المجدِّدون والتجديد في الإسلام (1)

نشر في 24-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 24-08-2010 | 00:00
معاً نحاول عبر هذه الحلقات التعرف إلى واقعنا الإسلامي المعاصر، مستشرقين آفاق التجديد والإصلاح التي نحلم بها جميعاً من خلال الغوص في تاريخ حركات التجديد في تاريخ الإسلام وتلمّس بعض جهود المجددين الكبار الذين حاولوا إعلاء شأن الإسلام عبر نزع الصدأ الذي ركمته الحياة على جوهره اللامع البراق لعل وعسى أن ننجح في استكشاف آفاق جديدة لواقع إسلامي متسامح متجدد وقادر على المواءمة مع مستجدات العصر.

التجديد لغة ينحدر من الجديد وهو ما لا عهد لنا به، لأنه خلاف القديم الذي نعرفه. أما اصطلاحاً فإنه أمر مرتبط بالاجتهاد والتحديث والإبداع، يقوم على مزاولة نشاط ذهني ونفسي وميداني خلاق، للتصدي للأمور العظيمة والمهمة من النوازل والحوادث. وقد ولد هذا الاصطلاح من رحم الفقه والفكر الإسلامي، حتى بات مقروناً بهما.

لكن درجة التجديد ومستواه تفاوتت من مفكر إلى آخر، ومن فقيه إلى نظيره، وتدرجت حسب تصور كل من هؤلاء عن مدى التجديد وجدواه. فثمة من شدّد على أن التجديد يكون في المسلمين لا في الإسلام، وثمة من ضيق في المفهوم والقيمين عليه وحصرهم في رموز إسلامية خالصة. وعلى العكس، ثمة من تحدّث عن «تجديد الإسلام» وتوسَّع في ذكر مجدديه، حتى ضمّ إليهم بعض من يعتبرهم السلفيون مجدفين بالدين أو حتى أعداء للإسلام.

ويطرح عمر فروخ تصوراً محافظاً إلى درجة أن يبدأ بالقول إن «الجيد من كل شيء هو القديم الذي يظلّ على الدهر جديداً»، ثم يؤكد أن التغير يطرأ على فروع الأحكام ولا يمتدّ إلى أصولها، وأن عمل المصلحين يقتصر على تقريب تعاليم الدين من أذهان الناس، على طبقاتهم، لا أن يجعل من الدين نفسه حقل اختبار، كأنه بذلك ينشر على الناس يومياً ديناً جديداً. وهذا يعني أن التجديد ينصبّ على المعاملات والصلات الاجتماعية بين البشر التي تتغير بتغير الزمان والمكان. أما العبادات فإن الدين نفسه قد جعل لها نطاقاً من الرُّخص التي يلجأ إليها المؤمن بحسب الأحوال التي نص عليها الدين نفسه، فيما العقائد هي الأسس التي تجعل من كل دين مختلفاً عن الدين الآخر بأصوله، وكيفية انطباقه على الحياة.

ويعزز نور الدين الخادمي هذه الرؤية بقوله: «تجديد الدين معناه تقديم الإسلام كما أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم أيام نزول الرسالة. ومن بين مقتضيات هذا التجديد إرجاع الفهم والتطبيق الإسلاميين إلى الأصول والمصادر الشرعية المعتبرة، ونفي ما علق بالدين من زوائد وإخلال وبدع وحيل وأساطير وغير ذلك. ولا ينبغي أن يفهم من تجديد الدين استبدال الإسلام بدين آخر، أو تغيير بعض الأحكام القطعية الثابتة، أو إحداث أمور، في الفهم أو التطبيق، مخالفة الدين وقواعده ومقاصده ... بذلك يبقى التجديد هو نفي ما ليس من الإسلام في شيء، والرد إلى الله والرسول عند الفهم والاستنباط، وعند الاختلاف والتنازع، والاستجابة لمستلزمات المسايرة والمعاصرة بإرادة قوية، وعلم نافع، واجتهاد أصيل... ومن هنا يتحدد التجديد حسب المحتوى والمضمون، فإن كان المراد به الإحياء والتفعيل والإعمال والدفع فلا بأس، أما إذا كان يراد بالتجديد لدى البعض التغيير والتبديل والتبطيل، فمن المحتمل أن يصرف هذا إلى دعوى تبديل الأصول والقواطع وتعطيل الثوابت والروابط، وتبطيل الإسلام جملة وتفصيلاً تحت هذه العلة والدعوى».

وثمة من يحرِّك هذا التصور خطوة قليلة إلى الأمام فينتقد من أساء فهم التجديد على أنه بذلك يظهر أضابير الكتب والمخطوطات الإسلامية، التي أخرجتها عقول الفقهاء والمفكرين الإسلاميين في الزمن القديم، من دون أي محاولة للاستفادة منها في أحوال معاشنا الراهن، بصورة أو بأخرى، وكأنه يكتفي بأن يكون إحياء التراث هو عامل استنفار انفعالي فحسب يحفزنا إلى العمل، كالأغاني القومية وموسيقى المناسبات.

ثم يدفع أمين الخولي المفهوم خطوات أوسع بحديثه عن أسس التطور في الإسلام، منطلقاً من أن الرسالة المحمدية الخاتمة بما هي دين ونظام اجتماعي عملي تحمل أسساً للتطور تهيئه لذلك، وتعده لتحقيقه في يسر، ومن دون مصادمة لشيء من تطور الدنيا حوله نظرياً وعملياً، ليحدد هذه الأسس في:

1 ـ امتداد دعوة الإسلام وحياته رأسياً في الأزمنة، وأفقياً في الأمكنة، لتستهدف شعوباً وقبائل وأجيالاً متعاقبة، وأصحاب ثقافات متنوعة، وأجناساً شتى.

2 ـ اقتصاد دعوة الإسلام في الغيبيات وإجماله لها وتحديده للإيمان بها، ونهيه عن التفكير في دقائقها. وهذا جعل العقيدة الإسلامية تصرف ما توفر لها من طاقة كبيرة إلى التفكير الحرّ الملائم في كل جديد من خفايا الكون، تعرفه الحياة، ويقدره العلم على مدى الأيام، من دون أن تحتاج إلى تفاصيل أو بيانات جزئية، لم تعد تناسب الحياة.

3 ـ بعد تيسيره الحياة الاعتقادية، اقتصر الإسلام في شؤون العبادات على الأمور الكلية والأصول العامة الشاملة، ليفتح الباب أمام اجتهادات حول الصلاة والزكاة والصيام والحج، يتغير بعضها بتغير الأحوال، وهي مسألة ظاهرة في تاريخ الفقه الإسلامي ومحتواه.

4 ـ عدم تورط الإسلام في نصه المؤسس (القرآن الكريم) في تفاصيل حول نشأة الكون والحياة والإنسان وعمر وجوده على الأرض، ومساره ومصيره، وذات الله وصفاته. وهذا لم يجعل الإسلام في مواجهة أبداً مع اكتشافات الكون العلمية، كما حدث مع أديان أخرى. لكن المسلمين شغلوا أنفسهم بهذه القضايا وبحثوا عمّا يجيب عن أسئلتهم حولها في الإسرائيليات. ونحتاج اليوم إلى التخلص من هذه الدخائل الأجنبية، التي تسربت إلى أحاديث منسوبة إلى الرسول الكريم من مرويات الآحاد، وإلى بعض تفاسير القرآن.

5 ـ عدم التورط في شيء من التفاصيل حول تاريخ الأمم والرسل، التي عرض القرآن أحوالها جملة أو مع بعض التفصيل، بياناً لسنن الاجتماع في حياة الرسل. ومن هنا لا يخشى الإسلام من الرواية المادية للتاريخ التي يقصها علينا العلم عبر علم الحفريات والآثار، بل يستطيع أن يطور عرضه لتدينه مع هذا العلم المتقدم.

6 ـ جعل الإسلام الاجتهاد أساساً للحياة، بما يفي بحاجاتها المتغيرة والمتقدمة. ومن هنا أقر الفقهاء أن الحياة لا تخلو من مجتهد، وطلبوا بأن يتوافر للناس في كل عصر من المجتهدين عدد التواتر.

هذه الأسس الستة جعلت الخولي يدخل بجرأة إلى الحديث عن تطوير العقائد والعبادات والمعاملات، قاصداً بهذا التطوير طبيعة الخلافات التي نشأت طيلة التاريخ الإسلامي حول هذه الأعمدة الثلاثة. فالخلاف حول العقائد امتد إلى ذات الله وصفاته، وطبيعة القرآن، مخلوق أم لا، وتنازع أهل السنة والمعتزلة حول السببية وأفعال العباد. أما العبادات فثمة اختلاف في المذاهب الفقهية العملية لا يخفى على المتابعين والتابعين، وثمة اجتهادات لا تنتهي حول أركان الإسلام العملية الأربعة، الصلاة والزكاة والصيام والحج، بما يلائم احتياجات الواقع المتطور بلا هوادة. والأمر في المعاملات أهون وأيسر، وتطور العرض فيها واضح عياناً بياناً.

ثقب إبرة

ينتهي الخولي من هذا إلى القول: «التجديد الديني هو تطور، والتطور الديني هو نهاية الاجتهاد الحقيقي»، لكنه لا يعني بالتطور مفارقة أصل الدين، وإيجاد دين جديد، بل يربط التجديد بالعودة إلى الأصل، لأن كل ما دخل على العقائد من جدل، لا ينتهي إلا إذا نحيناه جانباً، ورجعنا إلى إيمان الفطرة، وتجنبنا الخوض في مسائل الغيب، التي لا يمكن لعقل أن يبلغها، ولا طائل من الاحتراب حولها. أما العبادات فأحكامها وتفاصيلها عرضة لتطور دائم، ويتسع النطاق على المعاملات، وهذا من صميم الإسلام. لكن الخولي في رؤيته هذه يفكك تركيبات تراثية مغلقة كثيرة، بفعل جمود الفقه، ويشكك في مسلمات عدة ركدت في أذهان المسلمين جراء غلق باب الاجتهاد، أو تضييقه حتى صار مجرد ثقب إبرة.

لكن عبد المتعال الصعيدي يحاول أن يثبت في كتابه «المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر» أن التجديد لا يجب أن يقتصر على الأمور المعنوية والرمزية بل لا بد من أن يمتد إلى المسائل المادية، أي أن من الإحجاف أن تقتصر نظرتنا إلى المجددين على أنهم العلماء والفقهاء والمصلحون الاجتماعيون فحسب، بل يجب أن تشمل الحركيين، ممن سعوا إلى تطبيق الإسلام، وتطوير الشرع، وإيجاد إجراءات تواكب الواقع المتغير باستمرار. من هنا، فإن تاريخ التجديد في الإسلام بالنسبة إليه هو «تاريخ نهوض المسلمين في أمور دنياهم، قبل أن يكون تاريخ نهوضهم في أمور أخراهم، ولا يجب أن نذكر فيه من المجددين إلا من يعمل لهذه الغاية، ولا نكتفي فيهم بمن اكتفى به من مجرد الشهرة في العلم».

ولذا يضع الصعيدي كثيراً من القادة والحكام والحركيين والثوار في عداد المجددين، مثل الخلفاء الراشدين الأربعة، والحسين بن علي وخالد بن يزيد وعمر بن عبد العزيز، والخلفاء العباسيين المأمون والواثق والمهتدي، والسلطان العثماني سليمان القانوني، والشاه عباس ونادر شاه، ومحمد علي باشا وأحمد خان ومدحت باشا، وميرزا علي محمد، وغلام أحمد، ومصطفى أتاتورك، وعبد العزيز آل سعود. ويأتي لديه هؤلاء جنباً إلى جنب مع فقهاء وفلاسفة ومتصوفة وعلماء مثل الإمام الشافعي ومعروف الكرخي وأحمد بن حنبل والكندي والرازي وأبو الحسن الأشعري والفارابي وإخوان الصفا وأبو حامد الغزالي وابن سينا وابن حزم وأبو العلاء المعري وابن رشد وفخر الدين الرازي والشريف الإدريسي وأبو الفرج بن الجوزي ونصير الدين الطوسي وابن تيمية وابن دقيق العيد ومحيي الدين بن عربي وابن خلدون وابن القيم الجوزية وأبو اسحق الشاطبي وسراج الدين البلقيني وألوغ بك، والقاضي زكريا الأنصاري وابن الوزير اليمني وشمس الدين الرملي ومحمد بن بير علي البركوي وإبراهيم الكوراني والمقبلي اليمني ومحمد بن عبد الوهاب ولي الله الدهلوي والشوكاني وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمد مصطفى المراغي.

ولا يعني هذا أن الصعيدي يتفق مع هؤلاء كلهم في جميع ما قالوه وفعلوه، بل هو يحرص على تخصيص مواضع ينتقد فيها بعضهم، ويفند فيها آراءهم ومواقفهم. لكنه اعتبر هؤلاء من المجددين باعتبار أن ما طرحوه، سواء وافق رأي جمهور العلماء أو خالفه، لاقى هوى الأغلبية الكاسحة من الناس أو خالفه، فإنه كان بمثابة الحجر الذي ألقي في بحيرة الفقه الراكد فمنعها من التعفن، وجعل باب الاجتهاد مفتوحاً، وشكّل حالة من التحدي أمام العقل المسلم، جعلته يتوقد ويتفوق على نفسه أحياناً في سبيل تحصيل إجابات عن الأسئلة التي طرحها المجددون.

ويشدد الصعيدي على أن التجديد عملية مستمرة، لا نهاية لها إلا بقيام الساعة، ثم يدعو إلى إنهاء الأسباب التي حالت دون تدفق عملية التجديد واستقوائها، وقدرتها على مواكبة واقع يتغير باستمرار، ومنها الاستبداد السياسي، وعدم تشجيع الحكام لحركات الإصلاح، وقلة عدد المصلحين، وميل غالبية الناس إلى المقلدين والجامدين، ومحاربة أعداء الإسلام لحركة التجديد، حتى يصعب على المسلمين أن يستعيدوا مجدهم الضائع.

الإحياء الإسلامي

يعيد جمال البنا المجددين في الإسلام إلى مجال الفقه والفكر والفلسفة، لكنه يضيف أسماء أخرى إلى تلك التي رصدها الصعيدي، مثل: أبو حنيفة النعمان ونجم الدين الطوفي والعز بن عبد السلام وحسن البنا ومحمد إقبال وعلي شريعتي وعلال الفاسي ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وأبو الحسن الندوي وأبو الأعلى المودودي وعبد الحميد بن باديس وبديع الزمان سعيد النورسي وسيد قطب وقاسم أمين ومحمد الغزالي ومحمد أسد ومحمود شلتوب ورجاء جارودي وشكيب أرسلان ومالك بن نبي.

وعلى رغم أن ما فعله البنا في هذا الشأن لا يعدو أن يكون مجرد جمع متفرق، وتفكيك ما يعجز هو عن تركيبه أو وضعه في سياق وبنية، فإنه يتجاوز حد تجديد الفقه أو الفكر الإسلامي إلى الحديث عن «تجديد الإسلام»، لكنه يقيِّد هذا الاتساع بحديث عن «إعادة تعريف منظومة المعرفة الإسلامية» الموضوعة في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، وهذا ما يتركز لديه في «إصلاح ديني» لا مناص عنه، ولا نهضة بدونه، وله الأولوية عن مجالات الإصلاح الأخرى كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل إنه يعتبر كلمة إصلاح ليست كافية، لأنها لا تعبر عن التغيير المطلوب.

ويطلق البنا ما يسميها «دعوة الإحياء الإسلامي» التي يقع الإنسان في مركزها، وتدعو إلى إضافة الحكمة كأساس للشرع إلى جانب القرآن والسنة، وتجعل العقل حكماً على الأشياء كلها، وتقدم المصلحة على النص إن تعارضا، وتؤكد أن الإسلام دين وأمة وليس دينا ودولة، وتطالب بإزاحة التراث الفقهي كله والذهاب إلى القرآن مباشرة، ومراجعة الأحاديث على أساس المتن وليس السند فحسب، وترفض وظيفة الإفتاء لدى المسلمين، وتعتبرها كهنوتاً جديداً، ولا تقبل بوجود مؤسسات تقوم على الدين، وتعتبر هذا أكليروس لا يعرفه الإسلام.

ولم يقتصر الحديث عن التجديد على المنتجين للمعرفة الإسلامية وخطابها، بل كان شغلاً لكثيرين من الكتاب والمفكرين العرب، قوميين وليبراليين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ها هو زكي نجيب محمود ينشغل بقضية «تجديد الفكر العربي» ويتحدث عن «قيم من التراث» «والمعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» بعد سنوات أمضاها في التتيم بالفكر والفلسفة الغربية، وكان يعتقد أن سواهما لا يستحق النظر أو التقدير. فلما أتيح له الاطلاع على قسط وافر من التراث العربي ـ الإسلامي، وجد أن فيه ما يجب الالتفات إليه، والعناية به، بغية تجديده ليكون ملائماً لواقعنا المعيش، وراح يدلو بدلوه في هذا الأمر، ويعطيه ما يكافئه من التفكير والإنتاج المعرفي.

لكن مصطلح التجديد عاد في تجليه الأخير إلى الخلف خطوات عدة ليتركَّز حول «تجديد الخطاب الديني»، وإن كان هذا الرجوع لا يخص إلا فريقاً، ولا يغلق الباب أبداً أمام من يرفع سقف التجديد إلى مستويات أعلى، كما فعل الخولي والصعيدي والبنا. وقد نشطت المؤسسات الدينية الرسمية، إثر تبني السلطات العربية لهذه القضية استجابة لضغوط الولايات المتحدة عقب أحداث 11 سبتمبر، وصدرت كتب عدة في وقت قصير، من بينها «تجديد الخطاب الديني» لسالم عبد الجليل، و{تجديد الخطاب الديني الفكري والدعوي» للسعيد محمد علي، و{دليل الإمام إلى تجديد الخطاب الديني» لعدد من العلماء والشيوخ والباحثين.

وكانت أهداف هذا التوجه المعلنة تتمثَّل في إعادة تشكيل وعي المسلم وفهمه وتصوراته ورؤاه وفق الوحي والعقل معاً، لإعادة بعث النموذج الإسلامي المفقود وفق مقتضيات الحاضر ومتطلبات الأمة، واستلهام سنن التغير والتطور من التاريخ الإسلامي، وإنزال الفقه على الواقع، وإفساح مجال الاجتهاد، وتعليم الناس جوهر الدين وحقيقته بعد أن حادوا عنه، واختلت لديهم الموازين فجعلوا الفرض نافلة، والنافلة واجباً، وإبراز الوسطية الإسلامية، وتنقية التراث.

ومع هذا فإن تلك العودة إلى الوراء لم تكن سلبية خالصة، لأمرين أساسيين، الأول أن من طالبوا بالتجديد وقفوا إما عند المفاتيح أو المبادئ الأولية، وإما أخفقوا في إعادة تركيب ما فككوه، وتقديم بناء نظري متماسك يكافئ الطموحات التي طرحوها حول التجديد، ولذا أعطوا فرصة لمنتقديهم أن يطلقوا عليهم لقب «المبددين» وليس «المجددين». والثاني أن الطور الأخير للتجديد بدا واسعاً ومتنوعاً وشاركت فيه جماعات علمية ومجموعات بحثية متنوعة المشارب والمناهل والتوجهات العلمية، حيث لم تقف عند حدود المهتمين بعلوم الدين، بل امتدت إلى علماء الاجتماع والسياسة والفلسفة والتربية والأدب والتاريخ، سواء كانوا مسلمين أم مستشرقين. لكن هذا الجهد لا يزال يقع تحت طائلة رد الفعل على مطالبة الغرب لنا بتجديد خطابنا، ما ينال من قوته وتأثيره كثيراً، ويفتح الباب أمام التشكيك في مقصده ومآله.

الاجتهاد... مفتاح الحديث الإسلامي عن التجديد في الإسلام

يتجسد مفتاح الحديث الإسلامي عن قيم الانطلاق والتجديد في الفقه والفكر الإسلامي حول مسألة مركزية وهي «الاجتهاد»، إذ لولا فتح بابه، والشعور بوجوده وضرورة استمراره وتجدده وتعمقه ما كان يمكن الحديث عن نهضة بعد قعود، وصحوة بعد نوم، وتجديد بعد تجميد، وإحياء بعد احتضار.

والاجتهاد لغة هو «بذل الوسع في طلب المقصود»، واصطلاحا هو «استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بقضية أو حكم فقهي»، والاجتهاد يرومه غير المقلد الذي «يأخذ بمذهب غيره دون دليل». وقد اتكأ الاجتهاد في البداية على القياس على القرآن الكريم والسنة النبوية، ثم أخد خطوة إلى الأمام بإضافة «الإجماع» إلي ما يستند عليه، وهي نقلة نوعية في نظر الفقهاء ترفع عن الاجتهاد الظن، وتزيل عنه الخطأ، وتمنحه العصمة، حال اتفاق المسلمين جميعا عليه.

لكن الاجتهاد لم يلبث أن ضاق على يد بعض الفقهاء، ليصبح من اختصاص أولئك الذين لهم الحق في تقرير أحكام يأخذ بها غيرهم. وقد بلغ الاجتهاد ذروته مع أصحاب المذاهب الأربعة، مالك بن أنس وأبو حنيفة النعمان وأحمد بن حنبل والشافعي، الذين أدلوا في كل المسائل المعروضة عليهم بآراء تعتمد على القرآن والسنة والقياس والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب ... الخ، فاتحين باب الاجتهاد على مصراعيه. لكن الذين جاءوا بعدهم وقفوا عندهم، ولم يفعلوا شيئا سوى تقليدهم، أو تقدموا خطوة قليلة من خلال إنتاج الفتوى في مسائل عصرية اعتمادا على فقه المذاهب الأربعة، الذين وعوه عن ظهر قلب.

وقد ظهرت آراء على مدار التاريخ الإسلامي تنادي بغلق باب الاجتهاد لسببين رئيسيين، الأول هو أن الاجتهاد كان لازما في عهد الرسول حيث كان صلى الله عليه وسلم حاضرا، ينزل عليه الوحي بآيات الله، وينطق بالأحاديث، وأمامه الناس يسألونه فيجيب. وبعد انقضاء هذا العهد لم يعد للاجتهاد مكانا، لأن المخول به قد انتقل إلى بارئه. والثاني أن الاجتهاد يصح حين تصح الذمم، وتطهر الضمائر، وتسلم العقائد، ويكثر الصالحون، ويبطل إذا عم الفساد، وخربت الذمم، وضعف اليقين. ففي عهد الفساد تزداد الشبهات التي ينبغي للحاكم أن يدرأها عند إقامة الحدود، وتكثر فيه الضرورات التي عليه أن يقدرها عند توقيع العقاب، وبذا يصبح هو المسؤول عن وضع الحد، ودرء الشبهات، وليس لغيره هذا الحق.

لكن مثل هذا الرأي لم يسمع له طويلا، واقتنعت الأغلبية بضرورة إبقاء باب الاجتهاد مفتوحا، أسوة بالرسول الكريم، الذي اجتهد فيما لا نص فيه، وصحابته الذين اتبعوا خطاه في هذه الناحية. ولم يرق للمتكلمين الذين اعتقدوا أن الإنسان لا يصل بالتقليد إلى إيمان منج. ثم شهدت القرون المتعاقبة من سعوا إلى كسر الجمود والخروج على التقليد، متخففين مما أنتجه من سبقهم، وذاهبين مباشرة إلى النص القرآني والحديث الصحيح، ومن بين هؤلاء ابن تيمية المتوفي سنة 728 هـ، والسيوطي المتوفي سنة 911 هـ، الذي لقب بمجدد عصره، وكان يعتقد في أن كل عصر لابد له من مجدد في فقه الدين.

ويقوم الاجتهاد في رأي الفقهاء القدامى على دعامتين، الأولى هي القياس، والثانية هي المصالح المرسلة. والقياس هو أحد المداخل الأساسية للاجتهاد في نظر كثيرين من الفقهاء، وفي مقدمتهم الإمام القرافي، حيث جادوا بنموذج متكامل الأسس والمقومات لكيفية اتخاذ هذا الأسلوب قاعدة للسياسة الشرعية، عبر أمور ثلاثة، هي:

أ ـ جوهر منهاج القياس هو تبدل الأحكام، وتغير العمل بها، بتبدل الأحوال والأزمان، دورانا لتلك الأحكام حسب تبدل مناطها.

ب ـ ضيق الحال يستوجب التوسعة، ويضفي المشروعية في حال الضرورة والاضطرار على الأحكام الشرعية في المجالات كافة.

ج ـ الأخذ بمسألة تغير العادات والأعراف، وهذا يعد من قبيل تغير مناط الحكم بما علق على استيفائه من عادات وتقاليد أعراف.

من هنا فإن الاجتهاد المتكئ على القياس يدور حول تبدل الأحكام وتغير العمل بها بتغير الأحوال والأزمان حسب تغير مناطها، وكذلك تغير الأعراف والعادات.

ويرى الإمام أبو حامد الغزالي أن الاجتهاد يختلف عن القياس في أن الأول أعم من الثاني، لأنه قد يكون بالنظر في العموميات، ودقائق الألفاظ، وسائر طرق الأدلة سوى القياس، وبهذا يكون الاجتهاد شاملاً القياس وليس العكس. ويحدد الغزالي شروط الاجتهاد في ركائز عدة هي الإسلام والعدالة ومعرفة آيات الأحكام في القرآن الكريم، ومعرفة الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ومعرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، ومعرفة مسائل الإجماع، وعلم أصول الفقه، ومعرفة لسان العرب. ولخص الشاطبي هذه الشروط في فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والتمكن من الاستنباط بناء على هذا الفهم.

back to top