المافيا... دولة المال والدم الرجال المحترمون يقطعون رأس الزعيم الأعلى 4
على رغم اختلاف القصص حول بداية المافيا ونشأتها ومن أين جاء اسمها، إلا أن ثمة إجماعاً على اندلاع الشرارة الأولى لجماعات المافيا في العالم، التي جاءت من جزيرة صقلية الإيطالية التي تصف لغتها الدارجة رجل المافيا بأنه «مافيوز»، أي رجل جدير بالاحترام. يعرف الجميع الخصوصية التي تتمتع بها جزيرة صقلية بين بقية الأقاليم الإيطالية، فهي أكبر جزر البحر المتوسط وتقع جنوب شبه الجزيرة الإيطالية، فضلاً عن كونها أكبر الأقاليم العشرين المكوِّنة للتراب الإيطالي من حيث المساحة. تقع أكبر مدنها باليرمو، وهي العاصمة، في الجزء الغربي منها، وقد حكمها العرب قرنين من الزمان وأسموها باليرم. وترجع صلة العرب بصقلية إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد أرسل إليها سميّه معاوية بن خديج الكندي، فكان أول عربي غزاها، ثم فتحها الأغالبة في القرن التاسع الميلادي على يد أسد بن الفرات، وخلدتها الخارطة الشهيرة التي رسمها العالم العربي الجغرافي الإدريسي. وقد بقيت تأثيرات العرب واضحة في الفنون والعمارة بعد خروجهم من الجزيرة وهذا ما يمكن ملاحظته في سكان صقلية الأصليين الذين يختلفون في ملامحهم عن سائر الإيطاليين ويحتفظون ببعض التقاليد التي ترجع الى فترة الوجود العربي كالثأر والانتماء إلى العائلة.
يشير البعض إلى أن تكوين جماعات المافيا مرّ بمراحل متعددة قد تكون بدأت منذ احتلال العرب جزيرة صقلية في القرن التاسع، وما صاحبها من تطوّر في الفكرة والتكنيك مروراً بالغزو الفرنسي، وما تعرضت له الجزيرة من الظلم في أثناء الاحتلال الأسباني لها في القرن الثالث عشر وما يليه، إذ تكونت جماعات من الأهالي أخذت على عاتقها تطبيق القانون وتحقيق العدالة، الأمر الذي أهمله الاحتلال وتركه للأهالي من دون حساب لعواقب ذلك. في البداية، لاقت تلك الجماعات تعاطفاً من الأهالي المغلوبين على أمرهم، وخصوصاً أنهم راعوا مبادئ الشرف وقيم الأسرة التي يقدّسها المجتمع الصقلي حتى أنهم كانوا يردون حق المظلوم ويكسرون شوكة الظالم، وتركزوا في كورليون وسط الوديان الخضراء. مع مرور الوقت، تشكّلت مجموعات مسلّحة تفرض سيطرتها على مناطق معينة، وخدم رجالها الإقطاعيين وملاك الأراضي وعملوا على تأديب الفلاحين وإرهابهم. وسرعان ما شكّل هؤلاء الرجال الأشداء الذين استعان بهم الإقطاعيون تنظيمات خاصة بهم أطلقوا عليها اسم «الكوزانوسترا».على خلاف طريقة المسلحين المأجورين (المرتزقة) في دخول معارك حربية لمصلحة أحد الأطراف مقابل المال، اعتمدت المافيا العمل السري للوصول إلى الهدف نفسه، فاتخذت من العالم السفلي مملكة لها، حيث تستطيع تدبير المكائد وابتزاز الخصوم لإرضاء الطرف الذي تعمل لمصلحته، وصاحب ذلك تغيير في الأهداف وتحوَّل الاحترام والتعاطف من جانب الأهالي إلى الخوف والكراهية. صاحب توحيد إيطاليا نشاط واضح لرجال المافيا، وذلك قبل الوصول إلى الوحدة الكاملة وأخيراً سيطرة الحزب الفاشستي ما بين الحربين الأولى والثانية على مقدرات الأمور، ووصولاً إلى رئيس الوزراء الحالي سيلفيو برلوسكوني الذي تردّدت أقاويل عن علاقات ومصالح جمعته ببعض رجال المافيا المعاصرة. الكوزانوسترا هي الأصل الكوزانوسترا كلمة إيطالية تعني: هذا الشيء لنا، أو هي «شغلتنا» أو «شأننا الشخصي»، وأصبح من المتعارف عليه احتكار المافيا الصقلية لهذا الاسم، وقد لمعت تلك الجماعة بين عامي 1860 - 1876، ونجحت في اختراق النظام الاجتماعي الإيطالي واحتفظت بمكانة بعيدة عن العبث ما بين عامي 1876 - 1890. وبحلول الربع الأخير من القرن التاسع عشر أصبحت عائلات المافيا هي القوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المسيطرة في غربي صقلية، واقتصر نشاطها في بادئ الأمر على أعمال الحماية والابتزاز في منطقة باليرمو وما حولها من مزارع الليمون والبرتقال، وضمت بين طياتها بعضاً من أفراد الأرستقراطية الحاكمة، إذ انقسم المجتمع في بداية الدولة الإيطالية الناشئة إلى الساسة وأصحاب الأراضي ودخلت المافيا بين هذين الفريقين، كذلك كانت المحرك للكثير من أفراد الحكومة ورجال الأعمال.لم تنفصل حوادث صعود جماعات المافيا الإيطالية وخفوتها لاحقاً، عن الأحداث التاريخية المحيطة، وارتبطت أزمة المافيا الإيطالية المتفردة في بداية القرن العشرين بالموقف الذي اتخذه الاشتراكيون ثم الفاشستيون الإيطاليون من تلك العصابات التي فرضت سيطرتها بالكامل وبصورة غير مباشرة على شبه الجزيرة ما بين عامي 1893 - 1943. وقد عانت المافيا الكثير على أيدي أصحاب القمصان السوداء من أتباع الزعيم الفاشستي بينيتو موسوليني وواكب ذلك خروج أفواج من عائلات المافيا من جنوب إيطاليا إلى أميركا الشمالية بين عامي 1905 - 1941، وذلك خشية الاضطهاد والسجن. وجاء ذلك رداً على محاولة موسوليني القضاء على المافيا، وذلك باعتقال الآلاف منهم ومحاكمتهم وتوقيع عقوبات قاسية عليهم. وفي مايو (أيار) 1924، قام موسوليني الذي دعي إلى مواجهة القوة بالقوة بأول جولة رسمية له في صقلية الجزيرة المستقلة، ليجد أن حلم توحيد إيطاليا تعترضه المافيا مسلحة بالفخر والاعتزاز. فأمر رجله وقبضته الحديدية سيزار ماوري بشنّ حملات القمع بحماية من الأوامر الفاشية التي سمحت له بحرية الحركة في سبيل إخضاع المافيا، واتّبع مبدأ: «للقضاء على المافيا يجب التصرف بقسوة أشد من قسوتها»، وأسلوب «ريتاتا»، أي عملية تطهير جماعية للقبض على المافيا في صقلية. وفي يناير (كانون الثاني) 1926، جرت العملية الكبرى في منطقة «مادونيا» الجبلية حيث بلدة المافيا الشهيرة «جانجي» التي خضعت لحصار كامل. فاعتُقل جميع أقارب رجال المافيا، وضُربوا ودُفعوا الى شرب الماء المالح وعُذِّبوا للإدلاء باعترافات قبل أن تُرسل غالبيتهم الى السجن مذنبين كانوا أم لا. ووصل مجموع من اعتُقلوا في صقلية إلى 11 ألف شخص. وضربت حملة موسوليني المافيا بجميع مستوياتها بما في ذلك الشخصيات التي لم يسبق لها أن تعرضت للاتهامات وهي في أعلى بنية المافيا الإجرامية.تحوّلت حملة موسوليني إلى نبأ عالمي، ورحّبت جريدة «التايمز» بمهاجمته الوحش الكاسر في وكره، وأكدت صحف أخرى أن المافيا قد ماتت لتفسح في المجال أمام ولادة صقلية جديدة. والحقيقة أن المافيا لم تتحطم بالكامل، إلا أن عدداً من رجالها أودعوا السجن، فيما كان البعض يعيش مختبئاً وسط قرى معزولة في الجبال، أو هاجر إلى الولايات المتحدة. وقد بلغ عدد المهاجرين في عام واحد نحو نصف مليون مواطن من أبناء صقلية إلى الولايات المتحدة لبناء حياة جديدة، ومن بينهم رجال مافيا بحثوا عن مكان لهم بين كبرى الجماعات الإجرامية هناك، وكان من بينهم جوزيف بونانو، الشهير بـ «جو باناناز»، الذي طمح الى السيطرة على فرع المافيا في الولايات المتحدة. في 10 يونيو (حزيران) 1940، دخلت إيطاليا الحرب، ومُنيت بهزيمة موسوليني وهذا ما أكّد ما تردد من أخبار عن دور المافيا في اجتياح إيطاليا وصقلية في الحرب العالمية الثانية. وفي 29 أكتوبر (تشرين أول) 1943، شهدت المافيا صحوة قوية منذ اجتياح صقلية على يد رجال موسوليني، ما ترك أثراً كبيراً على الجزيرة وأحوالها، إذ عمت الفوضى وانتشر الجنود في شوارع باليرمو، لأن القضاة والزعماء السياسيين خافوا على حياتهم من انتقام المافيا التي يتردد أنها قامت منذ الحرب العالمية الثانية بقتل آلاف الأشخاص في صقلية ليصبح الصقلي الإيطالي الضحية الأولى، وأصبحت المافيا في وضع مكّنها من المطالبة بالمزيد بعدما خرجت من مرحلة مقايضة المال في مقابل الأمان، لتصبح هناك عرى وثيقة بين المافيا والسياسة. وخلال الحرب العالمية الثانية تحالفت الولايات المتحدة مع المافيا سراً. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، أفرجت قوات الاحتلال الأميركية عن الكثير من أعضاء التنظيم المحظور من السجون، وبعدها مباشرة بدأ هؤلاء المفرج عنهم بإعادة تنظيم المافيا مجدداً. وعلى امتداد القرنين الماضي والراهن تضاعفت نفوذ المافيا وقوّتها في كل من إيطاليا وأميركا، ونجحت في التغلغل في الأوساط السياسية وحصلت على حكم ذاتي لجزيرة صقلية واشترت الكثير من رجال الشرطة والقضاة وأصبح مجرد ذكر اسمها يكفي لبثّ الرعب في القلوب بسبب القوة الهائلة التي تكمن خلفه.حروب المافيا الكبرىلم يتوقّف صراع المافيا على علاقتها بالدولة فحسب، وإنما كان يندلع بين الحين والآخر بين الأسر، مثال على ذلك حرب عصابات المافيا الأولى بين عامي 1963 - 1969، ثم الحرب الثانية الخطيرة التي جرت بين عامي 1970 - 1980، ثم حرب المافيا الكبرى في صقلية في مارس (آذار) 1981، وكانت حرباً شرسة لا شفقة فيها ولا رحمة، ودامت سنتين سقط أثناءهما مئات الضحايا، وفيها انقسمت المافيا إلى عائلات عدة، منها جماعة زعيم المافيا لوسيانو ليجيو.من جهة أخرى، سرق أحد زعماء المافيا ويدعى ستيفانو بونتاتي وحليفه الأقرب سلفاتور انزيريللو، ملايين الدولارات من خزائن المافيا العامة. وقد كان مصدر هذه الملايين من عمل المافيا في صناعة الهيرويين وتصديره إلى أميركا ومناطق أخرى من العالم. وكان في إيطاليا ما لا يقل عن خمسة عشر مختبراً لصناعة هذه المادة وكان أحدها يقع في مواجهة البحر في مدينة باليرمو والذي كان ينتج خمسين كيلوغراماً من الهيرويين كل عشرة أيام. وكانت هذه المختبرات تنتج عدة أطنان من المخدرات سنوياً، وكان يتم تقاسم الأموال المتجمعة على مناطق النفوذ بين جماعة لوسيانو ليجيو من جهة، وجماعة ستيفانو بونتاتي من جهة أخرى وهما الفرعان اللذان يشكلان جناحَي المافيا الصقلية الأساسيين. في الواقع، كان هذان الأخيران يمثّلان شبكة المافيا على الطريقة التقليدية وموجودين في باليرما منذ عقود عدة، بل وكانا يحتلان مواقع راسخة في نيويورك نفسها. كان بونتاتي يدعى الأمير أو الزعيم الأعلى، أما صديقه أنزيريللو فكان شخص المافيا المركزي في صقلية بسبب سيطرته على تسويق المافيا هناك، وبالتالي فإنهما سيطرا على باليرما عاصمة المافيا العالمية التي تمتلك فروعاً في أميركا الشمالية، وكندا، وأميركا الجنوبية، ومناطق أخرى من العالم. ثم عقدت المافيا اجتماع قمة لحلّ الخصومة بين الطرفين المتنازعين، ولكن بونتاتي كان يفكر في تصفية زعماء الطرف الآخر في هذا الاجتماع بالذات، ولسوء حظه فإن الآخرين سبقوه إلى الحركة فصفّوه قبل أن يصفّيهم. والواقع أنه سقط في كمين نصبوه له بعد شهر من اللقاء، ذلك في 2 أبريل (نيسان) عام 1981، وكان قد انتهى للتو من الاحتفال بعيد ميلاده في الفيللا العائلية الراقية المزودة بأجهزة الإنذار الإلكترونية تحسباً للعواقب. وبعد الاحتفال قاد سيارته نحو منزله الريفي، ففوجئ بإطلاق النار عليه من السيارة الموازية له وهو يقف على الضوء الأحمر، وفي هذه الثواني المعدودة انتهزت جماعة «ليجيو» الفرصة وأردته قتيلاً بواسطة الكلاشينكوف، وفصلت رأسه عن جسده بكل وحشية ومن دون أي شفقة أو رحمة. وكان لدى القتيل اعتقاد أن صديقه «أنزيريللو ليجيو» لن يقتله لأنه مدين له بعشرة ملايين دولار، وبالتالي فلا يمكن أن يعتدي عليه قبل أن يرد له المال ولكنه كان مخطئاً. عندئذ، بدأت أكبر عملية تصفيات في تاريخ المافيا الإيطالية، وقد سقط ضحيتها في نهاية المطاف ما لا يقل عن ألف شخص. واتسعت دائرة التصفيات لكي تشمل ليس باليرما وصقلية فحسب، وإنما أيضاً أوروبا والولايات المتحدة، بل وفي أميركا الجنوبية، وكانت الشرطة الإيطالية تجد يومياً جثة ملقاة على قارعة الطريق أو في أحد الشوارع الخلفية. وقد تعرّض للقتل 21 قائداً من جماعة أنزيريللو. ثم قُطعت يد ابنه اليمنى كيلا ينتقم لوالده، ولم يكن عمره آنذاك أكثر من 15 عاماً. ولاحقاً، قُتل وعمّه المقيم في لوس أنجلوس بفي ميركا، ثم معظم أفراد العائلة كي لا ينتقم منهم أحد في ما بعد. وقد استلهمت السينما لاحقاً هذه الحرب الدموية وقدمت بعضاً من أقوى الأفلام السينمائية وأكثرها تشويقاً وقوة.صقلية اليوم بعد ما شهدته الجزيرة الصخرة في ثمانينيات القرن الماضي من معارك سقط ضحيتها المئات سنوياً، أُلقي القبض على رؤساء المافيا وتم الاستيلاء على ثرواتهم، ما أضعف كثيراً هذه المنظمة الإجرامية، ففي باليرمو فحسب تم الاستيلاء على 1700 مبنى للمافيا. وقد استطاع مركز مكافحة المافيا هناك وضع يده خلال 15 شهراً على ممتلكات تقدّر قيمتها بمليار وستمائة مليون يورو وهي عبارة عن رؤوس أموال وشركات لمواد أولية. ونجحت تحقيقات سابقة في القبض على أصحاب شركة زومو في صقلية، الأب والابن والمصرفي السويسري نيكولا باربيتي، الذين نجحوا في إخفاء 13 مليون يورو في بنوك الباهاماس، وهو المبلغ الذي طالبت السلطات في صقلية حجزه.مع ذلك يرى الصحافي الإيطالي نيكولا ترانفاليا، مؤلف كتاب «لماذا انتصرت المافيا؟»، الصادر هذا العام أنه يصعب التعامل مع المافيا الآن في إيطاليا على أنها شيء واحد، ولكنها «مافيات»، منها المافيا الإيطالية التقليدية، والمافيا العالمية المستوردة، روسية وألبانية، وصينية، ونيجيرية، وغيرها من المافيات التي رسخت أقدامها في التربة الإيطالية ونسجت علاقات وثيقة مع أقدم المنظمات الإجرامية. يرى ترانفاليا أن المجتمع الإيطالي يتحمل جزءاً من مسؤولية انتصار المافيا وبقائها لأنه «قبل أن يتعايش معها ويهيئ لها شروط النمو لتكون أكثر نشاطاً وأشد خطورة». ويذكر الجميع ما حدث مع القاضيين جيوفاني فالكون وباولو بورسيلينو اللذين دفعا حياتهما ثمناً للإخلاص للمبادئ، فقد كانا من أشهر القضاة المتشددين في تعقب رجال المافيا وأنشطتها، وذلك بحكم نشأتهما في باليرمو ومعرفتهما معاناة أبناء الطبقة المتوسطة بسبب جرائم المافيا. وبسبب نجاحهما في القيام بمهتهما، تم اغتيالهما تباعاً عام 1993، إذ قتل بورسيلينو بقنبلة مزروعة في سيارته، وراح فالكون ضحية قنبلة مزروعة في الطريق السريع. لكن لم تعد المافيا تخيف كما سابقاً، إلا أنها لم تنهزم حتى اللحظة. وحتى يومنا هذا ما زالت تزدهر بسرعة على شكل اتحادات كما كارتيلات المخدرات في كولومبيا وكارتيلات الجريمة في أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ما جعل من «الكوزا نوسترا» مجرد صفحات في تاريخ المافيا ورجالها في مرتبة دنيا من حيث خطرها واتساع نشاطها.في الحلقات القادمة... المافيا الأميركية تاريخ وأساطير