ابتسام عازم في سارق النوم ـ غريب حيفاوي كلّ الفلسطينيّين غرباء وكلّهم حيفاويّون
لا بد للتاريخ من أن يأخذ بعضاً من مصداقيّته من الأدب. وليست القصة أو الرواية اللتان تعملان على إعادة إنتاج الحياة وصياغتها سوى مرآة من مرايا حقيقة الإنسان الوجودية. والسرد طيّع إلى حدّ أنّه يستطيع التحوّل وطناً أو ذاكرة وطن حين يمضي صاحبه في مطاردة الألم وظلاله متبنياً الإنسان والأرض وحركة المد والجزر التي تربطهما، ومهما لاذ الأدب بالمبالغة تبقى هذه المبالغة دون ألم الواقع الكبير.في «سارق النوم – غريب حيفاوي»، تكتفي الأديبة ابتسام عازم بالمأساة الفلسطينية مادة لروايتها. فهي تنسج شخصية تتّسع قامتها وحضورها لكل فلسطيني، ولو أنها على مستوى الأحداث لا تقوم بالأحداث الحياتية التي تستنفد الاحتمالات كلها. غير أن غريب حيفاوي نموذج إنساني يضيء بما فيه من جدليات موشومة بألم الحياة المشهد الفلسطيني الإنساني ممتلئاً.
«غريب» إسم جادت به الغربة على خاطر الأمّ «علياء»، الغربة المنتمية إلى الزمان والمكان الفلسطينيين. و{حيفاوي» إسم يحمل النسبة إلى «حيفا». وفي الإسمين المتتاليين مرارة الغربة الفلسطينية التي لا شيء في الحياة يكسر سمّها، لا العلم، ولا المال، ولا الجنس، ولا الهجرة...غريب حيفاوي، بطل «سارق النوم»، وُلد في عام النكسة 1948، وحاول أن يتفاءل بزمن ولادته، غير أنّ الزمن الزائر فلسطين بعد هذه الولادة كان الأسود لونه المفضّل، وأسود الحداد تحديداً لا أسود الأناقة والجمال.ترفع ابتسام عازم ستارة السرد، ليبدو «غريب» مرمياً على الشاطئ نفايات بشرية، بعدما أخذ نصيبه من الضرب والتعذيب والإهانة، عقاباً على مشاركته في تظاهرة هتاف ورمي حجارة. وعلى الشاطئ نفسه، وقبل أسبوع كان لـ{غريب» لقاء عاشق مع «همسة» فنهب جسدها في زمن وقح ينهب الأحلام ويحترف وأدها، وفي مكان ما كان يراه يتّسع، للحياة والموت، للرجاء واليأس، للذكرى وللنسيان، في آن.فلسطين و{همسة» تتداخلان: وطن في أنثى، وأنثى في وطن. و{همسة» هي التي دعت «غريب» إلى همّ فلسطين وهو البعيد كلّ البعد عن نضال الشارع: «غريب حبيبي! خلّينا نروح عالمظاهره نتضامن مع أهل الضفة...».إلى الشاطئ وصلت «همسة» بينما قطعان النمل تجتاح جسد حبيبها، وأمسكته بيده ومشيا نحو الحياة مجدداً، نحو الدخول أكثر فأكثر إلى جدلية الحب والحرب، الـ{أنا» والـ{هم»، حيث تلتبس الظلال، وتفترس القضية حميميات أهلها، وتصير الشجاعة ضرباً من البطولة حيناً وضرباً من الحماقة حيناً آخر... كان «غريب» في سنته الجامعية الثانية عندما استدُعي للتحقيق معه، وكان قد مضى على آخر حجر رماه أربع سنوات: «عندما رميت آخر حجر نذرته لهمسة. لكن الأحجار التي سبقته كانت من أجل أشياء أخرى، منها الرغبة بأن أطرد الخوف من داخلي». وحُكم بالسجن سنة ونصف السنة لأنه رفض الاعتذار. لم يعتذر «غريب»، فهو يريد أن يصل إلى فلسطين مثلما يريد أن يصل إلى «همسة» على رغم أنّه يعرف رأي أبيه جيّداً في القضيتين: «همسة» بالنسبة إليه امرأة «مستعملة» وكانت لرجل آخر قبل ابنه، وفلسطين لا أمل باسترجاعها نضالاً: «لو صرت حتى الله، بتظلك الله عربي وقيمته أقل بالنسبة إليهم».في سوق بن يهودا، في القدس الغربية، التقى «غريب» الفتى الفلسطيني «شاهين» بيّاع الأقلام. رآه «غريباً» ثانياً. ذكّره ببيع الأفوكادو وطرق الأبواب صغيراً: «توقفت عن أكل الأفوكادو منذ ذلك اليوم الذي بدأت أبيعه». «شاهين» يعمل لأن أباه مسجون وعليه أن يساعد أمه و{غريب» عمل لأن كلفة الحياة ثقلت على كتفي أبيه. أطفال فلسطين يتلقّون الطعنات في أرواحهم قبل أن يصيروا رجالاً. طالت قصة «غريب» مع «شاهين» لأنها استحضار واسترجاع لزمن الطفولة القاسي. اشترى «غريب» أقلاماً تكفي لصناعة أثاث بيت: «راودتني فكرة أن أصنع سريراً وطاولة وكرسياً من أقلام الرصاص»، وأخيرا خسر «شاهينه». ربما لأنه حاول في المرة الأخيرة التي رآه فيها أن يعطيه المال من دون أن يأخذ الأقلام فرفض أن يكون شحاذاً، وربما لأن بياع الأقلام قضى بانفجار ولو أن اسمه لم يكن بين الأسماء التي تداولتها وسائل الإعلام...وعلى امتداد السرد يظهر «غريب» فلسطينياً بامتياز. وتأتي حادثة المطار ذات دلالات مشحونة بكثير من الألم. فغريب ألغى سفره إلى قبرص بسبب معاملته معاملة عادية ونجاته من إهانة التفتيش الذي يخضع له المسافرون الفلسطينيون: «مهما يكن شعرت وكأنه لا يمكنني السفر مع هذا الكمّ من المعاملة العادية».أما «همسة» فشخصية طلبت منها الكاتبة الانسحاب في منتصف السرد، بعدما عرفت من «غريب» أن الزواج مشروع بعيد. وحقيقة الأمر أن رفض والد «غريب» هذا الزواج هو صلب المسألة، وغريب لا يجرؤ على مواجهة أبيه. لكن اللافت في المساحات النصية المخصصة لـ{همسة» طغيان الجنس، وكأن عازم ترضي شخصية «غريب» الشاب الفلسطيني بقليل من المرأة لأن الكثير الذي يأتي به الزواج وما بعده غير وارد. «همسة» وفلسطين مشروعا بيت وعائلة وسلام وفرح وطمأنينة واستقرار ولا مجال للوصول إلى نهايتيهما السعيدتين في الزمن الفلسطيني القاتل.وعلى الدرج يسقط «غريب» تحت تأثير الخمر تاركاً الحفلة العامرة في بيت صديقه «داني» بينما المدعوون ينظرون إليه من النوافذ بشفقة لا تتخطى العيون باعتباره مجرّد فلسطيني ليس متعوّداً على الشرب. وفي الحديقة يرمى بعد ما أخرج من المتحف لصراخه أمام تمثال أمّه «علياء» المنهمكة بعجن خبز الطابون: «ماتت علياء وأصبحت معروضة يأتي السياح لتأمّلها»... في «سارق النوم» لا ينجو «غريب» من السقوط أرضاً. فهو يسقط أمام الجميع وينتقل من هزيمة إلى أخرى وآخر هزائمه كانت مع الفتاة اليهودية التي تتألم لليهود الذين أعدمهم الإنكليز وتتجاهل العرب الذين واجهوا المصير نفسه. وتأتي النهاية ليبدو «غريب» في المشهد الأخير محاصراً بقطيع من الكلاب ينهشه، لكن هذه المرة تسقط أنياب الكلاب ويسلم منها، من دون أن يسلم من التحقيق ليعترف بأنه إنسان بلا هوية وبلا قومية: «أنت لا تفهمني! لا علاقة لي بإسرائيل. هي موجودة وأنا كذلك، ولكن لا علاقة بيننا. نتشارك نفس المكان، بل إننا لا نتشارك نفس المكان. لكل منا مساحته ووهمه».نجحت الأديبة ابتسام عازم في إظهار الواقع الفلسطيني الطاعن في التأزم من خلال شخصية «غريب حيفاوي» ولم تخصّص نافذة واحدة من نوافذ نصّها الموجوع للتفاؤل. فغريب يخسر كلّ شيء ولا يتذوّق فاكهة الانتصار ولو في حدث متواضع. حتى بياع الأقلام «شاهين» خسره لأسباب بقيت غامضة بالنسبة إليه.كذلك، نجحت عازم في أداء نصّ فنّي ناجح يميّزه الوصف، والأسلوب المنتسب إلى نبض الحياة، والتشويق الدائم الحضور وإن لم يكن «سارق النوم» رواية أو سيرة متماسكة إلا أنه أوراق من حياة تجتاز صاحبها لتختصر سيرة وطن.