محمد أركون... رحيل رائد الفهم العلمي للتراث العربي الإسلامي

نشر في 16-09-2010 | 00:06
آخر تحديث 16-09-2010 | 00:06
توفّي ليل الثلاثاء – الأربعاء في العاصمة الفرنسية باريس المفكّر الجزائري محمد أركون بعد معاناة كبيرة مع المرض. أركون مفكّر وباحث جزائري من مواليد عام 1928 في بلدة تاوريرت بمنطقة القبائل الأمازيغية بالجزائر، انتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء (ولاية عين تموشنت) حيث أتمّ دراسته الابتدائية. أكمل دراسته الثانوية في وهران، وتابع دراسته الجامعية بكلية الفلسفة في الجزائر ثم أتم علومه في "السوربون" في باريس. حصل على شهادة الدكتوراه في الآداب ودرّس في جامعات عدة في أوروبا وأميركا والمغرب.

ينتمي أركون إلى جيل ميشال فوكو وبيير بورديو وفرنسوا فوريه الذين أحدثوا نقلة نوعية إبتسمولوجية في الفكر الفرنسي. وبدوره أحدث "ثورة" نصية مشابهة في الفكر الإسلامي والعربي وإن كان قليل التأثير في المفكرين العرب. قام بدراسات ألسنية وتاريخية وأنثروبولوجية وكان أول من مزج بين مناهج عدة طبّقها على التراث العربي الإسلامي. ومنهجيّته في تحليل التراث تشبه التحليل النفسي بالضبط، وتحاول تفكيك الأطر الغيبية التي تسيطر على الإنسان المسلم. وهي المناهج نفسها التي طبّقها علماء فرنسا على تراثهم اللاتيني المسيحي الأوروبي.

ظل أركون يسعى جاهداً إلى ترسيخ المنهجية التاريخية الحديثة في الفكر الإسلامي ويذهب إلى جوهر المشكلات لا إلى القشور، فتحدّث في ظاهرة الوحي بطريقة لم يجرؤ عليها أقرانه، وفي أمور لا مفكّر فيها في المجتمع الإسلامي، لأنه يرى أنها السبيل الوحيد لتحقيق الفهم العلمي للواقع التاريخي للمجتمعات الإسلامية. وهذا من شأنه إلغاء التعصبات المذهبية والعرقية كافة لاسيما بوضعها على محك الفهم العلمي.

يؤكد أركون أن المسلمين لم يمارسوا بعد تاريخ الأديان، لأنه غير موجود لديهم، ويشير إلى أن ما كتبه الشهرستاني وابن حزم عن الملل والنحل تخلى وأعرض عنه المسلمون، إذ ركّزوا كثيراً على ما ورد في تاريخ الإسلام أكثر مما ركزوا على ما ورد في القرآن نفسه. وقد كتب أركون واصفاً عمله ضمن ما أطلق عليه اسم "مجموعة باريس" داخل الجماعة الأوسع للبحث الإسلامي – المسيحي: "حاولت أن أزحزح مسألة الوحي من أرضية الإيمان العقائدي "الأرثوذكسي" والخطاب الطائفي التبجيلي الذي يستبعد "الآخرين" من نعمة النجاة في الدار الآخرة لكي يحتكرها لجماعته فقط. حاولت أن أزحزح مسألة الوحي هذه من تلك الأرضية التقليدية المعروفة إلى أرضية التحليل الألسني والسيميائي الدلالي المرتبط هو أيضاً بممارسة جديدة لعلم التاريخ ودراسة التاريخ".

بالطبع لا يمكن اختصار فكر أركون بمقالة عابرة، فهو صاحب مشروع فكري ‏نقدي تنويري من ضمن المشاريع التي تسعى إلى سبر أغوار العقل الإسلامي في بعده التاريخي والأنثروبولوجي. يرتكز على "العقل المنبعث" العلمي لتجديد الفكر العربي ‏الإسلامي وقراءة التراث قراءة واعية تبعد عن الدغمائية والأيديولوجيا، فهو مشروع فكري يمكن مقارنته بمشروع الراحل محمد عابد الجابري في نقد العقل أو مشروع طه حسين في قراءة الأدب العربي أو مشروع عبدالله العروي في تفسير المفاهيم والأفكار. يمكن اعتبار مشروع أركون الفكري، نموذجاً للمشاريع الفكرية والمعرفية العميقة التي تحاول فك الصعوبات وكسر الأقفال المقدسة، فالمعرفة الصحيحة لا يمكن أن تنهض إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة، كما كان يقول الفرنسي غاستون باشلار.

ترك أركون مكتبة واسعة من المؤلفات من بينها "نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي"، و"الفكر الأصولي واستحالة التأصيل نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي"، و"الإسلام - أوروبا - الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة"، و"من فيصل التفرقة إلى فصل المقال... أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟"، و"الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية" وغيرها.

يشار إلى أن الساحة العربية شهدت في العام الجاري رحيل عدد من رموز الفكر والأدب من بينهم: المفكّر المغربي محمد عابد الجابري والباحث المصري نصر حامد أبو زيد.

back to top