طوفان الرعب من الشرق: مسلمون أمام المغول 4 تيموجين يصبح الخاقان الأعظم

نشر في 01-09-2010 | 00:00
آخر تحديث 01-09-2010 | 00:00
كانت العلاقة التي تربط تيموجين بعمه طغرل خان طيبة ووطيدة، لكن كان ثمة في بلاط طغرل من يحقد على تيموجين، ويسعى الى التفرقة بينهما، فأُبلغ الأخير أن له أعداء تأهبوا مراراً للقبض عليه والتخلّص منه، لكن طغرل خان كان يرفض دائماً حدوث ذلك.

آنذاك، كانت قبائل التتر تواصل غاراتها على أرض الخطا (الصين)، فهي تنحدر من أصل قبائل الجوبي نفسه، أي من سلالة يأجوج ومأجوج المتوحّشين الذين يعيشون على السلب والنهب والتخريب، إذ لم تكن لديهم حكومة أو سلطان، بل خضعوا للقوي ذي البطش والرهبة.

عبر التتار حدود الصين وبدأوا يهدّدون العرش الإمبراطوري، وبلغت هذه الأخبار تيموجين، فأرسل إلى إمبراطور الصين يبلغه أن جيشه تحت تصرّفه، وإلى عمه طغرل خان يطلب منه أن يمدّه بفرسانه من القرايطة لأنه سيدخل حرباً ضد التتر، فلبى الخان الكبير طلبه، وخاض تيموجين معركة رهيبة، انتصر فيها على التتر انتصاراً ساحقاً، جعل جموع المحاربين تتسابق للانضمام إلى جيشه، ومنح إمبراطور الصين تيموجين لقب «قائد الثوار»، وأهداه سريراً من الفضة مغطى بنسيج من الحرير الموشى بالذهب، كذلك منح طغرل خان لقب «وانج خان»، أي سيد الملوك.

انتهت الغزوة، ولم يبهر النصر تيموجين، ولم تلهه الهدية أو اللقب، فأرسل إلى عمه طغرل خان برسالة ينبئه فيها بما لقيه من نجاح وما حققه من مجد، قائلاً: «إن للمغول اليوم زعيماً يستطيع أن يجمع شملهم ويحارب عدوهم»، فأيقظت الرسالة في نفس طغرل خان أحقاداً على تيموجين، ورأى فيه حجر عثرة في طريق تحقيق أطماعه التوسعية، بينما كان تيموجين يتفحّص الوضع بينه وبين القرايطة، لكن الأحداث كانت تجري أسرع من المتوقّع.

جاء موسم الصيد الذي يخرج فيه تيموجين سنوياً، فأرسل طلائعه تستكشف الطريق بينه وبين القرايطة، فلم يعد منها سوى اثنين، وعلم منهما أن القرايطة قتلوا رجاله وملأوا الطريق بالحراس، واستعدوا بجموع من المحاربين للتخلّص منه ليضعوا حداً لهذا الزعيم العتيد، وسعى أشد رجال القرايطة دهاء وأعلمهم بفنون الحرب والقتال الى إحكام الخطط لإبادة تيموجين ورجاله، وكان من بين هؤلاء شاموكا الداهية، وتوكتا زعيم المركيت الذي يكنّ لتيموجين أبغض الضغائن، ونجل طغرل خان زعيم القرايطة (ابن عم تيموجين)، وكل أعمام تيموجين، وعينوا شاموكا قائداً لحملتهم المشتركة، وأقنعوا طغرل خان بالانضمام إليهم.

فشلت خطط تيموجين السياسية، التي كان يرمي من ورائها إلى جعل القرايطة في حالة حرب مستمرة مع جيرانهم الغربيين، بينما ينفرد هو بالشرق، ويحتفظ بطغرل خان حليفاً ريثما يشتد ساعده في الشرق، لكن دهاءه قوبل بدهاء أشدّ، وبأبغض شيء بالنسبة إليه، ألا وهو الخيانة.

لكن ما الحيلة والكلمة الفاصلة أصبحت للحرب؟ فجيوش القرايطة تقترب من معسكره، وليس معه في رحلته هذه سوى ثلاثة آلاف مقاتل فقط، وهو على مسافة ليست قصيرة عن موطنه.

لم يضيّع تيموجين وقتاً، فأرسل حرسه الخاص يوقظون الجميع من سباتهم، ثم أمر في الحال بخروج الماشية والدواب ونشرها في السهول بقدر المستطاع، أما المركبات الخفيفة فأمر بتحميلها بالنساء والأولاد والمتاع الخفيف، وربطها بالجمال كي لا تحدث أصواتاً أثناء الفرار، أما الرجال فقد قفزوا إلى خيولهم، المسرجة دائماً، ووقفوا في سكون ينتظرون الأوامر.

كذلك، أمر تيموجين بترك المعدات الثقيلة في مكانها، والخيام والنار موقدة بها، وهي خدعة ما زال يلجأ إليها كبار القادة حتى اليوم، ثم أعطى تعليماته النهائية، وبعد أن اطمأن إلى أن جميعها نُفّذت حسبما أراد، امتطى صهوة جواده وخرج مستتراً بالظلام، خلف القافلة متّجها الى موطنه في صحراء الجوبي.

أثناء رحلة العودة، كانت جموع القرايطة قد هاجمت معسكره الذي أبقاه كما هو، والنيران موقدة في الخيام، حتى يخيَّل لمن يراها أن الجميع موجودون فيها ويغطون في نوم عميق.

أسرع فرسان القرايطة يرشقون المعسكر بسهامهم، وخصّوا خيمة تيموجين بالمئات منها، ثم كشف ضوء النهار الخدعة التي سبقهم تيموجين إليها، ففطنوا إلى أنه لا يوجد أحد بالمعسكر، لكنهم استنتجوا أن تيموجين ومن معه تركوا الخيام من ساعات قليلة، فأسرع قادتهم يعلنون في النفير ملاحقة الفارين وإبادتهم، وأعدوا العدة لأسرهم أو قتلهم.

مع بداية تسلّل ضوء النهار، أُبلغت طلائع تيموجين باقتراب العدو، فأسرع يأمر فرسانه بالانتشار والاستعداد لملاقاته، فيما يستمر الركب في انسحابه. كان جيش القرايطة قد بدأ يقترب في مجموعات، وقد فاجأ تيموجين البعيد عن موطنه وجيشه، فهو بأمسّ الحاجة الى قواده ليزيلوا هذا العدو من على وجه الأرض، والى فرسانه الشجعان البواسل، وكذلك الى هدوء عشيرته واحتفاظها بالسكينة ورباطة الجأش.

بدأ القرايطة هجومهم العنيف الذي لم يواجه تيموجين مثله سابقاً على رغم كفاحه الطويل، وكان حليفه السابق طغرل خان على رأس تلك الجموع، وكان لوجود هذا القائد العجوز أثر السحر في نفوس مقاتلي القرايطة الأشداء، فعجز تيموجين عن القيام بعملية الالتفاف التي يجيدها.

أصرّ تيموجين على خوض المعركة في مواجهة خصمه المتفوّق عليه عدداً وعدةًّ، فكانت مواجهة عنيفة عكست الصراع بين الموت والحياة، فلا تكاد قوات تيموجين تقوم بحملة حتى تعود خاسرة أمام قوات القرايطة، وقد استمرت المعركة بين مدّ وجذر، فيما تيموجين يفحص بعينه الثاقبة خطوط العدو ليرى الفتحات التي يمكن النفاذ منها.

انتبه تيموجين إلى جبل «جوبتا»، فالنصر يكمن عنده لو استطاع فريق من قواده الوصول إليه، فهبّ ينادي «جولدار»، أشجع الشجعان وأشد الفرسان وزعيم المانهوت، وأمره بالصعود إلى قمة ذلك الجبل والالتفاف حول القرايطة، فصاح جولدار: «وحقك لأشطرن بسيفي من يقف أمامي، ولاكتسحن من في طريقي حتى أدق لواءك فوق الجوبتا، وليتناقل الرواة شجاعتي، ولي ولدان عليك رعايتهما»، فالتفّ فرسان المانهوت الشجعان، خلف زعيمهم بسيوفهم المشرعة، وانطلقت خيولهم تسابق الريح، ونفير الحرب يدوي في الوادي الفسيح، فبلغ جولدار قمة الجوبتا مع مغرب الشمس، ودق لواء تيموجين الذي كان عبارة عن تسعة ذيول وعول.

لم يكد جيش القرايطة يتيقّظ للمناورة حتى دبّ الذعر في صفوفه، وحلّ الارتباك بينه، فقد أمسى العدو من أمامه ومن خلفه، وابن زعيمه الجريء أصابه سهمٌ في وجهه، فحلّ اليأس محلّ الأمل، والهزيمة والأسر بدل الغنيمة والنصر، وشرع في الانسحاب رويداً رويداً.

انهزم القرايطة، وأمّن تيموجين انسحاب جولدار من فوق الجوبتا، ثم مضى يجمع فرسانه الجرحى، من بينهم ولدان له، وواصل طريقه نحو الجوبي، حيث توجد عشيرته الحبيبة، بعد أن أرهقته تلك المعركة غير المتوقعة، وقد عاد منها سالماً ومن معه.

أما طغرل خان فندم بشدة على فعلته هذه بعدما رأى ما حلّ بقواته وما أصابه من خزي بعد هزيمته وخيانته، وقال: «لقد قاتلنا رجلاً ما كان يجدر قتاله». كذلك، أرسل تيموجين إليه برسالة طويلة، ذكّره فيها بتلك الأيام التي كان يعاونه فيها على خصومه، ويقدّم له أسلاب الحرب من دون أن يأخذ منها شيئاً لنفسه أو لرجاله، وبالعهد الذي أخذاه على نفسيهما بجوار النهر، بألا يستمع أحدهما الى وشاية عن الآخر، وأن يسويا أمورهما في ما بينهما، وانتهى في رسالته إلى أن العلاقة بينهما قد انحلت والصداقة قد انتهت، والحرب بينهما سجال.

بعد هذه الواقعة، دخل تيموجين مرحلة جديدة، فاستدعى جميع زعماء القبائل المغولية، وعقد معهم اجتماعاً كبيراً، عرض خلاله عليهم الموقف مع القرايطة، وأخذ كل زعيم قبيلة يدلي برأيه، وفي نهاية الاجتماع اتفقوا جميعاً على أن يتولى تيموجين قيادة قوات المغول كافة، وتسليم الصولجان إليه، فقبل تحمّل المسؤولية، لكنه اشترط عليهم إطاعة أوامره طاعة عمياء بين جميع القبائل، وحق توقيع الجزاء على من يستحق، ثم قال: «طالما ناديت أن الأرض بين الأنهار الثلاثة في أمس الحاجة إلى رجل قوي يحكمها، فلم تلقوا بالاً لكلامي، أما الآن وقد خفتم أن يذيقكم وانج خان الكأس نفسها التي شربت منها، أراكم تنتخبونني لأكون زعيمكم... حسناً... لقد انتويت الحفاظ على أرض أسلافنا وتقاليدهم، وسأجلب لكم رأس طغرل خان وولده».

كان تيموجين يتزعّم الجزء الشرقي من صحراء الجوبي، وكان في نيته توسيع تلك الرقعة من الأرض على حساب إمبراطورية الخطا في الشرق، لكن وجود القرايطة الأشداء في الجزء الغربي من الجوبي، ثم غدرهم به واعتدائهم عليه خلال موسم الصيد، أفسد خططه، واضطره الى الاقتناع بوجوب التخلّص منهم أولاً، لذلك قرر سريعاً الزحف نحوهم، وذلك قبل انتهاء الشتاء وذوبان الثلوج التي تغرق الوديان، فتحيلها إلى برك ومستنقعات تعرقل حركة الجيوش.

لجأ تيموجين إلى دهائه ومكره العميق، فأرسل أحد قواده الشجعان ويدعى سابوتاي، الى القرايطة يمثّل دور الفارّ من الجحيم، فأخذ يشكو من سوء معاملة تيموجين له، وأخبرهم عن وحدات جيش تيموجين المتفرقة، وكيف أنها مضطربة.

كان القرايطة ذوي مكر ودهاء أيضاً، إذ لم يأخذوا بكلام سابوتاي فوراً، بل شرعوا في التحقّق منه، فأرسلوا بعض فرسانهم معه للتحقّق مما سمعوه، وما كاد الفرسان يبتعدون قليلاً عن المعسكر، حتى لمح سابوتاي بنظره الحاد طلائع جيش تيموجين قادمة، فاحتال بأن جواده متعثّر، ونجح في تعطيلهم، وشغلهم بالحديث والمسامرة، حتى وصلت تلك الطلائع وأحاطت بهم، وأسرتهم بمن فيهم سابوتاي، الذي صاح مخاطباً تيموجين: «سأدرأ عنك خصمك كما يدرأ عنك اللباد لفح الريح».

كانت هذه الخديعة الجزء الأكبر من خطة تيموجين، وبعدها هاجم جيشه القرايطة، ونشب بين الفريقين قتال مرير، انتهى بهزيمة القرايطة، وإصابة طغرل خان وابنه اللذين فرّا بصحبة شاموكا، غير أن مجموعة من فرسان تيموجين ظلت تطاردهم بقوة، فسأل طغرل شاموكا عنهم، فقال له: «أولئك هم كلاب تيموجين المتوحّشون الذين يطعمون لحوم البشر، ويتبعونه أينما ذهب مقيدين بسلاسل من حديد، لهم جماجم من نحاس وأسنان قدت من الصخر، وقلوب من فولاذ، وتقذف أفواههم الحمم، وتشرب خيلهم الندى، لها أجنحة تطير بها كالريح، وتتغذى خلال المعركة على لحم البشر، وهي الآن محلولة العقال».

من جهة أخرى، كانت ثمة عداوة دائمة بين القرايطة وجيرانهم إلى الغرب من قبائل النايمان والأتراك، فما كاد يلجأ طغرل وابنه إليهم حتى قتلوهما، وطلوا جمجمتيهما بالفضة، وسلموهما الى تيموجين، فاحتفظ بهما في خيمته.ّ

كانت غنائم تيموجين من القرايطة كثيرة وثمينة للغاية، إذ نهب رجاله كل ما في ديارهم، ثم انطلق يطارد جموع الفرسان المنسحبين، ولما حاصرهم خيّرهم بين القتل وبين الانضمام الى جيشه والإخلاص له، فاختاروا الانضمام إليه، ثم عاد إلى موطنه في «قرة قرم»، وأمر بإعدام شاموكا.

كان استيلاء تيموجين على بلاد القرايطة بمثابة تكوين نواة مملكته التي كان يحلم بها، وبما أن رغباته وطموحاته لا حدود لها، استولى على تلك البلاد الغنية ودفع قواته نحو وديان الغرب، حيث قبائل النايمان واليوغور وغيرهم، فمضت تمرح وتجول بين سلسلة الجبال التي تكسوها الثلوج في الشمال، وبين سور الخطا العظيم في الجنوب، وانطلقوا في تلك المدن من نصر إلى نصر. وكانت بلاد كثيرة تعلن استسلامها وخضوعها لحكم تيموجين تجنّباً لبطشه، وطمعاً بقدرته على حمايتهم.

أرسل تيموجين بطلب جميع الخانات في جميع أنحاء الجوبي، فأسرعوا بتلبية ندائه، ثم عقد اجتماعاً للمؤتمر العام (القوريلتاي) كي ينتخب الجميع رجلاً واحداً يحكم جميع تلك المساحات ومن يسكنونها من البشر.

اصطف خانات القبائل المغولية كافة، وقد تزينوا بستراتهم الطويلة المرصعة بالذهب والفضة، ووقف تيموجين بجوار لوائه ذي ذيول الوعول التسعة، يخطب في زعماء القبائل الذين حضروا مظهرين له الولاء والإخلاص، قائلاً: «لقد استقر رأيي على أن أدعو أولئك الذين بلغ إخلاصهم نقاء البلّور... أقول قد عزمت أن أدعوهم شعب المغول، وأن غاية ما أتمناه هو رفع شعبنا إلى مرتبة السيادة في العالم».

واصل تيموجين خطبته البليغة، التي أثارت مشاعر القوم، وأخذت بمجامع قلوبهم، حتى أعلنوا رضاهم التام عن كل ما جاء فيها، فعرض مقترحه باختيار رجل واحد يتصدر الزعامة ويكون سيداً للجميع، فصاحوا مطالبين بأن يكون هو ذاك السيد المطاع على كل قبائل الجوبي، ولم يكتفوا بذلك، بل منحوه لقب «جنكيز خان»، ومعناه «أعظم الحكام وإمبراطور البشر أجمعين وملك ملوك الأرض».

بموجب ذلك، أصبح تيموجين سيد قبيلة البورشيكون، واتحد مع قبيلة التتر الوحشية، وامتزج بحكمة قبائل اليوغور، وشجاعة القرايطة، وصلابة سكان التندرا الجليدية، هذه القبائل والعشائر كلها، التي تنتشر على بقعة واسعة من الأرض، تمتد من صحراء الجوبي حتى حدود منشوريا شرقاً، إلى دولة الخطا (الصين) غرباً، حتى سيبيريا شمالاً، بما فيها من بيئات وأجناس ولغات وديانات وعادات مختلفة، توحدت كلها تحت راية وكلمة جنكيز خان، زعيمهم الأوحد الذي نجح في أن يجمعهم تحت قبضته، ويخضع كل تلك المساحة من الأرض تحت سيطرته، ولم تكن هذه المهمة مستحيلة، فقد سبق لهذه القبائل أن اتحدت تحت زعامة قبيلة «الهسيونغ نو».

عاشت إمبراطورية الصين بين عامَي 960 و 1127م تحت حكم أسرة سونج، لكن الضعف والوهن حلّا بهذه الأسرة في أواخر أيامها، ما جعلها مطمعاً لقبائل الخطا الكائنة في جنوب منشوريا وإقليم لياو (كوريا راهناً)، فأغارت على الجزء الشمالي من الصين، وفرضت جزية سنوية على أسرة سونج، لكن هؤلاء البدو أخذتهم حياة المدينة، فانصرفوا إلى إشباع شهواتهم ما أضعف روح القتال فيهم، بينما بدأت قبيلة «الكين» تقوى شوكتها، وما لبثت أن استولت على الخطا عام 1125م، فخضعت لها أسرة سونج، وراحت تدفع لهم الجزية التي كانت تدفعها سابقاً لأسرة لياو.

آنذاك، كان تيموجين يتابع أحوال الإمبراطورية الصينية، بينما كان إمبراطورها في حرب مع بعض المتمردين بالجنوب، فاستنجد الأخير بتيموجين، فلبّى طلبه فوراً، وأرسل إليه بضع فرق من جيشه، على رأسها أحد أبرز قواده، وهو «شيبه نويون»، الذي أبلى بلاء أبهر الصينيين، وفي الوقت نفسه كان نوبون ومن معه من المغول مبهورين بما يشاهدونه في تلك البلاد، إذ تفحّصت عيونهم الثاقبة طبيعة أراضيها ومداخل مدنها ومخارجها، وطرقت حوافر خيولهم طرقاتها وممراتها ووديانها وهضابها.

كانت الحياة وراء السور العظيم مختلفة كثيراً عن حياتهم، فهم يعيشون داخل القباب المصنوعة من اللباد، وتقدر ثرواتهم بما يملكون من قباب وماشية، أما هنا فالناس يعيشون في بيوت من الآجر وقصور مزينة، يلبسون الحرير الموشى ويقتنون العبيد الذين يحملون لهم المظلات لتقيهم حرارة الشمس، بالإضافة الى النساء الجميلات، والبحيرات والخضرة...

انتهت مهمة فرسان المغول، وعادوا الى موطنهم مبهورين بما شاهدوا في بلاد الخطا، إذ رأوا أن للقوم هناك باعاً في الحرب والرمي منذ القدم، لكنهم ما إن تقدموا وبنوا المدن اكتفوا ببناء الأسوار التي تحميهم، وركنوا إلى الحياة الرغدة والدعة، فقسموا أنفسهم طبقات: الميسورون والعلماء والتجار، والصناع والزراع والعبيد والسحرة، والنبلاء والحكام والجنود، وعلى رأس الجميع الإمبراطور «ابن السماء»، ومن حوله بلاطه «سحب السماء».

كانت لدى أهل الخطا عربات قتالية تجرّها الخيول السريعة، وكان يملكون أقواساً تحتاج الى عشرة رجال يشدونها، ليطلقوا سهامها الثقيلة الجبارة، بالإضافة إلى الجهاز العجيب الذي يقذفون به الحجارة، وجهاز قذف اللهب والحمم، وكان هؤلاء القوم أسبق البشر في اكتشاف البارود فاستخدموه في القتال، كذلك كان لديهم نوع من العربات المدرعة تجرها الخيول وتستطيع الحركة في الأراضي الوعرة، وكان من عاداتهم أنهم إذا خرجوا في الحروب أقاموا معبداً في كل معسكر.

كانت جيوش الخطا تتمتع بتدريب جيد، ونظم تعبئة متقدمة للغاية، لكن نقطة ضعفها الوحيدة هي ذلك الإمبراطور الذى لزم عاصمة ملكه وترك أمور الإمبراطورية لأتباعه، فيما كانت قوة البدو خارج السور تتزايد.

أثارت تلك القصص عن بلاد الخطا التي رواها الفرسان العائدون منها، شهية تلك القبائل لاجتياحها، وممارسة هوايتهم المفضلة في السلب والنهب بها، وطالبوا جنكيز خان بالإغارة على تلك البلاد، ليجلبوا منها النساء الجميلات والخيل والحرير، لكن القائد المحنك ما كان ينقاد بسهولة وراء شهوات رجاله المتوحشين من دون إعمال فكره، فلو فعل وهُزم جيشه في الشرق لكان ذلك إيذاناً بتدهور سمعته، وقد تؤدي هزيمته إلى نهاية دولته التي ما زالت ناشئة.

كانت الجوبي كلّها في قبضة جنكيز خان، لكن خصومه كانوا يحيطون به من الجنوب، حيث مملكة هيا، ومعروف عنهم أنهم لصوص وقطاع طرق، ويعيشون في جوف هضاب التبت ومغاورها، ومن الغرب ثمة قبائل «التركستان» التي كانت حاجزاً بين العالم الإسلامي والمغول، وفي الشمال توجد قبائل القرغيز المتجولين، الذين ما زالوا بمنأى عن قبضة جنكيز خان.

جهّز جنكيز خان ثلاث فرق من الجيوش، وشنّ غارات وحشية على جيرانه في الجنوب والغرب والشمال وتمكّن من إخضاعهم، وكان غرضه ليس تأمين ظهره فحسب في حالة الخروج لاجتياح الصين، بل إتاحة الفرصة لجيوشه للتدريب، واكتساب خبرات جديدة في القتال في أراض مختلفة.

back to top