المافيا...دولة المال والدم

نشر في 11-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 11-08-2010 | 00:00
إذا كانت منظّمة الأمم المتحدة تضمّ عشرات الدول التي تم الاعتراف بها، فإن التاريخ الحديث يسجّل قصصاً لدول قامت ثم انهارت أو تعثّر إعلانها أو الاعتراف بها، إلا دولة واحدة ظلت قائمة ومحظورة في الوقت نفسه. إنها دولة من دون طابع بريد أو عملة، ولا تبحث عن اعتراف رسمي ربما لأن المنتمين إليها يجزمون قطعاً بأن دولتهم قائمة ولا تحتاج الى اعتراف، وبالقوة وحدها يفرضون حدودها التي تتسع وتفرض هيمنة من نوع خاص على العالم بأسره، بطلها ثالوث المال والجنس والمخدرات، لدرجة جعلت أحد الصحافيين يقول إن «الشيطان يشعر بالغيرة والضعف أمام رجال المافيا الذين نافسوه وتجاوزوه».

وعلى مدار الحلقات المقبلة، نشارككم كل ما يتعلق بالمافيا التي تتراوح سيرتها بين الواقع والأسطورة.

تعدّدت القصص والروايات التي اختلفت في ما بينها، لكنها اتفقت جميعاً حول مسرح الأحداث الذي شهد بداية «المافيا» في جزيرة صقلية (سيسيلي)، أو «الصخرة الكبيرة» المزروعة في قلب البحر الأبيض المتوسّط ما بين أوروبا وإفريقيا.

- القصة الأولى: تؤكد ظهور المافيا بعد غزو الفرنسيين لجزيرة صقلية، واحتلالها في مايو (أيار) 1282 ورداً على ممارسات المحتل الفرنسي التي أثارت غضب أهل صقلية الذين لم يكونوا قد انضموا إلى إيطاليا بعد، فأقسم رجل يدعى جان بروسيدا من باليرمو العاصمة على تحرير جزيرته وكوّن مع مجموعة من السكان المحليين منظّمة سرية لمكافحة الاحتلال، تحت اسم Morte alla francia Italia anela، وتعني «موت الفرنسيين هو صرخة إيطاليا» أو بمعنى آخر «إيطاليا تتمنى الموت لفرنسا»، ليشكّل مجموع الحروف الأولى كلمة «مافيا»، التي صارت رمزاً للجماعات السرية التي تعمل لخدمة قضايا وطنية. وعلى رغم تشكيك البعض في تلك الرواية لأن إيطاليا كدولة متّحدة لم تكن قد نشأت بعد، إلا أن الرواة يخبرون بأن جميع الفرنسيين الذين وُجدوا على الجزيرة في تلك الفترة قُتلوا في ظروف غامضة قبل أن تتحرّر صقلية، ويسيطر عليها جان بروسيدا ورجاله.

- القصة الثانية: جاءت على لسان جوزف جوبونانو في كتابه «رجل الشرف»، الذي ذكر أن بداية المافيا جاءت متزامنة مع عصيان أهل صقلية سنة 1282 ضد الغزاة الفرنسيين في أسبوع الآلام قبيل عيد القيامة. يقول جوبونانو إن عملاء المالية رابطوا أمام كنائس العاصمة باليرمو قبل الصلوات المسائية لاعتقال المتخلّفين عن دفع الضريبة، وفيما كانت حسناء صقلية متوجّهة مع والدتها إلى الكنيسة هاجمها جندي فرنسي بحجة مساعدة عملاء المالية وسحبها إلى ما وراء الكنيسة ليعتدي عليها فما كان من والدتها إلا أن راحت تصرخ: ابنتي ابنتي، Ma fia Ma fia، ما أشعل النار في صدور الصقليين الذين اتخذوا من صرخة المرأة شعاراً لهم ورمزاً للأرض المغتصبة، ليمتد لهيب الغضب إلى مدن أخرى، وهذا التفسير الذي يفضّله زعماء المافيا لما في القصة من نبل ووطنية وغيرة على النساء والأرض والمقدّسات.

وربما كان ذلك السبب وراء رواية ثالثة بنكهة القهوة العربية لنشوء المافيا، ذكرها د. أسامة شعلان في الموسوعة المصغّرة على لسان باحث أميركي يزعم أنها كلمة عربية الأصل «مفيأي»، أي ملاذي أو الملجأ. يدّعي الباحث أن العرب المسلمين حين فتحوا صقلية في جنوب إيطاليا في القرن التاسع الميلادي اضطر كثير من أهالي الجزيرة إلى الهروب والاختباء في المناطق الجبلية، ثم شكلوا مجتمعاً سرياً من عائلات وقبائل متماسكة في ما بينها، وتكرّرت الحال عندما غزا الفرنسيون الجزيرة، إذ كان الأهالي يساقون إلى العمل في الأراضي التي وضع الغزاة أيديهم عليها، ومن ثم يهربون إلى الجبال مشكّلين مجتمعات سرية مجدداً.

ثمة روايات أخرى يذكرها بعض الكتب، ومنها أن ظهور تلك الجماعات السرية المنظّمة بدأ في عام 1860، عندما كانت إيطاليا الحالية مقسّمة إلى إمارات ومقاطعات منها جزيرة صقلية، التي كان يدير شؤونها عدد من العصابات المعروفة باسم «لاتيفوندي» التي بسطت سيطرتها على القرويين الفقراء في قرى النبلاء والأمراء الذين أوكلوا لرجال «لاتيفوندي» مهمة تنظيم العمل، خصوصاً في المقاطعات الغربية من صقلية، والتي تضم باليرمو وأجريجانتي وتراباني، فالجبال وعرة والأراضي قاحلة والمساكن الفقيرة تتراكم فوق المرتفعات، وسكانها يستيقظون مع الفجر ساعين وراء لقمة العيش في الحقول. لكنّ هؤلاء القرويين عرضة للمستغلّين والمستبدّين، وقد تفشت فيهم الأمية والجهل والمرارة، فيما الأمراء والنبلاء يولّون عليهم وعلى أراضيهم وكلاء لينصرفوا هم إلى حياة اللهو والترف في روما وباليرمو ونابولي. شكّل هؤلاء الوكلاء نواة المافيا الأولى التي بدأت عهدها في الريف كفتوات أو «قبضايات»، ليصير هؤلاء أسياداً فعليين للأرض. ففرضت تلك العصابات نظمها وأرست قواعد صارمة لدفع الجباية، والويل لمن كان يحاول التمرّد على حماية الوكلاء، وراحوا يفرضون إرادتهم على ملاك الأراضي أنفسهم حتى صاروا قوة لا يستهان بها وتطوّر اسمهم إلى «المافيا». فلم يعد باستطاعة أحد أن يرعى مواشيه أو يحصد قمحه من دون أن يدفع، وقد يستيقظ ذات صباح ليرى محصوله قد أُفسد، وهذا الإنذار الأول، أو مواشيه وقد قُطعت شرايينها كي تموت ببطء، وهذا الإنذار الثاني، أما الإنذار الثالث والأخير فهو القتل على يد رجال ملثّمين

بـ «الذئبية»، بندقية قصيرة يستخدمها القرويون عادة لقتل الذئاب التي تهاجم قراهم ومواشيهم.

تشير بعض الإحصاءات إلى أن آلاف القرويين راحوا ضحية عصابات «لاتيفوندي» ما بين عامي 1900 و1925. ومع الوقت أخذت المنظمة تمتد إلى معظم الطبقات الاجتماعية في صقلية وعرفت أيضاً باسم «أومو» وتعني الرجل بالإيطالية، للدلالة على ذكورية المنظّمة التي ظلت حكراً على الرجال لعقود.

تشير رواية أخرى إلى أن كلمة «مافيا» برزت للمرة الأولى عام 1863 بعد عامين من إنشاء مملكة إيطاليا وانضواء صقلية تحت علم الوحدة الإيطالية على يد جوزيبي غاريبالدي، محرر صقلية ونابولي من حكم آل بوربون (1860)، وهذا ما فجّر مشكلات تتعلق بالضرائب وعدم عدالة التوزيع التي لم تأخذ في الاعتبار خصوصية وضع الجزيرة وسكانها الفقراء، إذ كانوا يدفعون الحصة نفسها التي تدفعها مقاطعة «لومبارديا» الشهيرة بغناها وتقدّم اقتصادها. وأخيراً فرض الحكم المركزي رسوماً جمركية على التعامل التجاري مع فرنسا حمايةً للاقتصادات الإيطالية الناشئة، ولم ينتبه لوضع المزارعين في الجنوب من مصدّري النبيذ والحمضيات إلى فرنسا التي اضطرت الى معاملتهم بالمثل فأرهقتهم. آنذاك واصل رجل يدعى جوزيبي ماتزيني نشاطه متمرداً على توحّد بلاده تحت قيادة فيكتور إيمانويل الثاني، ملك سيردينيا، فسعى إلى القيام بثورة في باليرمو عام 1870م، جمع فيها مسلحي الجزيرة لينشئ جيشاً موحداً، حين بات الكثير من القبضايات من دون عمل لتولد المافيا وتكبر. وقد استغل ماتزيني حالة الفوضى التي تعيشها الجزيرة وخبرات الرجال الأقوياء العاطلين، وجمعهم تحت لواء عصابة واحدة منظّمة بإرادته، واختار لنفسه شعاراً طريفاً وهو «ماتزيني يسمح بالسرقة والحريق والتسمم»، ومن هذا الشعار الجديد ظهرت كلمة «مافيا» لتبدأ ولادة المافيا التي نمت صغيرة كلعبة على شواطئ صقلية، لكنها كبرت وتوحشت وأصبحت مرادفاً للموت. وفي مطلع القرن العشرين، وفي الولايات المتحدة بالذات، بدأت الكوزا نوسترا، إسم المنظمة الإيطالي، أولى عملياتها الكبرى من إدارة أعمال تهريب وميسر ودعارة ومخدرات، بالإضافة إلى فرض الإتاوات على التجار والأثرياء.

مقابل هذه القصص التي ذكرناها، ثمة من يهدم المعبد عليها كلّها مؤكداً ألا تاريخ لما يُعرف بالمافيا، وإنما هي روايات اخترعها رواة وروّجها سكارى ووقف وراءها مستفيدون اتفقوا في ما بينهم على السير في طريق الجريمة يجمعهم الانتماء والوفاء لكيان استعاضوا به عن الوطن والعائلة.

المافيا بالإيطاليّة

في منتصف القرن الماضي، ظهرت كلمة مافيا Mafia في القواميس الإيطالية، وكانت تعني «الشجاعة والكرامة». ويقال إنها كانت تعني الكبرياء وعزة النفس في اللغة الصقلية الفصحى. ويرجع بعض الباحثين اشتقاق كلمة {مافيا» اللغوي، إلى مصطلح توسكاني قديم يعني كلمة «بؤس أو فقر»، ويرى آخرون أنها كانت تُطلق على السحرة المهرطقين عشاق السلطة. أما اللغة الصقلية الدارجة كما يقول عالم الاجتماع جوزيبي بيتري في سنة 1889، فإنها تستخدم الكلمة نفسها للرمز إلى الرشاقة والكمال والى دلال الأنثى وجاذبيتها، والى عبارة الغزل التي كان يستعملها الشاب الصقلي لمغازلة فتاة هي مافيوزي ددا مافيا (Mafiuse Dda Mafia)، أي «كم أنت جذابة، ذات دلال». وعلى رغم تلك التعريفات فإن الكلمة نفسها مجهولة الأصل، وإن استخدمت لقرون في صقلية للتعبير عن فساد الحكم وغياب السلطة في أثناء الاحتلال الفرنسي للجزيرة.

في عام 1838، استُخدمت الكلمة بدلالة ذات بعد إجرامي في أحد التقارير القضائية، الصادرة عن محكمة تراباني (Trapani)، للإشارة إلى إحدى الجماعات الإرهابية السرية الخطيرة، التي تستخدم كل الوسائل للوصول إلى أهدافها. إلا أن مصطلح «مافيا»، أصبح يمثل تنظيمات ومجموعات من العائلات الإجرامية المسلحة، التي تهدف إلى مقاومة الخارجين عن طوعهم وقانونهم والمتمردين على سلطاتهم. وهم يقصدون بذلك الدولة وقوانينها، التي لا تناسب تنظيمهم الإرهابي، وطوائف الشعب التي ما زالت متمسّكة بمبادئ الأخلاق والفضيلة.

في عام 1922 استغلّ الحكم الفاشي سمعة المافيا السيئة ووضع قوانين استثنائية للتخلّص من زعماء العائلات أو العصابات بالسجن لمدد طويلة، غير أن الفاشيين استغلّوا الفرصة للتخلّص من معارضيهم الشرفاء في الجزيرة بزعم انتمائهم الى تلك الجماعات، ما ساهم في خلق تيار من التعاطف مع رجال المافيا الذين طالما اتبعوا القاعدة الصقلية المعروفة: «يجب أن تبقى الأمور الصقلية محصورة بين الصقليين، وتبقى الشؤون العائلية ضمن نطاق العائلة»، فالقاضي أو الشرطي يظلّ شخصاً غريباً، وبالتالي عدواً. وحتى لو قامت الشرطة بواجبها على أكمل وجه وأخذ القضاء مجراه الطبيعي والقانوني، يبقى القاضي أو الشرطي شخصاً غريباً عن صقلية التي احتضنت الجريمة بين جانٍ ومجنىً عليه، وبالتالي يعتبر كل من يتدخل في الأمر غريباً وعدواً، وهذا ما رصدته تقارير عدة لحوادث إطلاق نار في باليرمو، على مرأى الجالسين في المقاهي ومسمعهم، من دون أن يتحرّك أحد من مكانه، أو يثلج صدورالمحقّقين بإجابة شافية.

كانت هذه الطريقة متّبعة حتى وقت قريب، ففي عام 1991 وقعت في قرية فافارا 150 جريمة قتل، ورجل واحد فحسب في تلك السنة مات في القرية ميتة طبيعية عن عمر يناهز الثمانين. وتعد قرية «برانكاسيو» في ضواحي باليرمو أحد أشهر أمثلة الثأر والانتقام لما حدث بين عائلتين دام قتالهما 12 سنة ولم يبق منهما على قيد الحياة إلا سبعة ذكور.

ماركة مسجّلة

على رغم الأحداث المتوالية والأزمات الدموية التي حصلت في تاريخ المافيا الإيطاليا على مدار قرنين من الزمن، إلا أنه حتى الآن ما زال المافيوزي الإيطالي الأصل يشعر بالفخر لكونه ابن المافيا الإيطالية التي حرّمت في بدايتها الانتساب الى جماعات المافيا لمن لم يكن من أصل إيطالي. ولم يكن الأصل هو الشرط الوحيد، بل يشمل أيضاً اختبار الجرأة، في قتال فردي بالسكين، سلاح المافيوزي الأول والأساسي في تلك الفترة.

مع تطوّر الأسلحة بمرور الزمن، حرصت المافيا على ملامح تميّز أخرى تمثلت في أدوات ارتبطت لعقود بأفرادها، ومن بينها بندقية «الليبورا» التي عرفتها مافيا الكوزا نوسترا في صقلية، وتسمى أيضاً «الذئبية»، وقد طُوّرت لتصبح بندقية المافيا، وهي تعد أحد الابتكارات الفريدة في عالم الجريمة. تتكون البندقية التي تشبه المنشار من يد صغيرة وعريضة، وماسورة يبلغ طولها حوالى 40 سم، وطرف سفلي عريض وحاد يمكن استخدامه كسكين، ولها مفصل مثبت بين اليد والماسورة بحيث يمكن طي الماسورة ناحية اليد كالمطواة كي تُحمل بسهولة في داخل السترة. ظلت تلك البندقية سلاحاً تقليدياً لرجال المافيا في صقلية، ومنها انتقلت إلى الولايات المتحدة، حيث أشاد الكثيرون بفاعليتها سواء في القتل أو في الذبح، ذلك على رغم بدائيتها. لكن توقفت جماعات المافيا الحديثة عن استخدام هذه البندقية مع ظهور أسلحة أسرع وأخف وزناً.

وإلى جانب البندقية التقليدية، اشتهرت عائلات المافيا بعرباتها الفورد السوداء ذات الطابع الكلاسيكي التي يرجع الفضل في تجهيزها إلى «فيل الديريزيو»، أحد مجرمي شيكاغو، الذي عمل عند تصميمها على تزويدها بكل ما يخدم الجريمة ما ساهم في سرعة انتشارها في ولايات أخرى. فضلاً عن لونها الأسود، تشتمل السيارة على «تابلوه» في داخله ثلاثة محولات، اثنان منها لفصل الأضواء الخلفية كي لا تتمكن عربات الشرطة من تعقّبها ليلاً. أما المحول الثالث فكان يستخدم لفتح وغلق ديوان أو صندوق خاص ملحق بمسند ظهر الكرسي الأمامي حيث توضع بداخله البنادق والرشاشات والمسدسات والسكاكين. وكانت السيارة إلى جانب ذلك فائقة السرعة وسهلة الانطلاق، ما سهل لها الاختفاء من مسرح الجريمة في ثوان وهذا ما دفع رجال المافيا الى الاعتراف بفضل تلك السيارة على مسيرتهم.

ومن الطريف أن الشرطة الأميركية سارت على خطى جماعات المافيا باستخدام سيارات مماثلة في أثناء مهامها البوليسية، ولكن سرعان ما انتهت أسطورة سيارة المافيا السوداء أمام التكنولوجيا الحديثة التي ساهمت أيضاً في تطوير رجال المافيا لأدواتهم. وبانتصاف القرن العشرين، تبادلت جماعتا المافيا في إيطاليا وأميركا الخبرات، إذ أخذت المافيا الصقلية عن «ابنتها» المافيا الأميركية كثيراً من أساليب العمل والاصطلاحات في التعبير، لتحلّ المتفجرات والرشاشات محل الذئبية، وسيارات «الألفا روميو» محلّ البغال الريفية، ولم تعد المافيا تحاول إخفاء أنشطتها ضد المواطنين وضد المجتمع غير خائفة من العقاب، وتدريجاً طغى الشكل الأميركي، ما جعل من المافيا الإيطالية ومن ثم الصقلية الأشهر المعروفة باسم «الكوز نوسترا» مجرد تاريخ غابر.

وغداً، الحلقة الثانية عن المافيا: أسرار وتقاليد.

back to top