كيف خسرنا لبنان؟
تسري شائعات كثيرة عن أن الحريري سيتنصل من المحكمة، مقوّضاً بذلك شرعية ما ستتوصل إليه، أو أنه سيتشبث بموقفه ما يدفع بـ"حزب الله" إلى الإطاحة بالحكومة التي يملك فيها مركز أقلية قوي، بينما تشير روايات أخرى إلى احتمال تجدد الحرب الأهلية. لذلك أقل ما يستطيع أوباما فعله الإعلان عن أنه سيحمّل سورية مسؤولية أي محاولة للإطاحة بحكومة لبنان، سواءً من قبل السوريين أو من يعمل بالنيابة عنهم في "حزب الله".
تراجع سعد الحريري، رئيس الحكومة اللبناني، الشهر الماضي وعلى العلن عن ادعائه أن مسؤولين سوريين رفيعي المستوى أمروا بقتل والده، يُذكَر أن سعد قال في مقابلة أجرتها معه إحدى الصحف: «في مرحلة ما، اتهمنا سورية باغتيال (الرئيس الشهيد). وهذا كان اتهاماً سياسياً، وهذا الاتهام السياسي انتهى». لم يغير الحريري رأيه بلا شك، إنما اعترف بقلة حيلته.حال لبنان يُرثى لها، شكل ذلك المزيج الساحر والمضطرب من الأملاك المطلة على البحر وحروب العصابات، ساحة صراع لدول متخاصمة وميليشيات وعصابات منذ اندلاع حرب تقاتل فيها الجميع من دون استثناء في عام 1975. كانت هذه الحرب في معظمها على الأرجح غلطة اللبنانيين أنفسهم، ويتضح ذلك في كتاب فؤاد عجمي المتقن والمؤسف The Dream Palace of the Arabs حول هذا الموضوع. لكن حالياً، لبنان، أو أقله القوى الديمقراطية فيه، مُحتَجز كرهينة، ولا أحد بما فيهم الولايات المتحدة، سينقذه.الوضع في غاية التعقيد، كما هي الحال دوماً في لبنان. تجري محكمة خاصة، تشكلت بأمر من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تحقيقات حول مقتل الحريري ومن المرجح أن تصدر قرارها الاتهامي في وقت قريب. كان يُتوقع أن تشير المحكمة بأصابع الاتهام إلى مسؤولين سوريين رفيعي المستوى، لكن بات يُعتقَد اليوم على نطاق واسع بأن الجولة الأولى من الإدانات ستوجَّه ضد «حزب الله» الذي عمل طوال سنوات كأداة لمصالح سورية في لبنان، أما الجولة التالية فستستهدف سورية على الأرجح مباشرةً، بالرغم من أن هذه الأخيرة تركت لـ»حزب الله» مهمة إطلاق تهديدات خطيرة بشأن توقعات القرار الاتهامي.ما دفع الحريري بشكل مؤسف إلى الاستسلام كان ذلك التقارب بين سورية والسعودية التي ساءت علاقتها بالأولى منذ مقتل رفيق الحريري. أراد السعوديون تجنيد سورية في مساعي تشكيل حكومة جديدة في بغداد وإحباط طموحات إيران بإنشاء نظام حكم خاضع تسيطر عليه طائفة. لذلك قام الملك عبدالله بزيارة بارزة إلى دمشق في أغسطس الماضي. في الوقت عينه، كان الحريري يعوّل على الدعم السعودي منذ زمن طويل، لكنه سافر هو أيضاً على مضض إلى دمشق للقاء الرئيس السوري بشار الأسد. على حد قول ديفيد شينكر، مسؤول رسمي في وزارة الدفاع خلال عهد بوش يعمل اليوم في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»: «ضحّى السعوديون به». يصعب أن تخطر في بالنا صورة أكثر قوةً وفظاعةً بما يجسد المثل القائل «حكم القوي على الضعيف».فإن وجد الحريري ومَن يؤازرونه في تحالف «14 آذار» أنفسهم فجأة من دون داعم، فأين سيكون دور واشنطن؟ تبنت إدارة بوش «ثورة الأرز»، تلك الانتفاضة الشعبية العفوية التي اندلعت في أعقاب اغتيال الحريري، كتأكيد سام على سياستها الرامية إلى الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط. قدم بوش للقوى الديمقراطية في لبنان دعماً صريحاً، بينما تعامل مع سورية على أنها ملحق في محور الشر، لكن تلك السياسة بدأت بالاضمحلال مع فتور حماسة البيت الأبيض تجاه أجندة الحرية بعد عام 2006، ذلك لأن الحرب بين إسرائيل و»حزب الله» في ذلك العام قلّصت نفوذ الإدارة في المنطقة. من جهتها، قدمت إدارة أوباما دعمها الكامل للحكومة المنتخبة ديمقراطياً في لبنان، لكنها أنهت في الوقت عينه عزلة سورية، فجددت الإدارة علاقاتها الدبلوماسية معها، حيث التقى المبعوث الخاص جورج ميتشل ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون مع مسؤولين سوريين بارزين. فكما كان لبنان رمزاً لأجندة الحرية، تعتبر سورية كذلك الأمر خير مثال على سياسة «مد يد الحوار» التي اعتمدها أوباما. هل من مقاربة خاسرة بين هاتين المقاربتين؟ يؤكد شينكر أن إحداهما خاسرة، مجادلاً بأن أوباما فشل في الضغط على سورية لاحترام سيادة لبنان، ولم يتخذ ما يكفي من الإجراءات لوقف تدهور حكومة الحريري، وسمح لسورية بالتنصل من التزاماتها بالبلاد. لكن أحد المسؤولين في وزارة الخارجية والذي يتولى ملف المنطقة يخالف بشدة وجهة النظر تلك، معتبراً أن الإدارة اتبعت سياسة بوش عن كثب في لبنان ومضيفاً: «استخدمنا حوارنا مع سورية لنقل هواجسنا إليها إزاء المنطقة كافة ومن ضمنها لبنان، والحكومة اللبنانية تعي ذلك». يفيد هذا المسؤول الذي يتكلم بحماسة عن لغة الحوار بأن «التحاور مع بلد لا يعتبر تنازلاً، إنما وسيلة لتقديم المصالح».من جهة، أنا على قناعة بأن أياً من السياستين لم تثبت فعاليتها، فدعم بوش الدبلوماسي للبنان لم يكن له تأثير كبير في وجه قوة «حزب الله» المتنامية بفضل ما يتلقاه من أسلحة، وأموال، وتدريب من إيران وسورية على حد سواء. وعلى أي حال، لا جدوى من الدعم الآتي من قوّة عظمى بعيدة ومكروهة.من جهة أخرى، لا تعتبر سياسة التحاور منطقية إلا حين تقدم مصالح الولايات المتحدة بما يكفي لتبرير عواقب غير مرجوة محتملة، لكن هذا التوازن غير جلي في سورية. فالسوريون زبائن غير جديرين بالثقة يحبّون أن يتودد إليهم الآخرون، سواءً السعودية، أو فرنسا، أو الولايات المتحدة. في هذا الإطار، يقول مارتن إنديك، سفير سابق لدى إسرائيل ورئيس سياسة الخارجية في «مؤسسة بروكينغز»: «يروق للسوريين أن يجعلونا نعتقد بأنه يمكن الوثوق بهم»، لكنهم في النهاية لا يفون بما يعدون به، على حد قوله. يبرز تطابق إلى حد ما بين سذاجة الاعتقاد السائد في إدارة بوش بأنها تستطيع زرع بذور الديمقراطية في حقول الدول العربية الصخرية، وسذاجة ما يعتقده أوباما بأن مركزاً جديداً من الاحترام والتفاهم قد يجعله يحصل على دعم الدول والشعوب المتمردة في الشرق الأوسط. لا يلوم إنديك إدارة أوباما لـ»خسارتها» لبنان، لأنه لم يكن في النهاية حرب الولايات المتحدة، فقدر لبنان المأساوي أن يُضحّى به على أمل تحقيق أهداف أوسع تبدو بحد ذاتها بعيدة المنال. سألت إنديك عما كان سيفعله لو أنه كان في إدارة أوباما. قال إنه لا يستطيع التفكير في أمر بالتحديد، لكنه سيتصل بي إن خطر بباله شيء، لكنني لم أسمع رداً منه مجدداً. حتى شينكر قال ببساطة: «بلغ الوضع نقطةً حرجة جداً». تسري شائعات كثيرة في وسائل الإعلام العربية عن أن الحريري سيتنصل من المحكمة، مقوّضاً بذلك شرعية ما ستتوصل إليه من نتائج، أو أنه سيتشبث بموقفه ما يدفع بـ»حزب الله» إلى الإطاحة بالحكومة التي يملك فيها مركز أقلية قوي، بينما تشير روايات أخرى إلى احتمال تجدد الحرب الأهلية. لذلك أقل ما يستطيع أوباما فعله الإعلان عن أنه سيحمّل سورية مسؤولية أي محاولة للإطاحة بالحكومة اللبنانية، سواءً من قبل السوريين أو من يعمل بالنيابة عنهم في «حزب الله». يستدعي كيان ضعيف بقدر لبنان الاهتمام والتعامل البارع من قبل القوى الخارجية، مع العلم أن الجزء الأخير هو الأصعب. حثّت واشنطن وباريس، في لحظة تفاهم نادرة في عام 2005، على إنشاء المحكمة للتحقيق في اغتيال الحريري. بدت المحكمة في ذلك الوقت كضرورة أخلاقية في ظل بوادر طاغية تشير إلى ضلوع سورية في العملية والتعبير العفوي عن المشاعر العامة المتألمة في لبنان. لكن ذلك كان خطأً على الأرجح، لأن الهدف منها آنذاك كان معاقبة سورية، لكن هذه الأخيرة عادت لتفرض سلطتها بعد موسم من العزلة. لذلك يؤمَل اليوم توجيه صفعة إلى سمعة «حزب الله» مع الجولة الأولى من القرارات الاتهامية. قد يتحقق ذلك، لكن يُحتمَل أيضاً أن تتيح القرارات لـ»حزب الله» بأن يحكم هيمنته على الحكومة اللبنانية. في تلك الحالة، ستضعف المحكمة السيادة التي كان يُفترض بها تقويتها. لا يشكّل المثال اللبناني نموذجاً للحنكة السياسية، إنما يصور مدى صعوبة أن تعزز القوى الخارجية الدول الهشة، ومدى سهولة أن تلحق الضرر بها، وهو يذكر، عند الضرورة، بأن المشاكل لا تُحل في الشرق الأوسط، إنما تتواصل، وتزداد أهميةً وتعقيداً ويتعذر حلها أكثر فأكثر. مسكين لبنان فحاله يُرثى لها بالفعل، لكنني حضرت ذات مرة في عام 2008 زفافاً شيعياً في بيروت. قلت في نفسي: يا له من بلد عظيم! فإن كان هناك ما يدعو للأمل فهو على الأرجح ميل لبنان اللامتناهي إلى الحياة والصمود.