هويّة والد أوباما الحقيقيَّة

نشر في 22-10-2010 | 00:00
آخر تحديث 22-10-2010 | 00:00
أعتقد أنني أحد أميركيين قلائل عرفوا والد الرئيس باراك أوباما ولا يزالون على قيد الحياة ويتمتعون بكل قواهم العقلية، إلا أنني لم أتلمّس أياً من ملامح هذا الرجل في ما ذكره دنيش دسوزا في مقاله The dreams from his father (أحلام والده)، المنشور في باب Washington Forum في هذه الصحيفة في عدد 8 أكتوبر (تشرين الأول).

كان باراك أوباما الأب طالب دراسات عليا في قسم الاقتصاد في جامعة هارفارد، بينما كنت أعدّ رسالة الدكتوراه في قسم الإدارة الحكومية. وكان يُشارك زوجتي في عدد من الصفوف التي تحضرها (كانت أيضاً طالبة في قسم الاقتصاد). هكذا التقينا وتعارفنا. لا أدّعي أننا صديقان حميمان، غير أننا كنا مقرّبَين كفاية لندعوه إلى حفلة زفافنا في نيويورك في يونيو (حزيران) عام 1964. كذلك، أعطيناه رقم هاتف ذوي زوجتي في مانهاتن ليتصل بهم في حال واجه صعوبة في العثور على مكان إقامة.

لم يحضر أوباما الأب حفلة الزفاف، لكنه اتصل بزوجتي في شقة أهلها في الثالثة صباحاً يوم الزفاف، مخبراً إياها بأن هذه عادة كينية. وبدا مرحاً جداً، بعد أن احتسى على الأرجح بضع كؤوس. فهو لم يمتنع عن هذه العادة أبداً، إذ تناولنا معاً في مناسبات عدة البيرة في حانات يقصدها الطلاب في كامبريدج.

بدا لي أوباما الأب رجلاً مثقفاً متحضّراً غربيّ الميول. صحيح أنه كان يساري النزعة، لكنه لم يختلف في ذلك عن كثير من طلاب قسم الاقتصاد الأجانب القادمين من الهند وباكستان وغيرهما من بلدان العالم الثالث. كان أوباما شخصاً مرحاً يتمتع بحس فكاهة وبمواهب مسرحية لم يتورّع عن إظهارها بصوته الرخيم.

لكنه كان عموماً رجلاً رصيناً (مع أننا لم نستطع أحياناً التمييز بين مزاحه وكلامه الجدّي) وكتوماً لا يطلع أحداً على خصوصياته، حتى أن زملاء صفه اعتبروه غامضاً.

اعتاد أوباما الاختفاء أحياناً (مسافراً على الأرجح في رحلات تتعلق بمنحته) ليعاود الظهور بعد فترة. وبدا مزاجه بعد هذه الرحلات عالياً ومظهره لافتاً، كمن حقق إنجازاً كبيراً. عرف الجميع أنه مقرب من توم مبويا، سياسي كيني بارز ظن كثر أنه سيكون صديق الغرب. اعتقد بعض أصدقائه في قسم الاقتصاد أن أوباما الأب كان يقوم بمهمة ما بتفويض من مبويا، لكن لم يسعهم التأكد من ذلك.

استغلّ دسوزا إلى أبعد الحدود مقالاً واحداً نُشر عام 1965 ليدعم ادعاءاته بشأن معاداة أوباما الأب الاستعمار ونضاله في هذا المجال. فمن التفاصيل التي زعم أنها معبّرة، إشارة أوباما بمرارة إلى التحكّم الصيني (والأوروبي) في الاقتصاد الكيني. لكني أعرف من بعض مقررات التنمية الاقتصادية التي درستها آنذاك أن الدور الصيني في اقتصادات العالم الثالث في أفريقيا وآسيا شكّل محور مناقشات كثيرة واعتُبر مشكلة. وبالنظر إلى المناخ السياسي السائد آنذاك، نفهم أن خطاب أوباما الأب لا ينمّ عن معاداة شرسة للغرب.

وعند الاطلاع على كتاب Dreams From My Father (أحلام من أبي)، يتبيّن أن محتواه لا يدعم ادعاء دسوزا أن الرئيس ورث أصولية سياسية من والده. وما يشدد على هذه الفكرة خصوصاً، المقاطع التي يشير فيها أوباما الإبن إلى والده بأنه رجلُ منطق يدافع عن الحداثة في وجه القبلية والفساد، وبأن الرئيس الكيني جومو كينياتا يكرهه لأنه عارض ممارساته الفاسدة وسياساته القبلية. فضلاً عن ذلك، لا يعود تحديد الرئيس أوباما هويته كرجل أسود إلى والده، بل إلى مرحلة أكثر غموضاً عاشها على ما يبدو في سنوات مراهقته أو بعدها بقليل.

لا يبدو الرئيس أوباما في كتابه هذا متمسكاً بهويته السوداء بسبب الغضب أو إحساسه العميق بالظلم الاجتماعي أو الإهانات المرة. تنبع هويته هذه من تفكيره، وتتأصل في نظرة من عملية تفرض على الإنسان أن يختار إما يكون أبيض أو أسود. وبما أن بشرته سوداء، عليه أن يتقبل هذا الواقع، مدركاً في الوقت عينه أنه يتمتع بدور مميز. فهو جسر بين العروق وشخص يستطيع الجمع بين مختلف التقاليد.

وتشكّل هذه النزعة المتجردة العلمية العميقة مصدر جاذبية الرئيس أوباما وغضب منتقديه. نتقبّل أن يكون لسياسيينا مبادئهم الخاصة ونتسامح في الكثير، إذا شعرنا أننا نعي ما يمثلونه. لكن الرئيس أوباما سياسي تتبدل ميوله مع الرياح السياسية، بينما يسعى إلى إرضاء هذا الجزء أو ذاك من ائتلافه، مثيراً في النهاية استياء الجميع.

على رغم ذلك، لا يُعتبر الرئيس أوباما معادياً شرساً للاستعمار. صحيح أن للمحافظين أسباباً كثيرة لانتقاد الرئيس ومعارضته، لكن الحقائق المشوّهة، كتلك التي عرضها دسوزا، لا تؤثر مطلقاً في الحوار السياسي.

•سميث أحد كبار موظفي معهد بروكينغز المتقاعدين وبروفسور زائر في كلية السياسة العامة في جامعة جورج ماسون.

back to top