.

«عمر الزعنّي موليير الشرق» نافذة زعنيّة إعداد سمير الزعنّي، ومنها يطلّ فنّان الشعب على عشّاقه القدامى وهم في معظمهم طاعنون في السنّ، ولسوء الحظّ لم تتعرّف الأجيال اللبنانيّة الحديثة إليه لأسباب قد تتعدّد، وأهمّها أنّ الإعلام اللبناني خصوصاً والعربيّ عموماً لا يتبنّى التراث قضيّة، وأنّ كثيراً من أغاني الزعنّي وليد مناسبات معيّنة ويزول بزوالها.

في 18 يوليو (تموز) سنة 1895، ولد عمر الزعنّي في الرّمل الظريف – بيروت. أبوه الشيخ محمّد الزعنّي وأمّه بهيّة المغربل. تعلّم صغيراً في مدرسة التوفيقة، ثمّ انتقل إلى مدرسة الشيخ أحمد عبّاس الأزهري، فالكليّة الإسلاميّة التي نال منها شهادة البكالوريا في الأدب والعلوم.

سنة 1914، تخرّج ضابطاً في المدرسة الحربيّة في حمص والتحق بالجيش العثماني في الحرب العالميّة الأولى. وبعد الحرب، انتسب إلى الجامعة اليسوعيّة ليتخرّج فيها محامياً. وانصرف إلى تعليم اللغة الفرنسيّة في المدرسة الأزهريّة وصار لاحقاً مديراً لها. كذلك، عمل مساعد قاض في المحكمة البدائيّة إلى أن كشف أوراقه الحقيقيّة وظهر بقامته الفنيّة علناً تاركاً الأسماء المستعارة، وقد نفاه الرئيس شارل الدبّاس وظيفيًّا إلى البترون بسبب أغنيته «بدنا بحريَّه يا ريّس»، ليأتي بعد هذا النفي زمن الحريّة وليتحوّل عمر ثائراً لبنانيّاً قصيدة وصوتاً، ملتزماً وجع الناس بشجاعة نادرة.

وإذا كان الدباس قد ضاق صدره بنقد الزعنّي، فإنّ الرئيس بشارة الخوري حرص على وجوده معه في معظم المناسبات وكان معجباً بشخصه وأغانيه ولقّبه بشاعر الاستقلال بعدما غنّى: «حيّا الله المخلصين / والأبطال اللبنانيّين.../ أجسادهم تحت التراب / أرواحهم فوق السحاب»... ولم يكتفِ الزعنّي بلبنان، فقصد الدول العربيّة متبنّياً كلّ قضيّة عربيّة لا سيّما قضيّة فلسطين التي عاش فيها ضابطاً ومعلّماً، وفيها أيضاً كان شهر عسله مع زوجته عريساً. وها هو بعد خسارة تركيا في الحرب العالميّة الأولى وإعلان وعد بلفور يغنّي: لو فَرَضنا المستحيل / وصحّت أحلام إسرائيل / وفازت الصهيونيّه / كبِّرْ عالإنسانيّه / وعالقرآن وعالإنجيل»، ويرفض أن يستوطن اليهود فلسطين بعد طردهم من أوروبا: «بأيّ شرع بأيّ دين / هاليهود المطرودين / تطردهم أوروبا / وتتحمّلهم فلسطين»...

ويرصد الزعنّي الانشقاق العربيّ الحادّ، ويرى أنّ كلاًّ من العرب يلتحق بقرار الغرب، ما يعني أنّ القرار العربي مفقود وأرض العرب مستباحة، والعرب بلا وجود فاعل تحت الشمس: «كلّنا بالظاهر إخوان / وبالباطن أشكال ألوان / ناس أتراك ناس ألمان / ناس إنكليز ناس طليان / مالنا غاية وقرار / ريشة وطايرَه بالهوا»...

في هذا السياق، يتجلّى عمر الزعنّي صوتاً صادقاً لأمّة رآها يتيمة، لأنّها انشقّت على نفسها واستعبدها حكّامها بالقمع وبسياسة السجون، ورهنوا حضورها للخارج ولم يساهموا في تطويرها وتحديثها وجعلها جزءاً حيًّا من العالم الحيّ.

التحق الزعنّي بحزب عشّاق جمال عبد الناصر، ومجّد الثورة المصريّة وحيّا ضبّاطها: «حيّا الله العسكريين / والأحرار والثائرين / هبّوا للموت الزؤام / حاملين أكفانهم أعلام»، وكأنّه بصوته يحرس مسيرة العربيّ نحو الحريّة والحضور الفاعل، فالانتصار يجعله منتشياً والهزيمة تحوّله رثّاء أحلام قوميّة بصدق وتأثّر لا يخفيهما الكلام المحمول على جناحَي الصوت الثائر. ورأى الزعنّي أنّ فلسطين لن يسترجعها سوى عبد الناصر فما أبطأ في دعوته إلى ذلك: «عبد الناصر يا جمال حولك رجاجيل / يابا /... حرّرْ لنا فلسطين / يابا»... أمّا في العراق فقد غنّى الزعنّي باللهجة العراقيّة وحصد إعجاب العراقيّين ملوكاً ورجال فنّ وشعباً: «بغداد يا بلد الرشيد / يا منارة المجد التليد / بغداد يا قلعة الأسود / يا بسمة... في ثغر الخلود»...

ولعمر الزعنّي عين رصدت المجتمع اللبناني وسجّلت تحوّلاته الاجتماعيّة، ولم تكتف بالغمز من قناة السلطة المقصّرة والمتّهمة. ففي بداية زمن السينما رأى أنّ الأخيرة أتت على حساب المستوى الفنّي، وأنّ المسرح انتهى لمصلحتها، وتراجع ألق الإبداع في الغناء والتمثيل وكأنّ الشاشة الكبيرة وحش يفترس الفنون وليس لديه البديل الراقي والمقنع: «ما عاد في شي إلو معنى / إن كان تمثيل وَلْلا مغنى /... عبد الوهّاب / كان نجمه غاب / عل مغنى تاب / لولا السينما»... وهذا الوحش نفسه يحترف صناعة النجوم السريعة، فيما ذهب المناضلون للوصول إلى عرش الفنّ بعرق الجبين والموهبة ضحيّة تكنولوجيا ينقصها العدل والمعرفة، لأنّها تعطي الشهرة مجّاناً لغير مستحقّيها: «وأمّ الغرّة / غنَّت مرّة / وصارت دُرَّة / وكوكب سينما».

ونظر الزعنّي إلى شبّان عصره فوجدهم فريسة المظاهر الحديثة، تغتالهم مدنيّة فارغة وحضارة مشوّهة، فهم يعتنون بالمظهر والأداء مكتفين من الدنيا بأن يكونوا «شِيك» وهم محاصرون بالفقر، ساكنون بيوتاً يشارك في ملكيّتها القهر والألم: «ما يغرَّك الشبّ الشيك / يللي معرَّم متل الديك... / كل مشروبو شامبانيا / بيتحمّم بالكولونيا / فتِّش بحبِش بتلاقيه / راهن بيته / مجوّع مرته / مْنَيّم أخته ورا الباب»...

الزعنّي إبن القيم اللبنانيّة، ولا يستطيع أن يغضّ النظر عن أيّ سلوك يخالفها، لذلك، وعلى سبيل المثال، نجده يخصّص أغنية لاذعة للبخيل الذي وصل في البخل إلى حدّ الاقتصاد في الكلام: «كان الحكي عنده غالي منّو رخيص»، وحتّى في عقد زواجه، وبعدما أمضى عشر سنوات لإيجاد عروس تليق ببخله، بقي صامتاً مثل الصنم وكلّف أحد الشهود ليقول عنه كلمة: «نَعَم» من دون أن ترفّ له عين: «يوم إكليله فِضِل واقف متل الصّنم / يسألوه: ما بيقول لا وَلا نَعَم... / خلّى واحد من شهوده يجاوب عنّه / قد ما هو على الحكي كان حريص»...

وإذا كان البخيل لم ينجُ من الزعنّي السخيّ في النقد على شجاعة فإنّ حديثي النعمة أيضاً علقوا في شبكة أغنيته ونالوا نصيبهم، إذ رآهم وصلوا بأساليب ملتوية إلى نِعم لا يستحقّونها فصاروا أسرى لها، وهم لا يعرفون حقّا كيف يتصرّف الأغنياء الذين يتمتّعون بأداء حياتي موروث يتلاءم مع واقعهم المادّيّ: «كان جلبوط وأشلاميش / وصار له لحم، وصار له ريش... / ريَّش عا أهون سبب / ما في علم ولا أدب / ولا في حسب ولا نسب / سعدان وله دنب / جلدُه محشي بالدّهب / ومش عارف كيف يعيش»...

عاش عمر الزعنّي مع الناس، وكان محامياً شريفاً يدافع عنهم بسيف الصوت مجّاناً، ويدّعي على ظالميهم مهما كان الثمن. وإذا كان لا بدّ من ذاكرة مشرِّفة للأوطان، فإنّه جزء نبيل من ذاكرة لبنان المتفرِّد تمسُّكاً بالخَلق والحرّيّة.

back to top