طوفان الرعب من الشرق: مسلمون أمام المغول 7 سقوط بخارى درّة العِلم وسمرقند حاضرة بلاد ما وراء النهر

نشر في 05-09-2010 | 00:00
آخر تحديث 05-09-2010 | 00:00
في غرة ذي الحجة لعام 616 في التقويم الهجري، الموافق 7 فبراير (شباط) 1220 في التقويم الميلادي، حطّ جنكيز خان وجيشه أمام بخارى (تقع في دولة أوزبكستان حالياً)، إحدى قلاع الإسلام الضخمة آنذاك وكانت محاطة بسور طوله 12 فرسخاً (الفرسخ يساوي 3 أميال)، تلوح من داخلها المآذن وأبراج القصور وتنتشر الخضرة حولها كبساط سندسي يتعانق مع زرقة السماء في مشهد يخلب الأبصار.

تصدّى جند الحامية (غالبيتهم من الأتراك) لهجمات المغول المتتالية على مدى ثلاثة أيام وكان هؤلاء دفعوا بالأسرى المسلمين أمامهم كدروع بشرية وهم يتقدمون نحو الأسوار، فلما اقتربوا منها قرر ضباط الحامية ترك مواقعهم واللحاق بالشاة، فخرجوا تحت ستار الظلام بجنودهم من إحدى البوابات متجهين صوب نهر جيجون، تغافل المغول عن هروبهم وسمحوا لهم عمداً بالمرور ثم تعقبوهم بثلاث فرق حتى التقوا بهم قرب النهر وذبحوهم عن آخرهم.

بهروب حامية المدينة، أجمع السكان على الاستسلام، فتقدم أعيان بخارى على رأسهم قاضي المدينة الشيخ بدر الدين قاضي خان إلى جنكيز خان وعرضوا عليه مفاتيح المدينة طالبين منه الأمان للأهالي، فأجابهم جنكيز خان إلى ما طلبوا وفتحت بخارى أبوابها للمغول في الرابع من ذي الحجة عام 616 هـ، (10 فبراير 1220) الذين تدفقوا كالطوفان يملأون طرقات المدينة وشوارعها.

في طريقه إلى قلب المدينة لفت نظر جنكيز خان المسجد بضخامته وفخامته، فدخله على صهوة جواده ووقف أمام المحراب، في حين صعد ابنه تولوي المنبر وسأل جنكيز خان مرافقيه من أهل البلد: أهذا قصر السلطان؟ فأجابوه: هذا بيت الله، فنزل عن جواده وصعد بضع درجات على منبره، ثم صاح صيحة الفاتح المظفر مخاطباً الجموع: «خلت السهول من المراعي ونفذت الأعلاف، فافتحوا مخازن البلدة واملؤوا بطون جيادكم».

نهب وسلب

عندها اندفع المغول في أعمال النهب والسلب بفرح وبهجة، فانتشروا في شوارع بخارى كالوحوش الضارية وحملوا كل ما يصادفهم من أنواع المتاع، ونهبوا مخازن الحبوب والغلال في وقت هتك من كان مع جنكيز خان حرمة المسجد بطرق لا يتصورها عقل، أما علماء بخارى وفقهاؤها فأدخلوهم اصطبلات الخيل وزرائب المواشي ليتولوا خدمتها.

على عكس المدينة التي استسلمت بسرعة ظلت حامية القلعة تقاوم 11 يوماً وبعدها سقطت، ولما رأى جنكيز خان الخسائر الفادحة التي لحقت بجنوده مع أن عدد جنود القلعة لا يتجاوز الـ 400 جندي، جن جنونه، وأمر فوراً بإخراج السكان من المدينة، ثم دخل المغول وقتلوا كل من سولت له نفسه البقاء فيها، كهلا كان أو امرأة أو حتى طفلا، ثم أمر الخاقان بإضرام النار في البيوت والمباني والمساجد... هكذا تصاعدت ألسنة اللهب نحو السماء، وبدا كأن الجحيم فتح أبوابه في بخارى.

أما السكان الذين امتثلوا لأوامره وخرجوا من المدينة، فقتل منهم حوالي 30 ألفاً من دون أن يفرّق بين رجل وامرأة وطفل، واحتفظ بعدد كبير مقيدين وساقهم أسرى أمامه ليستخدمهم كدروع بشرية لدى اجتياح سمرقند، ثم هبّ جنوده كالوحوش الضارية يغتصبون النساء بوحشية غير مسبوقة.

بعد بخارى جاء دور سمرقند، حاضرة إقليم ما وراء النهر، التي فتحها المسلمون عام 55 هـ في عهد معاوية.

كانت سمرقند تقع على ربوة عالية وحولها سور منيع أحيط بخندق عميق تدخل عبره مياه النهر إليها فوق مجرى من الرصاص محمول على أعمدة قائمة في الخندق، وكانت مثل بخارى مكونة من ثلاثة أقسام، في الجنوب توجد قلعتها المنيعة، ثم المدينة الأصلية، ثم الضاحية، ولسورها 12 باباً حديدياً، بين كل بوابة وأخرى مقدار فرسخ، ولها بابان رئيسيان: باب الصين يقع في شرقها والباب الكبير يقع في غربها.

في مايو 1220، لحقت بالجيش المغولي الذي كان يحاصر سمرقند أعداد لا تحصى من الأسرى، فلجأ جنكيز خان إلى حيلة في غاية الذكاء، إذ قسم الأسرى إلى مجموعات من 10 أشخاص، وأعطى كل مجموعة علماً لإيهام من يراهم بكثرة عدد جيش المغول فيدبّ الرعب في نفوس سكان المدينة، وهو ما حدث بالضبط، فبمجرد أن رأى السكان هذه الجموع التي تحمل أعلام المغول حتى ظنوا أن جيش المغول لديه كل هذه الجحافل من المقاتلين.

إبادة 70 ألف مواطن

شنّ أهالي المدينة هجوماً عنيفاً تقهقر أمامه المغول تقهقراً ظاهرياً، كعادتهم، لاستدراجهم إلى كمين أعدوه مسبقاً، من ثم طوقوهم من كل ناحية ومنعوهم من الرجوع إلى المدينة، فأبادوهم وبلغ عدد القتلى بين 50 إلى 70 ألف مواطن.

في صبيحة اليوم التالي استؤنفت الحرب وظلت رحاها تدور إلى ما بعد صلاة العشاء، واستمرّ إطلاق المنجانيق والنبال والحجارة طوال الليل، وانتشرت وحدات المغول الانتحارية على الأبواب لمنع الجند من الخروج، فلما سُدَّ ميدان المبارزة في وجوههم، أطلق جنود الحامية الفيلة، إلا أن المغول أرهبوها بصياحهم وسهامهم، فقتلوا بعضها وهرب البعض الآخر.

كان لحصيلة قتلى اليوم الثالث وقع رهيب في نفوس السكان، زاده سوءاً وصول نبأ المجزرة التي هلك فيها الأهالي، ففقدوا كل رغبة في المقاومة والصمود، وجاءت الطامة الكبرى عندما أحجم الجيش الخوارزمي عن قتال المغول، فتسلل قرابة 35 ألف مقاتل من الجنود الأتراك بقيادة «طوغان خان» مع عائلاتهم وأمتعتهم، وسلموا أنفسهم بمحض اختيارهم لقادة المغول، وتحججوا أنهم يتحدرون من جذورهم، فتظاهر المغول بتصديقهم وأحسنوا استقبالهم وخلعوا عليهم كسوات عسكرية مغولية، ثم ذبحوهم عن آخرهم خلال يومين.

إزاء هذه الأوضاع لم يجد الأهالي بداً من الاستسلام، فخرج قاضي المدينة وشيخ الإسلام يتبعهما علية القوم للقاء جنكيز خان، وعرضوا عليه تسليم المدينة على أن يبقي على أرواح ساكنيها وممتلكاتهم، فوافقهم، واتفق معهم على أن يدخل هو من باب المدينة الشمالي ويدخل باقي المغول من كل الأبواب.

وفي يوم 17 مارس من عام 1220 فتحت سمرقند، أعظم بقاع الأرض تألقا وازدهاراً في زمنها، أبوابها لجيوش المغول الهمجية كالوحوش الضارية، يصف ابن الأثير هذا المشهد، قائلا:

«فلما كان اليوم الرابع، نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم، ومن تأخر قتلوه، فخرج الرجال والنساء والصبيان، ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلهم مع أهل بخارى، من النهب والقتل والسبي والفساد، ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه، وافتضوا الأبكار وعذبوا الناس بأنواع من العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة....».

بسقوط سمرقند انهار آخر وأقوى خط دفاعي كان يعتمد عليه السلطان علاء الدين في تصديه للمغول، وأضحت الإمبراطورية الخوارزمية، التي كانت واحدة من أكبر إمبراطوريات العالم آنذاك، مفككة في طريقها للانهيار، فدبّ الرعب في قلب السلطان من هول الكارثة التي حلّت به، ولم يكن أمامه من سبيل سوى الفرار إلى مناطق بعيدة لا تصلها أقدام المغول، ريثما يجتمع عنده الجند الفارون من جبهات القتال، فاتجه نحو جنوب نهر سيحون في طريقه إلى مدينة بلخ على حافة سلسلة مرتفعات أفغانستان الشاهقة، وفكر الشاه في أن يدخل الأراضي الأفغانية حيث يجمع جيشاً من قبائل الحدود الأفغانية، المحاربة بالفطرة، ويعود ليقاتل بها المغول، لكنه ما لبث أن استدار نحو الغرب، عابراً الصحارى القاحلة صوب المنطقة الجبلية الواقعة إلى شمال فارس، حيث استقرّ في نيسابور بعض الوقت، وخيل إليه أنه في مأمن من المغول بعد ابتعاده عنهم قرابة الـ500 ميل.

كان قائدا المغول سابوتاي وشيبة نويون على رأس فرقتيهما يجدّون في أثر السلطان علاء الدين، فواجههم نهر جيجون بعمقه واتساعه ولم يكن لديهم سفن أو قوارب، لكن المغول كعادتهم في القتال كانوا يقهرون المستحيل، فعبروا النهر من دون سفن، إذ صنعوا أحواضاً كبيرة من الخشب وكسوها بجلود البقر لئلا يتسرب إليها الماء، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم، وشدوها إلى أجسامهم، وأنزلوا خيولهم في الماء، وأمسكوا بأذنابها، فكان الحصان يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض، حتى وصلوا إلى الضفة الأخرى للنهر.

من حيث عبروا، توغل المغول في منطقة تركستان الأفغانية حتى وصلوا مدينة بلخ التابعة لخراسان، ولما سمع وجهاء المدينة بقدومهم أرسلوا إليهم رسلا ومعهم هدايا، لكن أوامر جنكيز خان كانت صريحة في ألا يضيّعوا أي وقت حتى يصلوا إلى السلطان علاء الدين ولما علموا بفرار الشاه منها جدّوا في السير نحو الغرب.

الدعاية المرعبة

وصل المغول إلى نيسابور وأرسلوا الرسل وكانت مهمتهم كسب نصف المعركة بالدعاية المرعبة ونشر الأخبار المفزعة عن جحافل المغول وعددهم وعدتهم ووحشيتهم، وأنهم لا يرحمون من يقف أمامهم، وأن الاستسلام هو الحلّ الوحيد لضمان حياتهم وأملاكهم، وكان أهل نيسابور قد علموا بما جرى في أترار وبخارى وسمرقند وغيرها من بلاد واقعة على ضفاف نهري جيحون وسيحون، فخضع سكان نيسابور خضوعاً اسمياً للمغول خوفاً من تهديدات جنكيز خان، ثم تابع القائدان طريقهما في تعقب السلطان الفار، وكانت محطتهما التالية مدينة «طوس» (شرق مدينة مشهد في إيران حالياً)، وفيها لم يطلبا سوى الاعتراف الإسمي بسلطة المغول، ثم استأنفا سيرهما في تعقب أثر السلطان علاء الدين، وبناء على المعلومات التي جمعاها من الأهالي، انقسم القائدان، فاتجه سابوتاي مباشرة إلى «الري»، واتجه شيبة نويون إلى قلعة مازندان، فملكها خلال وقت قصير على رغم حصانتها وقوتها، وفي طريقه إلى الري للالتحاق بزميله عثر على «تركان خاتون»، أم السلطان علاء الدين، ونسائه وأطفاله وذخائره، وكانت تركت خوارزم واتجهت إلى الري في طريقها إلى أصفهان، فأخذها مع جواريها والجواهر والصناديق المحملة على الجمال والتي تحوي كنوز السلطان علاء وثروته، ثم أرسلها إلى جنكيز خان في سمرقند وظلت أسيرة عندهم حتى عادوا بها إلى الجوبي.

وصل المغول إلى الري على حين غفلة من أهلها وكانت الحالة الداخلية في المدينة خير معين لهم في الاستيلاء عليها، إذ اختلف أتباع المذاهب الإسلامية الأربعة الشهيرة في ما بينهم في تفسير بعض النصوص، وانقسموا إلى فريقين، الشافعية والحنفية ضد المالكية والحنابلة وتحوّل الخلاف إلى خصومة، فلما حاصر المغول المدينة خرج قاضي قضاة المذهب الشافعي إليهم واتفق معهم ضد المالكية والحنابلة، وسلمهم مفاتيح المدينة، لينتقموا له منهم (!!)، فتدفقت جموع المغول وجزوا بسيوفهم رقاب المسلمين أتباع المذهبين المالكي والحنبلي، الذين كانوا يشكّلون نصف سكان المدينة، فلما انتهوا من قتلهم جميعاً التفتوا إلى أتباع المذهبين الشافعي والحنفي وبدأوا بقاضي القضاة وقتلوهم عن آخرهم.

كان السلطان في ذلك الحين قد وصل مدينة «رشت» على شاطئ بحر قزوين وحاول جمع جيش وضعته الولايات الفارسية تحت تصرفه، لكنه بعد علمه بسقوط الري أصابه الهلع، فترك رشت إلى قزوين وكان أحد أبنائه على رأس قوة قوامها 30 ألف جندي.

سيف المغول

تمكن الخوف الذي شيعه المغول من الجميع وأصبح كل واحد من أتباع السلطان لا يفكّر إلا في نفسه، فبدا واضحاً أن سيف المغول سيصل إلى رقاب الجميع، استقر رأي السلطان على الرحيل إلى بغداد، على رغم الخصومة بينه وبين الخليفة العباسي ورفع اسمه من الدعاء له على المنابر، هكذا اتخذ طريقه نحو المدينة لكنه لما سمع بقدوم المغول للحاق به في همدان عدل عن الفكرة وعاد إلى بحر قزوين.

اقترب المغول بالفعل من موكب السلطان المتواضع وتساقطت حوله السهام المغولية من دون أن يعرفوا شخصيته، لكنه تمكن من الفرار في غابات شاطئ بحر قزوين، إلا أن رجاله من الأتراك ما لبثوا أن ثاروا عليه وقرروا التخلص منه، فأمضى ليلته في خيمة متواضعة بالقرب من خيمته السلطانية التي تعمد أن يتركها مهجورة، وفي الصباح رأى الخيمة المهجورة وقد رشقتها السهام من كل ناحية.

صاح الشاه يخاطب من تبقى حوله: «أما من مكان فوق هذه الأرض أكون فيه آمنا من المغول؟» أشار من معه عليه باللجوء إلى إحدى جزر بحر قزوين، والتي لا تبعد كثيراً عن ساحل مازندان.

أخذ علاء الدين بنصيحة أحد مرافقيه، فتنكّر مصطحباً بعض أتباعه، واجتاز المفاوز قاصداً بلدة صغيرة على الشاطئ الغربي لبحر قزوين يعمل أهلها في صيد السمك، وأصر الشاه على أداء الصلاة في الجامع، وبما أن شخصيته لم تعد مجهولة وشى به أحد المسلمين الذين نالهم اضطهاد منه سابقاً لدى المغول، فاندفعوا نحو القرية التي أوت السلطان بينما كان يعدّ العدة ليستقل أحد قوارب الصيد.

انهمرت السهام فوق رأس الشاة، لكن القارب أفلح في الابتعاد عن الشاطئ، فتبعه فرسان المغول فوق صهوات خيولهم في مياه النهر، واستمرت المطاردة حتى حلّ التعب بهؤلاء وطوت الأمواج جثثهم، وبذلك تخلص الشاه نهائياً من خطر المغول.

كان السلطان قد أنهكه المرض والتعب وأذلّه الهوان والفرار من بلد إلى آخر، يقول محمد بن أحمد النسوي الخوارزمي، وكان معاصراً تلك الفترة، في مؤلفه الشهير «سيرة السلطان جلال الدين منكبرتي» ويصف حالة السلطان على ظهر قارب الصيد:

«حدثني غير واحد ممن كانوا مع السلطان في المركب، قالوا: كنا نسوق المركب وبالسلطان من علة ذات الجنب ما آيسه من الحياة، وهو يظهر الاكتئاب ضجراً ويقول: لم يبق لنا مما ملكناه من الأرض قدر ذراعين نحفر فنقبر، فما الدنيا لساكنها بدار ولا ركونه إليها سوى انخداع واغترار، فما هي إلا رباط يدخل من باب ويخرج من باب، فاعتبروا يا أولي الأبصار».

استقرّ المقام بالسلطان علاء الدين في جزيرة «أبيسكون» الصغيرة في بحر قزوين، واتخذ من إحدى الخيام مسكناً له، وكان الأهالي على شاطئ مازندان يأتونه بما يلزمه من ضروريات الحياة، وأضحت آلامه تزداد يوماً بعد يوم، فلما أحس بدنو أجله، استدعى أبناءه الكبار، أزلاغ شاة ومنكبرتي شاة وأق شاة، وفي حضورهم خلع ابنه أزلاغ شاة من ولاية العهد وأسند رئاسة الدولة إلى ابنه منكبرتي (السلطان جلال الدين منكبرتي)، تقديراً منه بأن منكبرتي هو الوحيد القادر على حماية ما تبقى من أملاك للإمبراطورية.

على رغم شدة إعيائه، تحامل على نفسه ووقف على رجليه وشدّ سيفه بيده على ولده منكبرتي، عاش قرابة شهر في تلك الجزيرة الموحشة وحيدًا شريدًا، ذهب عنه سلطانه وضاعت دولته وفقد جاهه وملكه أمام إعصار المغول المدمّر، الذي اجتاح كل شيء، وأمضى أيامًا كئيبة يتذكر ما مضى من حياته ولا يكاد يصدق ما حدث له من محن وما حلّ به من كوارث، ولم يجد عزاء إلا في البكاء الحار لعله يخفف ما في نفسه من ألم وحسرة.

يتلفت حوله فلا يجد من أسرته سوى ثلاثة من أبنائه نجوا من مذابح المغول بعدما وقعت أمه في أسرهم وقتل نساؤه وأطفاله، ويتذكر خدمه وحاشيته وما كان فيه من أبهة وجاه فلا يجد حوله سوى أناس فقراء يأتون إليه بما يسد جوعه، ويزيد من حسرته الأنباء التي تصله عن اجتياح المغول لبلاده وتساقط حواضرها كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف فاشتدّ عليه المرض وأسلم الروح في 13 شوال سنة 617 هـ (10 ديسمبر 1220م)، وكان قد بلغ به الفقر والعوز درجة أن الناس لم يجدوا له كفناً يسترون جثمانه به، فخلع أحد المقربين إليه، وكان يدعى شمس الدين محمود، قميصه وكفنه به.

لم يعلم جنكيز خان بما حدث للشاة، ولا أين يوجد وما إذا كان حياً أو ميتاً، لكنه خطر له أن الشاه قد يلاقي ابنه منكبرتي الذي كان يطوف في البلاد يجمع الجند لصدّ المغول، لكن الخاقان كان يعدّ العدة للاستيلاء على مدينة جرجانية الواقعة عند رأس دلتا نهر جيحون بالقرب من ساحل بحر أرال وتحيط بها أراضٍ صحراوية لا تشجع الغزاة على تخريبها، وعلى رغم أن الاستيلاء على جرجانية لم يكن في خطته، لكنها بدت له لقمة سائغة بعد خراب الإقليم كله.

اتخذ جنكيز خان الاحتياطات الكفيلة بالتغلب على صعوبة الموقع وكثافة السكان، فأمر أولا ابنيه أوكتاي وجفتاي بالتحرك من إقليم ما وراء النهر والتوجه إلى جرجانية، واستدعى جوجي الذي كان مرابطاً في جند.

لم يكن جلال الدين، وقد أصبح سلطان البلاد، على علم بمجريات الأمور وكان غافلا لحقيقة ما نزل بالدولة، وظل على غفلته تلك حتى دهمته طلائع المغول، فتصدى جيشه لهم، وكعادة المغول في القتال، تقهقروا وتصنعوا الفرار ليستدرجوا عدوهم ثم يلتفوا حوله، فسار الجيش الخوارزمي في تعقبهم حتى أصبح خارج الأسوار، فطوقه المغول من كل جانب، وقتلوهم عن آخرهم بلا شفقة ولا رحمة.

وفي صبيحة اليوم التالي وصلت جموع المغول وعلى رأسها أوكتاي وجفتاي إلى مشارف جرجانية، ثم لحق بهم جوجي بقواته، فبلغ مجموع المغول أكثر من 100 ألف، وبناء على تعليمات جنكيز خان أسندت القيادة إلى جوجي،حيث أرسل إلى أهالي جرجانية رسالة يطلب منهم تسليم المدينة.

مسالمة ومقاومة

اتجه أعيان المدينة إلى المسالمة، لكن الأهالي أصروا على المقاومة والدفاع عن حاضرة بلادهم واستعدوا لملاقاة المغول الذين جهزوا بدورهم أدوات الحصار والقتال فنصبوا المنجانيق وآلات الحرب وأقاموا المتاريس وأبراج تسلق الأسوار.

فيما كان المغول الذين يحاصرون المدينة يعملون بأقصى همّة لاقتحامها، قدم إليهم كثير من الأسرى فاستغلوهم على الفور في ردم الخنادق المحيطة بالمدينة وقد استغرقت هذه العملية عشرة أيام، ثم أمروهم بالحفر تحت الأسوار للعمل على انهيارها بسهولة، ولم يبق أمام المغول سوى رمي الأهالي بقوارير النفط الحارقة، ما أدى إلى اشتعال النيران في أماكن متفرقة من المدينة، وتحت وابل من قذائف المنجانيق وقوارير النفط، قذف ثلاثة آلاف مغولي بأنفسهم على الجسر الذي يقسم المدينة إلى قسمين وقطعوه، لكن الأهالي قابلوهم بهجوم غير متوقع، وأفنوهم عن آخرهم.

استاء جنكيز خان لما حدث، وقرر إسناد قيادة الجيش الذي يحاصر جرجانية إلى أوكتاي فنجح هذا الأخير في إعادة النظام إلى الجيش المغولي، ولما اطمأن إلى سلامة موقفه أمر بالهجوم الكاسح على المدينة، وتدفقت جموع المغول بصيحاتها المرعبة، واستمات السكان في الدفاع عن مدينتهم ببسالة فائقة، وأخذ المغول يقذفون المنازل والحصون بالحجارة وقوارير النفط المشتعلة، حتى تمكنوا من دك الحصون واقتحام المدينة رافعين راياتهم فوق أبراج أسوارها.

لم تستسلم المدينة كما استسلمت المدن التي اجتاحها المغول، بل واجههم أهالي جرجانية بمقاومة باسلة، فدخلوا في أعنف قتال شهدوه منذ خروجهم إلى بلاد ما وراء النهر، واستمر السكان سبعة أيام يقاتلون الغزاة، حتى وجدوا أنفسهم وقد حوصروا في ثلاثة أحياء ونفد زادهم وسلاحهم وضاقت بهم سبل النجاة.

back to top