أم كلثوم... السيرة والأغاني (الحلقة الثانية) السيرة الشخصية... البداية من قرية طماي الزهايرة اقترحوا تسميتها خضرة... بدوية... ست الدار... نصرة... لكن والدها أصرّ على أم كلثوم
السيرة الشخصيةعندما كانت الخيوط الأولى لفجر القرن العشرين تلوح في الأفق، لم يكن المشهد الموسيقي – الغنائي العربي يبشر بأي من معالم النهضة الثانية الهائلة التي سيشهدها النصف الأول من ذلك القرن (بعد النهضة الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، مع أن كل نجوم تلك النهضة كانوا يومها قد ولدوا، أو هم على وشك أن يولدوا. ولكن من ولد منهم، كان ما زال عند ذاك دون العاشرة من عمره، بمن في ذلك أكبرهم سنا، سيد درويش ومحمد القصبجي، المولودان في العام 1892.
لم يكن المشهد إذن يبشر بأي ملمح من ملامح النهضة الموسيقية – الغنائية المقبلة، بل كان، على العكس من ذلك تماما، يحمل كل ما يدعو إلى التشاؤم، أو القلق على أقل تقدير.ففي أواخر العام 1900، توفي زعيم ملحني نهضة القرن التاسع عشر (محمد عثمان)، وقبل انتصاف العام التالي 1901، توفي زعيم مطربي تلك النهضة، وأحد أهم ملحنيها (عبده الحامولي).وقد بدأت تظهر بالفعل، بعد الرحيل المفاجئ المتزامن لهذين القطبين، أسئلة القلق الشديد على مصير الموسيقى والغناء العربيين.ولم يكن أشد المتفائلين يومها يحلم بذلك التسارع العجيب لخطوات النهضة الثانية المقبلة، مع متابعة سلامة حجازي لنشاطه في الغناء المسرحي حتى آخر يوم في حياته في العام 1917، ثم وصول الاختراع الأوروبي العجيب إلى مصر، اختراع التسجيل الصوتي على اسطوانات (ما بين العامين 1903-1904) وانطلاق كوكبة المذهبجية ومطربي الصف الثاني من أيام عبده الحامولي ومحمد عثمان، إلى تسجيل كل ما حفظوه من تراث القرن التاسع عشر على اسطوانات (ومن أبرزهم يوسف المنيلاوي وسيد الصفتي وعبد الحي حلمي وسواهم)، ثم الظهور الصاعق لسيد درويش، واندفاعه إلى إنجاز ثورته الموسيقية – الغنائية التى شكلت بعد ذلك العمود الفقري لنهضة القرن العشرين، في مدى زمني قياسي تم اختصاره في السنوات الست الممتدة بين 1917 و 1923 (وفاة سيد درويش)، ثم ظهور محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم مع كوكبة ملحنيها، ابتداء بأبي العلا محمد وداود حسني، واستمرارا مع محمد القصبجي وزكريا أحمد، فرياض السنباطي.من غرائب القواسم المشتركة بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، في رحلة التنافس الطويلة بينهما، مسألة إخفاء التاريخ الحقيقي لمولد كل من قطبي الغناء العربي في القرن العشرين. ومع أن بعض الأبحاث الجادة حاول حسم هذه المسألة، فأن الأمر بقي ملتبسا حتى يومنا، بدليل أن أكثر من جهة رسمية داخل مصر نفسها، تكرر منذ أعوام قليلة، إعادة الاحتفال في كل سنة بمئوية مولد عبد الوهاب وأم كلثوم. وقد بدأت هذه الاحتفالات في العامين الأخيرين من القرن العشرين، والأرجح أن تغطي عامين آخرين مع بداية القرن الجديد.ذلك أنه بالنسبة لمولد عبد الوهاب، المحدد في جواز سفره الرسمي بالعام 1910، فان نتائج أبحاث المؤرخين الجادين في هذا المجال، تتراوح بين الأعوام 1897 و 1900و1902. ِأما بالنسبة لأم كلثوم، فإن الأبحاث الجادة تتراوح نتائجها بين الأعوام 1896 و 1902 و 1904. ومن المهم الإشارة هنا، أنه باستثناء التاريخ الرسمي على جواز سفر محمد عبد الوهاب، الذي يرفضه كل البحاثة الجادين (لأنه يتناقض مع كل حقائق نشأة عبد الوهاب الفنية)، فان كلا من الاجتهادات التي حاولت حتى الآن تحديد تاريخ الميلاد الدقيق لأم كلثوم وعبد الوهاب، يستند إلى براهين وحجج معقولة.أما بالنسبة لأم كلثوم، فان أغنى المراجع عن حياتها الشخصية (الذي اعتمدناه، كما أعتمده مسلسل أم كلثوم التلفزيوني، مرجعا أساسيا في هذا الفصل من الكتاب) وهو بعنوان “أم كلثوم، وعصر من الفن”، للدكتورة نعمات أحمد فؤاد، يقدم معلومات تسهل كثيرا مهمة التحقق من تاريخ ولادة أم كلثوم، وإن كان لا يحسم هذه المسألة نهائيا.ففي كتاب نعمات أحمد فؤاد، أسطر قليلة عن تاريخ مولد أم كلثوم، نقتطف هنا أهمها:“ولدت أم كلثوم في ليلة القدر. وفي ليلة القدر من كل عام كانت الأم تحتفل بهذه الليلة احتفالا كبيرا وخاصا. وتظن الأسرة أن الاحتفال بالمناسبة الدينية وحدها، وإن كانت تحس أنه موسع .. ولم يدر أحد أن التوسعة لازدواج المناسبة، فأن ليلة القدر هي ليلة المولد أيضا، مولد أم كلثوم (…) وظلت الأسرة منذ ذلك التاريخ تحتفل بمولد أم كلثوم مرتين في العام: مرة في ليلة القدر، وتعتبره مولد المعجزة، ومرة في 31 ديسمبر، وتعتبره مولد الانسانة”.وقد اجتهد الباحث فكتور سحّاب بعد ذلك في التقاط هذه الإشارات الهامة عن مولد أم كلثوم، وحاول ترجمتها إلى أرقام دقيقة، فوجد في بحثه في الجدول التاريخي لمقارنة السنوات الميلادية بالسنوات الهجرية، أن ليلة القدر لم تتطابق (في السنوات المحتملة لولادة أم كلثوم) مع نهاية السنة الميلادية، وأن السنة التي كانت فيها الليلتان (ليلة القدر، وليلة نهاية العام الميلادي) أكثر اقترابا من بعضهما البعض، هي السنة 1902، حيث صادفت ليلة السابع والعشرين من رمضان في تلك السنة، ليلة التاسع والعشرين من ديسمبر، آخر شهر في السنة الميلادية .وهكذا، فإننا نقترح من الآن وإلى أن يصل الباحثون إلى تحديد علمي ثابت وموثق ونهائي لتاريخ ميلاد قطبي الغناء العربي في القرن العشرين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، اعتبار ولادتهما مترافقة مع ولادة القرن العشرين، فنكون بذلك قد اقتربنا إلى أدق مسافة ممكنة من التاريخ الحقيقي لمولدهما. كما أن هذا الاقتراح يسمح لنا في هذا الكتاب (وهذا هو الأهم) أن لا نجافي الدقة التاريخية، عندما نضع أم كلثوم في مواقعها على خريطة التحولات الاجتماعية والفنية، في مصر وفي القاهرة، في القرن العشرين.إن سيرة أم كلثوم، الشخصية والفنية، لم تكتسب أهميتها التي تستدعي بذل أقصى الجهود الممكنة في استقصاء تفاصيلها وتدوينها وتفسيرها وتحليلها، من مجرد كونها أعظم مطربات مصر والعرب في القرن العشرين (على أهمية هذا العامل، وكفايته لإدخال أم كلثوم سجل عظماء التاريخ العربي المعاصر)، ولكن سيرة أم كلثوم الشخصية تكتسب أهميتها من عامل آخر، لا يقل أهمية، بل ربما يكون أشد إثارة لاهتمام علماء الاجتماع، وهو أن أم كلثوم خرجت من إحدى أصغر قرى الريف المصري، وأقلها شأنا وأهمية، ومن أسرة عادية مثل أقل أسر الريف المصري شأنا اجتماعيا، وتمكنت مع ذلك، بمواهبها الفنية المولودة معها، وبحسن تصرفها (وتصرف والدها) في إدارة هذه المواهب وتنميتها وصقلها، ليس فقط من إيجاد موقع فني لها في القاهرة، عاصمة الحضارة والثقافة العربية بامتياز في ذلك الزمن، بل تمكنت، بعد ذلك، واعتمادا على مضاعفة قيمة مواهبها الفنية، من الارتقاء في السلم الاجتماعي، حتى تربعت على إحدى ذراه، وبقيت محافظة على الذروة الفنية، مع كل تقلبات السن التي لا ترحم، كما حافظت على الذروة الاجتماعية مع كل التقلبات السياسية والاجتماعية، من مصر الملكية، إلى مصر الجمهورية الثورية. نحن إذن، مع أم كلثوم، أمام شخصية ذات أهمية مركبة، لا بد لتحليل كل عناصر هذه الأهمية، من سبر أغوار سيرتها الشخصية، وسيرتها الفنية، على حد سواء.أ- المولد والنشأة الريفيةولدت أم كلثوم (وهذا أسمها الحقيقي، وليس اسمها الفني) في قرية تدعى «طماي الزهايرة»، من قرى الوجه البحري في مصر، وهي تقع شمالي القاهرة، على مسافة تمثل ما يقارب منتصف الطريق بين القاهرة والبحر الأبيض المتوسط شمالا.ويبدو أن الاسم التاريخي القديم للقرية هو «طمية»، تطور إلى طماية، كما يشير كتاب «التحفة الفنية بأسماء البلاد المصرية» لابن الجيعان. وقد حملت اسمها الحالي «طماي الزهايرة» منذ منتصف القرن التاسع عشر، نسبة إلى جماعة من العرب يعرفون ببني زهير، نزلوا بها.وعند ولادة أم كلثوم، لم يكن يميز هذه القرية سوى بيت العمدة، وكتّاب الشيخ عبد العزيز.والد أم كلثوم هو إبراهيم السيد البلتاجي، مؤذن مسجد قرية طماي الزهايرة. وكان إلى جانب تلاوة الآذان في مواعيد الصلاة، ينشد التواشيح الدينية. أما والدتها فتدعى فاطمة المليجي. وقبل ولادة أم كلثوم، كان إبراهيم وزوجته فاطمة يتوقعان ولادة صبي ثان لهم، يكون أخا لابنهما خالد.وفي كتاب الدكتورة نعمات أحمد فؤاد عن سيرة أم كلثوم، رواية عن لحظات ولادة أم كلثوم، وعملية اختيار اسم لها، لا تشير صراحة إلى مصدرها، مما يدفع للاستنتاج بأنها سمعتها من أم كلثوم شخصيا، نظرا للعلاقة الحميمة الطويلة التي كانت تربطهما، كما أن الكتاب حافل بتفاصيل حميمة جدا عن حياة أم كلثوم (خاصة قبل انتقالها إلى القاهرة) تشير المؤلفة إلى سماعها مباشرة من أم كلثوم.تقول الرواية أن الشيخ إبراهيم البلتاجي، كان يتهجد في المسجد ليلة السابع والعشرين من رمضان (ليلة القدر)، «فأخذته سنة من النوم، فرأى في المنام سيدة تجللها الثياب البيض، ويشع وجهها نورا. وتقدمت منه السيدة، وأعطته لفافة خضراء، فلما فتحها متهيبا، وجد في داخلها شيئا له بريق يخطف الأبصار، فسأل السيدة عما بيده، فقالت: هذه جوهرة، وبشرى السعد، حافظ عليها. والتفت إليها الرجل وهو لم يفق من دهشته بعد، يسألها متوسلا عمن تكون، فقالت: أنا أم كلثوم، بنت النبي محمد».إصرار على الاسمويبدو أن الشيخ إبراهيم قد قرر منذ تلك اللحظة أن يطلق اسم أم كلثوم على المولود، إذا كان بنتا، وهذا ما فعله، برغم مجموعة من الأسماء اقترحتها نسوة القرية عند ولادة البنت: خضرة، بدوية، ست الدار، وهي من الأسماء الشائعة حينذاك في الريف المصري، إضافة إلى اسم «نصرة»، اقترحه شقيق الشيخ إبراهيم، الشيخ عبد النبي، نسبة إلى والدته، التي يعود أصلها إلى الشيخ الباز العارف بالله، وهو من الأولياء الصالحين .ومن الأحداث الهامة التي تستحق التسجيل، في الأيام الأولى لحياة أم كلثوم، أنها أصيبت في عينيها بعد مرور أربعين يوما على ولادتها، فباعت أمها مصاغها، حتى تتمكن من الإنفاق على علاج عيني ابنتها الوليدة في القاهرة. ولهذا الحادث المبكر علامة مبكرة على تفصيلين هامين في حياتها بعد ذلك، أولهما أن تصرف والدتها حفر في نفسها شعورا بالامتنان العميق،ظل يميز علاقتها بها وهي في قمة نجاحها الفني والاجتماعي، خاصة إذا ما قورن تصرف والدتها بالإهمال الذي كانت تحاط به البنات الوليدات – في ذلك العصر- تعبيرا عن الضيق الذي كان يصيب الوالدين، في الغالب، عند ولادة البنت، في مقابل الاستبشار الذي كان يحيط بمولد الصبي. ولم يكن تصرف الوالدة في مشكلة المرض الذي أصاب عيني أم كلثوم وهي في اليوم الأربعين من عمرها، هو الأول والأخير، في سجل الرعاية الخاصة التي أحاطت بها فاطمة المليجي ابنتها “أم كلثوم”، كما سنرى في الصفحات التالية. وستصبح علاقة أم كلثوم المميزة بوالدتها (إضافة إلى والدها) من العلامات المميزة لحياتها، حتى وهي في قمة صعودها الاجتماعي والفني، وجزءا من الحياة الخاصة لأم كلثوم، التي أحاطتها بأسوار عالية بعيدا عن الصحافة والاعلام، وذلك كأحد التفاصيل المعبرة عن الازدواجية التي لم تفارق شخصية أم كلثوم، بين حياة الريف وحياة المدينة العاصمة.أما التفصيل الثاني في حياة أم كلثوم، المتعلق بحادثة المرض الذي أصاب عينيها وهي لما تتجاوز الأربعين يوما من عمرها، فهو أن أم كلثوم قد عانت بعد ذلك من مشكلات في عينيها، وهي في ذروة شهرتها الفنية والاجتماعية، على فترات متقطعة، وهي المعاناة التي كانت تتطلب من أم كلثوم وضع النظّارات السود الكبيرة التي كانت تستعملها في فترات لاحقة من حياتها.بعد ذلك، بدأت علاقة أم كلثوم الأولى بالأنغام والغناء، بشكل عفوي بدائي، ما كان أبدا ليستحق التسجيل، لولا أن صاحبته قد تحولت إلى أعظم مطربات العرب في القرن العشرين.كانت الطفلة في بيتها تستمع خلسة إلى التمارين التي كان يقوم بها والدها، لإتقان التواشيح الدينية التي سينشدها في مناسبة من المناسبات، أو يقوم بتلقين ابنه البكر خالد عليها، وقد كان يعده لمساعدته في مهمته، ولخلافته فيها عندما يطعن في السن. أما خارج بيتها، فكانت تطرب لسماع زقزقة العصافير في افنان شجرة الجميز القريبة من منزلها، وتتابعها في ذلك باهتمام خاص.وتورد نعمات أحمد فؤاد في كتابها أول قصيدة عاطفية غنتها أم كلثوم في قريتها، بالنص التالي: عصافير، يحسبن القلوب من الحبفمن لي بها عصفورة لقطت قلبيفيا ليتني طير أجاور عشهاأغرد في جنب، وأمرح في جنبأما النص الثاني الذي يذكره الكتاب، على أنه أهزوجة كانت تهزج بها أم كلثوم مع بنات قريتها في أيام الحصاد أو جني القطن، فتغني وهن يرددن من ورائها:أبويا زرع لي جنينة كلها برتقال، خالصأسرح وأروح، وألاقي البربري، حارسوالنبي يا بربري لابيعك، وأسدّدين الوسية، وأطلع من البلد خالص .ويبدو أن ناظر العزبة مرقص أفندي، كان أول أفراد جمهور أم كلثوم في ذلك الزمن المبكر (وهو جمهور سيصبح تعداده بالملايين بعد ذلك)، فيصرخ في البنات، وهو يقارع القيظ الشديد، أن لا تنزل أم كلثوم إلى الغيط (الحقل)، وما أن تظن البنات ذلك تعبيرا عن غضب ناظر القرية من أم كلثوم، حتى يتابع موضحا: “لا، أنا عاوزها تروح عندنا البيت، عشان الجماعة يسمعوها”، أي زوجته.ويبدو أن هذه الرواية مستندة إلى ذكريات أحد شيوخ قرية طماي الزهايرة، الذي جاوز التسعين من عمره عند روايتها (ظهر كتاب الدكتورة نعمات أحمد فؤاد عن أم كلثوم في العام 1976)، وهو يذكر طفولة أم كلثوم، وعينيها اللتين “تنط منهما الزكاوة”، أي الذكاء .ومن روايات بسيونة، جارة أم كلثوم في حارة القرية، وزميلتها في الكتّاب، “أن أم كلثوم كانت في طفولتها تقضي ليالي الصيف على سطح بيتها، تغني بصوتها الحاد، ويرافقها والدها بالإيقاع على آنية من أواني الدار” .وبما أن كل أسر القرية، كانت تقضي أمسياتها على أسطح منازلها في ليالي الصيف القائظة، فيتبادلون أحاديث السمر، كما يشاركون في الاستماع إلى غناء الطفلة الموهوبة أم كلثوم، فقد بدأ بعضهم يتنبه إلى حلاوة صوتها، ومنهم من يعتبر غناءها مجرد تسلية، ومنهم من يفضل صوت شقيقها خالد على صوتها.وهكذا كانت الأيام الأولى في طفولة أم كلثوم موزعة بين الاستماع إلى الأناشيد الدينية من والدها وشقيقها داخل البيت، واللعب بالعروسة التي خاطتها لها جدتها نصرة، وحشتها قطنا، ورسمت لها وجها ساذجا، ولكنه كان يثير إعجاب الطفلة أم كلثوم، ويجعلها تكاد تطير من الفرح.هدايا العيدومن ذكريات طفولة أم كلثوم عن أيام الطفولة الأولى الفقيرة البسيطة، كما روت نعمات أحمد فؤاد، أن هدية العيد كانت تختصر في “جلابية وجزمة” (حذاء)، وغالبا ما يكون الحذاء ناشفا ضيقا، أو واسعا أكثر من المطلوب. وتتابع أم كلثوم: “طبعا، كنت أضعه تحت المخدة، وألبس الشراب (الجوارب) الجديد، وأنام ليلة العيد وأنيم الجزمة الجديدة معايا، ومع الفجر نصحى منتظرين العيدية.. يدونا أكل، ولكن كنا عايزين فلوس عشان المراجيح”. وعندما تسأل أم كلثوم عن ذكرياتها عن أول فستان لبسته في أعياد تلك الأيام، تقول : “مش فستان، دا كان جلابية بكورنيش، قماشه شيت، ملون أخضر وأحمر.. ألوان الموضة بتاعة الأيام دي”.وتصف أم كلثوم أيام رمضان، كما عاشته في طفولتها في القرية: “كنا نلم بعضنا واحنا عيال، نغني لرمضان واحنا ماسكين صفايح ندق عليها. ما كنش في بلدنا مدفع رمضان.. ولكن كان فيه مسحراتي ما كانش فيه فوانيس ملونة نلعب بيها”..ومن ذكريات أم كلثوم عن أيام رمضان في طفولتها، أنها عند ما كانت في الرابعة من عمرها ، كانت تدعي الصيام، طمعا في أن تصحو مع الكبار عند السحور، لتشاركهم الطعام اللذيذ والحلوى. وتؤكد أن أهلها كانوا يدركون تماما أنها لم تكن صائمة، ولكنهم يدّعون تصديقها. ومع أن والدتها كانت ترجوها أن تواصل نومها فلا تفيق عند السحور، وتعدها بالاحتفاظ بحصتها من الأطايب لليوم التالي، غير أنها لم تكن تصدق هذا الوعد، وتفضل الصحو مع الكبار عند السحور. غير أنها بدأت بالفعل صيامها الحقيقي في رمضان، عندما بلغت السابعة من عمرها.إذن للوهلة الأولى، طفولة عادية جدا كما في أي قرية عربية فقيرة، أو حي فقير في أي مدينة عربية في تلك الأيام. غير أن شيئا ما غير عادي كان قد بدأ يتكون داخل كيان أم كلثوم الطفلة، فالفنان الكبير (في الموسيقى أو الغناء أو الرسم أو الشعر، أو سواها من الفنون) يولد بحساسية غير عادية، وهو جنين في بطن أمه، وتبدأ حساسيته غير العادية هذه، بتلقي الإشارات الفنية الباكرة وتخزينها، بانتظار الموعد المضروب، لتفجر هذه الموهبة (أو هذه العبقرية، في حالتنا هذه) عندما تتيح لها الظروف أن تعبر عن نفسها.فقد بدأت أم كلثوم الطفلة، وهي في الخامسة من عمرها، “تتلصص” على جلسات أبوها الشيخ إبراهيم، وهو يعلم أخاها خالدا قصة المولد النبوي، ويحفّظه القصائد والتواشيح الدينية. ولاحظ الوالد ذات يوم، أنه في مقابل بطء خالد في حفظ التواشيح الدينية، كانت أم كلثوم، من موقعها في التلصص، تردد ما حفظته من إنشاد أبيها بسرعة ملفتة للنظر.كانت هذه، المحطة الجدية الأولى في اكتشاف الموهبة غير العادية للفنانة الكبيرة، وهي لم تزل في الخامسة من عمرها. وبدل أن ينهرها أبوها، كما كانت الطفلة تتوقع، دعاها إلى مشاركته في حفلة شيخ البلد (أول حفلة فنية في حياة أم كلثوم). والغريب أن الطفلة لم تفرح بهذه الدعوة، بل أصرت في البداية على عدم تلبيتها. وبدأ الشيخ إبراهيم يستعرض “أسلحة الأغراء” التي يملكها لإخراج الطفلة من حالة العناد، وكان صحن المهلبية أشد هذه “الأسلحة” فعالية. وستظل أم كلثوم طيلة حياتها، تحتفظ باشتهاء خاص لصحن المهلبية، كما ظلت تصرح في مقابلاتها الصحفية.وفي عملية يمكن أن نطلق عليها “ البروفة” (التمرين) لتلك الحفلة الفنية الأولى، راح أبوها يدفعها إلى أن تسمعه ما حفظته من جلسة التحفيظ الأخيرة لشقيقها خالد، فإذا بها تندفع كالسيل العارم، تسمعه كل ما التقطت أذناها من جلسات تحفيظ خالد، جديدها وقديمها. فأصاب الشيخ إبراهيم ذهول شديد، جعله يحصّن طفلته بتلاوة آيات من القرآن الكريم، تقيها شر الحسد.كان جمهور حفلتها الأولى يتكون من خمسة عشر شخصا، وكان ذلك “زحاما شديدا” بالنسبة “للفنانة” الصغيرة. وبينما حاول أبوها إجلاسها إلى جواره لتبدأ بالإنشاد، رفضت أم كلثوم ذلك، وأصرت على الوقوف على “الكنبة”، قبل أن تنطلق في غناء عفوي متدفق لخمس دقائق متواصلة، نالت عليه تصفيقا حارا من جمهورها الأول.وقد دفع ذلك النجاح المبكر الشيخ إبراهيم إلى تكليف أحد مشايخ البلدة بعمل حجاب للطفلة يقيها شر الحسد، وظلت تحتفظ بذلك الحجاب، وتتفاءل به.لم تكن تلك هي حفلتها الفنية الأولى فقط، ولكنها كانت محطة خروج أم كلثوم من الطفولة المنطلقة بعفوية كاملة، المتجلببة بالجلابية الملونة الزاهية، ودخولها مرحلة الاحتشام، شأنها في ذلك شأن والدتها وجدتها، وسائر نساء القرية، مرتدية الجلابية الفضفاضة الطويلة حتى تجر جر أذيالها على الأرض، وعلى رأسها الطرحة السوداء.إلياس سحابغــــــــــــــــــــــــــداالإنشاد والانتقال الى القاهرة