حرب الستين سنة...

نشر في 01-12-2010 | 00:01
آخر تحديث 01-12-2010 | 00:01
في 23 نوفمبر 2010، أي بعد يومين فقط من الكشف عن برنامج تخصيب اليورانيوم في جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية على صفحات صحيفة "نيويورك تايمز"، أطلقت كوريا الشمالية قصفاً مدفعياً دام 50 دقيقة، من دون حصول أي أعمال استفزازية تستلزم الرد، على جزيرة يون بيونغ في كوريا الجنوبية، ما أسفر عن مقتل بحّارَين ومدنيَّين من كوريا الجنوبية وجرح عشرات آخرين.
 Stephen Hayes في 12 نوفمبر، رافق علماءٌ من كوريا الشمالية البروفسور سيغفريد هيكر، من جامعة ستانفورد، وزميلين له إلى منشأة يونغبيون النووية، فقاد الكوريون الشماليون الأميركيين إلى مبنى كان هيكر- الرئيس السابق لمختبرات "لوس ألاموس" النووية- قد زاره في فبراير 2008، ثم كتب هيكر لاحقاً أن المبنى تحول إلى منشأة "مذهلة" لتخصيب اليورانيوم.

يؤدي هذا الاكتشاف إلى وضع حدّ للجدل القائم منذ زمن بعيد داخل أوساط الاستخبارات الأميركية بشأن ما إذا كانت جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية تملك برنامجاً ناشطاً لتخصيب اليورانيوم، اعترفت كوريا الشمالية بأنها بذلت جهوداً في هذا المجال في عام 2002، لكن سرعان ما ادّعى الكوريون الشماليون أن اعترافهم كان مجرد سوء تفاهم، وخلال السنوات التي تلت ذلك، لم تحصل الاستخبارات على معلومات كثيرة عن البرنامج النووي في كوريا الشمالية، فهو يُعتبر، في نهاية المطاف، أهم المشاريع السرية في أكثر أنظمة العالم سرية. بعد ذلك، لم تشك الاستخبارات باستمرار وجود البرنامج النووي، نظراً إلى شح المعلومات الجديدة بشأن هذا البرنامج.

أدى غياب الأدلة في هذا الإطار إلى انقسامٍ في أوساط الاستخبارات الأميركية، فعبر مكتب الاستخبارات والأبحاث في وزارة الخارجية، إلى جانب محللين في وزارة الطاقة، عن تشكيكهم الشديد بوجود برنامج لتخصيب اليورانيوم في كوريا الشمالية، لكن آخرين كانوا مقتنعين باستمرار أعمال التخصيب، وكان أبرزهم المحللين في وكالة الاستخبارات الدفاعية ومعظم القادة في وكالة الاستخبارات المركزية. بحلول عام 2007، تراجع إجماع الاستخبارات الأميركية حول وجود برنامج تخصيب من مرحلة "الثقة التامة" إلى مرتبة "الثقة المرجحة"، وعمد صانعو السياسة المؤيدون لمقاربة التواصل إلى مقارنة المعلومات الاستخبارية المقلقة بشأن كوريا الشمالية بالمعلومات الاستخبارية التي سبقت حرب العراق.

في غضون ذلك، قلل صانعو السياسة في إدارة بوش، وهم كانوا متلهفين للتواصل مع كوريا الشمالية- بقيادة وزيرة الخارجية الأميركية حينها كوندوليزا رايس والمسؤول عن الملف كريستوفر هيل، من احتمال أن تكون جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية تبذل جهداً لتخصيب اليورانيوم وسخروا من الأشخاص الذين كانوا يشعرون بالقلق في هذا الشأن. وتعليقاً على الموضوع، قال هيل: "يتخيل بعض الناس وجود مبنى في مكانٍ ما، له باب سري يمكنهم فتحه لإيجاد جماعة من النساء اللواتي يرتدين كمامات أثناء تخصيب اليورانيوم".

في الواقع، لا نستطيع تأكيد وجود نساء مماثلات، لكن بعد مرور شهرين فقط على تعليقات هيل الساخرة، استمر تراكم الأدلة على تطوير برنامج تخصيب سري، وفي يوينو من عام 2008، قدمت كوريا الشمالية وثائق إلى الولايات المتحدة كانت تهدف إلى التأكد من ادعاءات جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية بشأن إنتاج معدن البلوتونيوم. وفي مفارقة ساخرة لم تَحْظَ بالانتباه اللازم، وجد المحللون آثاراً ليورانيوم عالي التخصيب على 18 ألف صفحة من المواد. ورأت وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الاستخبارات الدفاعية أن الأدلة الجديدة تؤكد شكوكهما. لكن في المقابل، قدم مكتب الاستخبارات والأبحاث ووزارة الطاقة أسباباً للتشكيك بها.

ذكر ستيفن هادلي، مستشار الأمن الوطني في عهد جورج بوش الابن، الجدل القائم في خطابٍ ألقاه قبل أسبوعين من تنحيه من منصبه، ولكن الخطاب مر مرور الكرام. حذر هادلي في ملاحظاته من أن كوريا الشمالية ستشكل "تحدياً مبكراً" في إدارة أوباما: "هذا الأمر صحيح لأن البعض في أوساط الاستخبارات عبروا عن مخاوفهم المتزايدة من أن تمتلك كوريا الشمالية برنامجاً سرياً ومستمراً لتخصيب اليورانيوم". أدى هذا الادعاء المبني على تحقيقات عدة، والذي كان سيُستعمل أصلاً في خطاب للرئيس بوش وصدر عن هادلي الحذر جداً بطبيعته، إلى إثارة دهشة مراقبي الوضع في كوريا. وكان البيت الأبيض ينوي استعمال هذا الادعاء كمؤشر من شأنه تقديم دليل رسمي وقابل للنشر من جانب الاستخبارات بشأن البرنامج النووي في كوريا الشمالية.

وكان الأمر أشبه أيضاً بخلاصة غريبة لأربع سنوات من التواصل الفاشل مع نظام فاسد. خلال تلك الفترة، كانت كوريا الشمالية قد اختبرت أسلحة نووية بسيطة وضُبطت بجرم تقديم المساعدة إلى سورية، التي تُعتبر من أبرز الدول الراعية للإرهاب، لبناء مفاعل نووي. ومع ذلك، بعد سلسلة من الإدانات الصارمة، تابع المسؤولون في عهد بوش مكافأة المبادرات الدبلوماسية الظرفية والرمزية التي كانت تقدمها كوريا الشمالية عبر عقد اجتماعات ثنائية وتخفيف العقوبات.

هذا ما يوصلنا إلى المأزق الراهن! في 23 نوفمبر 2010، أي بعد يومين فقط على الكشف عن برنامج تخصيب اليورانيوم في جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية على صفحات صحيفة "نيويورك تايمز"، أطلقت كوريا الشمالية قصفاً مدفعياً دام 50 دقيقة، من دون حصول أي أعمال استفزازية تستلزم الرد، على جزيرة يون بيونغ في كوريا الجنوبية، ما أسفر عن مقتل بحّارَين ومدنيَّين من كوريا الجنوبية وجرح عشرات آخرين. عبرت إدارة أوباما عن قلقها من هذا الاكتشاف النووي وأدانت الاعتداء. وأخبر أحد المسؤولين في البيت الأبيض، جايك تابر من قناة "إيه. بي. سي"، أن الإدارة لن "تتسرع بعقد محادثات سداسية" مع كوريا الشمالية لأنها تعتبر هذه الخطوة بمنزلة مكافأة للسلوك السيئ.

من الجيد عدم مكافأة السلوك السيئ... لكن الأفضل هو معاقبته! غير أن المفارقات البسيطة في موقف إدارة أوباما لا تتعلق كثيراً بقساوة العقوبات، بل تتعلق فعلياً بسرعة الاستسلام، فبعد أن عبرت إدارة أوباما سريعاً عن تصميمها على عدم مكافأة "السلوك السيئ"، سرعان ما أعلن البيت الأبيض نيته الاكتفاء بهذا الموقف. وفي اليوم نفسه، قال السفير ستيفن بوسوورث، الممثل الخاص لسياسة كوريا الشمالية، إن الإدارة الأميركية "ستتابع تنسيق خطواتها التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى استئناف المحادثات السداسية". وفي محاولة لاستباق أسئلة بشأن الفائدة من السعي إلى عقد اتفاقات جديدة متعلقة بنزع الأسلحة النووية مع نظام انتهك كل اتفاق من هذا النوع، أضاف بوسوورث: "نحن قلقون جداً من مدى مصداقية مقاربة جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية في هذا المجال".

غير أنهم ليسوا قلقين بما يكفي لتغيير مسار سياستهم. عشية 23 نوفمبر، وبينما كانت النيران لاتزال مشتعلة في يون بيونغ، أعلن تصريح ظهر على موقع الوزارة الخارجية الصينية أن الولايات المتحدة وافقت على السعي إلى استئناف المحادثات السداسية فوراً. وقال بوسوورث، في أثناء مخاطبته المراسلين في بكين بعد مقابلة نظرائه الصينيين: "لقد اتفقنا على حاجتنا الماسة إلى متابعة التنسيق والتشاور في هذه المسألة، أي برنامج تخصيب اليورانيوم، والتناقش طبعاً بشأن كيفية التوصل إلى استئناف المحادثات السداسية".

وهكذا تبدأ الحلقة المفرغة نفسها مجدداً، يشعر كيم جونغ إيل بالإهمال، لذا يُقدم على عمل استفزازي، ثم تدلي الولايات المتحدة وحلفاؤها بتصريحات تعبر فيها عن مخاوفها، فيتم استئناف المفاوضات. ثم يقدم الجانب الأميركي تنازلات سخية مع التهديد بتشديد العقوبات. في المقابل، تطلق كوريا الشمالية وعوداً لا تنوي الالتزام بها، فيحتفل الدبلوماسيون الأميركيون بـ"إنجازهم". وبعد فترة من الهدوء النسبي، يبدأ كيم جونغ إيل بالشعور بالإهمال مجدداً فيُقدم على عمل استفزازي آخر.

بالنسبة إلى معظم الأسس التي ترتكز عليها السياسة الخارجية، يشكل هذا السيناريو المألوف مصدر راحة، فحين تعلن كوريا الشمالية نفسها قوة نووية، أو تختبر أسلحتها النووية، أو تطلق صواريخها نحو بحر اليابان، أو تفجر سفينة كورية جنوبية، أو تكشف لأحد العلماء الأميركيين عن عملية طرد مركزي متطورة، سيكون الرد واحداً. سيقول الناس إن كيم جونغ إيل يتصرف كما اعتاد التصرف.

غير أن مصدر الراحة هذا يبقى مزيفاً... يمكن تفسير خطوات كيم، في 19 مرة من أصل عشرين، على أنها جزء من اللعبة الدبلوماسية، لكن تبقى عواقب الخطأ في تلك المرة الواحدة فادحة، أي عواقب إطلاق أحكام خاطئة على دكتاتور عدائي يملك أسلحة نووية ويعيش أيامه الأخيرة.

يتوقف الأمر على البيت الأبيض لكسر هذه الحلقة المفرغة غير النافعة. شكل موقف إدارة أوباما الهادئ تجاه كوريا الشمالية، خلال الأشهر العشرين الأولى من بداية عهدها، تغييراً إيجابياً مقابل الحماس الشديد الذي أظهرته إدارة بوش للتواصل معها، لكن يتطلب التعامل بصرامة أكبر مع كوريا الشمالية التأكد من افتراضين مريحين، لكن غير دقيقين، سبق ووجهّا المسار الدبلوماسي للإدارات الأميركية، بقيادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، طوال عقدين من الزمن تقريباً. يتعلق الافتراض الأول بفكرة أن كيم جونغ إيل يمكن إقناعه بعدم متابعة تصنيع الأسلحة النووية. أما الافتراض الثاني، فيرتبط بواقع أن الصين والولايات المتحدة تتشاركان مصالح أمنية جوهرية لنزع أسلحة كوريا الشمالية.

طوال سنوات، لطالما كانت الصين جزءاً من السياسة الأميركية في كوريا الشمالية. وقد طالب الرؤساء المتلاحقون بأن تستعمل بكين قوتها للسيطرة على حليفها العدائي، لكن لم تُطبَّق هذه المطالب لأن الصينيين يرون أن المراوحة في الوضع أفضل من التصعيد. تحتاج إدارة أوباما إلى قلب تلك المعادلة من خلال جعل خيار المراوحة أقل قبولاً، فبدل مطالبة الصين بكل تهذيب بالقيام بالعمل الدبلوماسي نيابةً عنا، لِمَ لا نستعمل أوراق الضغط الدبلوماسية والاقتصادية التي نملكها في وجه الصين للتأكيد على وجود عواقب وخيمة لعناد بكين؟

على المدى القصير، يمكننا معاودة فرض العقوبات الصارمة التي رفعها الرئيس بوش، عن غير حق، في صيف عام 2008، وإعادة إدراج كوريا الشمالية فوراً على لائحة الدول الراعية للإرهاب. تستطيع الإدارة أيضاً حثّ كوريا الجنوبية على إنهاء مشاركتها في مجمع كايسونغ الصناعي، وهو عبارة عن منطقة تعاون اقتصادي مشترك مع كوريا الشمالية، حيث توفر شركات كوريا الجنوبية الرأسمال، بينما توفر كوريا الشمالية اليد العاملة. عدا عن ذلك، تستطيع الولايات المتحدة أن تسعى بكل قواها إلى اعتراض السفن الكورية الشمالية التي يُشتبَه في أنها تنقل مواد غير مشروعة، وزيادة عدد التدريبات البحرية المشتركة المتطورة التي ننفذها مع كوريا الجنوبية.

لا شك أن الرئيس أوباما سيميل إلى سلك الطريق الأسهل، وذلك عبر عقد اتفاقات غير مجدية لمنع الانتشار النووي، وإطلاق الشعارات المبتذلة بشأن العيش في عالم يخلو من الأسلحة النووية، واستئناف المحادثات السداسية، فضلاً عن إطلاق حوار بشأن نزع الأسلحة مع أنظمة ملتزمة بتصنيع الأسلحة النووية. لكن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ذكر أوباما بأمر مهم في مجلس الأمن، في السنة الماضية:

الناس في العالم أجمع يصغون إلى ما نقوله، ويسمعون وعودنا والتزاماتنا وخطاباتنا. ولكننا نعيش في عالم واقعي، لا في عالم افتراضي، وبالتالي، نحن نقول: يجب تخفيض عدد الأسلحة النووية، حتى أن الرئيس أوباما قال: "أحلم بعالمٍ يخلو من [الأسلحة النووية]". ولكن على أرض الواقع، يقوم بلدان بعكس ما نقوله.

وما الذي أنتجته عروض التحاور المتكررة حتى الآن؟ أجاب ساركوزي عن سؤاله بنفسه... "لم تنتج شيئاً على الإطلاق!".

back to top