أم كلثوم... السيرة والأغاني - السيرة الشخصية (الحلقة الرابعة) لقاء زكريا أحمد والشيخ أبو العلا محمد ورياض السنباطي سمعها أبو العلا محمد فترقرقت الدموع من عينيه وطلب من والدها الانتقال إلى القاهرة

نشر في 16-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 16-08-2010 | 00:00
ج- الاتصالات الأولى بدنيا الاحتراف: زكريا أحمد - رياض السنباطي - أبو العلا محمد

مع أننا ما زلنا في مرحلة النشأة الريفية لأم كلثوم، قبل انتقالها النهائي إلى القاهرة (1923)، فإن وقائع حياة أم كلثوم، تؤكد أن حلاوة صوتها وبراعة أدائها، قد بدءا ينسجان لها خيوط العلاقة الأولى بالقاهرة، ودنيا القاهرة، وهي ما زالت مطربة ريفية مبتدئة، لم تخطر القاهرة في خيالها أو خيال والدها بعد. حتى يمكن القول أن «القاهرة الفنية» ذهبت للقاء أم كلثوم في طماي الزهايرة، قبل أن تأتي أم كلثوم إليها للقائها .

ومع تفاوت أهمية تلك اللقاءات الأولى مع الملحنين الثلاثة الذين سيلعبون – فيما بعد – أهم الأدوار في حياة أم كلثوم بعد استقرارها في القاهرة، فإننا سنعمد إلى رواية تفاصيل تلك اللقاءات، وفقا لتسلسلها الزمني، برغم التفاوت بين قيمة لقاء أم كلثوم الأول بكل من أبي العلا محمد وزكريا أحمد، وهما فنانان كان الأول منهما في قمة مجده، وكان الثاني يرتقي الدرجات الأولى في سلم المجد الفني، وبين لقائها برياض السنباطي، الذي كان عند ذلك اللقاء الأول، ما يزال طفلا صغيرا نابها، متأخرا عن أم كلثوم في رحلة التكوين الأول، خاصة وأنه ولد في العام 1906، أي أنه أصغر من زكريا أحمد (مواليد 1892) بأربعة عشر عاما، وأصغر من أبي العلا محمد بما يقارب الثلاثين عاما.

من الثابت، حسب وقائع حياة أم كلثوم في مرحلتها الريفية، أن لقاءها الأول مع مشاهير التلحين والغناء، وفقا للتسلسل التاريخي، كان مع زكريا أحمد، الذي تكرر لقاؤه بها مرارا في قريتها قبل انتقالها إلى القاهرة، علما بأن لقاءهما الفني (كملحن ومطربة) لم يكن في موازاة زمنية مع لقاءاتهما الشخصية، ذلك أن زكريا أحمد (كما سنرى في فصل لاحق)، هو، في التسلسل الزمني، خامس ملحن التقت به أم كلثوم، بعد أبو العلا محمد وأحمد صبري النجريدي ومحمد القصبجي وداود حسني. فأول لحنين قدمهما زكريا أحمد لها ظهرا في العام 1931 (اللي حبك يا هناه، وجمالك ربنا يزيده)، بينما ظهر اللحن الكلثومي الأول لرابع ملحنيها (حسب التسلسل الزمني) داود حسني، في العام 1930، وهو لحن أغنية شرف حبيب القلب.

إذن، كان زكريا أحمد في القائمة الزمنية لملحني أم كلثوم، خامس ملحن التقى صوتها بألحانه، ولكنه كان أول ملحن كبير التقى بأم كلثوم في منزلها الريفي، أي أنه كان أول ملحن محترف أتاحت له الظروف الاستماع لأول مرة، إلى ذلك الصوت الذي سيتربع على قمة الغناء النسائي العربي، طيلة القرن العشرين.

الزيارة الأولى للشيخ زكريا أحمد لبيت أم كلثوم الريفي، كانت عابرة، فقد عادت “الطفلة” من الكتّاب ذات يوم إلى منزلها، ولما اقتربت من الباب، سمعت صوتا جميلا يتلو توشيحا دينيا جميلا مطلعه:

مولاي، كتبت رحمة الناس عليك فضلا وكرم

ولم يكن الصوت واللحن إلا لزكريا أحمد، الذي كان قد لحن هذا التوشيح الديني للشيخ علي محمود، عندما كان زكريا عضوا في بطانته. ويبدو أن إعجاب أم كلثوم الشديد بهذا التوشيح. وهي في تلك السن المبكرة، قد جعله مادة ثابتة في كل حفلات الإنشاد الديني التي ظلت تؤديها، حتى في بدايات مرحلتها القاهرية، قبل انتقالها إلى الغناء العاطفي. وقد كان إصرار أم كلثوم على تكرار هذا التوشيح في كل حفلاتها، مناسبة للحلقة الأولى في سلسلة المداعبات التي كانت تتلقاها من أفراد جمهور المستمعين، وهي ظاهرة سنتعرض لها بمزيد من التفصيل في الفصل التالي من الكتاب، عند تناول انطلاقتها الفنية الكبرى في القاهرة. غير أن هذه الحادثة الأولى تستحق التسجيل.

فقد أراد أحد مستمعيها المدمنين أن يعبر ساخرا عن ملاحظته التكرار المستمر لذلك التوشيح، فما كادت تغني بيته الأول “مولاي، كتبت رحمة الناس عليك”، حتى بادرها ذلك المستمع الساخر بقوله: “كتبت علينا الغلب، يا ستي”. وبما أن تلك كانت المداعبة الساخرة الأولى التي تتلقاها من الجمهور، وهي لمّا تزل طرية العود، قليلة التجارب، فقد انخرطت في بكاء مرير. وهذا موقف مناقض تماما لتصرفها في مراحل نضجها الفني والشخصي، عندما أصبحت هي سيدة الموقف ، في تبادل المداعبات الساخرة مع أفراد الجمهور. ولكن ذلك حديث آخر، نتركه لصفحات مقبلة.

ذلك كان اللقاء الأول بين الشيخ زكريا أحمد، وأم كلثوم المغنية المبتدئة، في بيت والدها بطماي الزهايرة. ويبدو أنه كان لقاء محدودا، لم يتمخض سوى عن انبهار المغنية المبتدئة، بالمنشد الديني الفحل، والملحن الموهوب الصاعد.

أما اللقاء الثاني، فقد كان في السنبلاوين، عندما قرر التاجر علي أبو العينين إحياء ليالي شهر رمضان كاملة، فاستدعى الشيخ زكريا أحمد لتلاوة الذكر الحكيم طيلة ليالي الشهر المبارك، ولكنه اشترط عليه أن يغني أيضا بعد تلاوة القرآن الكريم، على أن يكون أجره مضاعفا، أجر من الله وأجر من صاحب الدعوة.

وافق الشيخ زكريا وبدأ بأحياء ليالي رمضان في السنبلاوين. وما أن مرت أيام قليلة، حتى أسروا للشيخ زكريا بأنهم يعدون له مفاجأة سارة، بإسماعه صوت مطربة ناشئة صغيرة السن، ولكن صوتها “لم يسمع أحد أجمل منه”.

دخلت أم كلثوم يلفها الخجل والحياء، ويسيطر عليها التلعثم، غير أن الشيخ زكريا أجلسها بجواره، وراح يسري عنها، حتى انفكت عقدتها، وانطلق لسانها وصوتها. ويقول زكريا أحمد يصف ذلك اللقاء الفني الأول الذي استمع فيه لصوت أم كلثوم: “ومنذ ليلتها، وأنا أصم، لا أسمع إلا صوتها، أبكم، لا أتحدث إلا باسمها. فقد أصبحت مفتونا بها، وأقول مفتونا، لأنني أحببتها حب الفنان للحن خالد، تمنى العثور عليه دهرا طويلا” .

ويبدو أن تلك الليلة الأولى كانت فاتحة الخير في توطيد أواصر العلاقة الفنية العظيمة بين زكريا أحمد وأم كلثوم (رغم تأخر ظهور ثمارها العملية من العام 1920، حتى العام 1931، كما سنرى بعد ذلك). يقول زكريا أحمد، أنه لم يفارقها طيلة شهر رمضان من تلك السنة، فقد واظبت على الحضور يوميا، مع والدها وشقيقها، للاستماع إليه في سراي أبو العينين، كما أن الشيخ إبراهيم دعاه إلى مائدة إفطار في بيته، يذكر الشيخ زكريا أنه أكل خلالها أوزة كاملة، ولعب” الكوتشينة” (ورق اللعب). وأن الشيخ خالد، شقيق أم كلثوم لم يعجب بصوت الشيخ زكريا والتواشيح التي كان يؤديها، بل اقتصر إعجابه على كون الشيخ زكريا “الفقيه” الوحيد في مصر الذي يمتلك عشرة أحذية.

أما الأوزة التي تناولها الشيخ زكريا على مائدة أم كلثوم في قريتها، فقد كان يستعيد ذكرها ساخرا عندما كان في أوج خصامه معها بين منتصف الأربعينيات ومنتصف الخمسينيات، فيقول: “أم كلثوم لها عندي أوزة، وأنا لي عندها أربعون ألف جنيه”.

ويبدو أن أم كلثوم قد استوعبت منذ ذلك اللقاء المبكر، قيمة علاقتها بذلك الملحن العظيم، فبادرت هي إلى التواصل معه، بعد عودته إلى القاهرة، بمواظبتها على التراسل معه عبر خطابات مستمرة، كانت لا تنتظر ردا عليها، بل تكتفي بتضمينها ما يخطر ببالها من ملاحظات ساذجة في ذلك الحين.

أما رد زكريا أحمد، فقد جاء متأخرا، ولكنه كان ردا عمليا، يختلف عن ملاحظات أم كلثوم الساذجة، فتضمّن دعوة أم كلثوم، لإحياء “فرح” (زفاف) أحد أصدقائه التجار، فقبلت الدعوة بما يشبه الامتثال (على حد قول أم كلثوم)، فلم تكن قد أصبحت تلك المطربة ذات الشأن، وإن كان أجرها قد ارتفع حتى وصل في تلك الحفلة إلى عشرة جنيهات. ولكن ما كان أهم بكثير من ارتفاع الأجر في تلك الحفلة، أنه كان بين المستمعين، صديقا الشيخ زكريا الشيخين علي محمود وأحمد ندا، وهما من أعظم المشايخ شأنا في ذلك الزمن، وخاصة الشيخ علي محمود الذي كان له أعظم الأثر على عباقرة الفن يومها ومنهم زكريا أحمد وعبد الوهاب. فلما استمعا إلى صوت أم كلثوم وأدائها، وافقا تماما على افتتان الشيخ زكريا بذلك الصوت، وانضما إلى شلة المعجبين.

زكريا أحمد والسنباطي

وسيكون لزكريا أحمد بعد ذلك شأن عظيم مع صوت أم كلثوم، ولكن بعد إحدى عشرة سنة من تلك اللقاءات الأولى.

ولكن لا شك بأن دور زكريا أحمد الفعال في حياة أم كلثوم، قد بدأ في ذلك العام (1920) وهو، من قبل التلحين، ودور مزدوج، لأنه بدأ يلعب دور الداعية والمبشر بذلك الصوت النسائي العظيم القادم من الريف، وكان هذا التبشير يتم بين أساطين السماع والموسيقى والغناء من عظماء المشايخ والملحنين والمطربين في القاهرة.أما الدور الثاني الذي لعبه الشيخ زكريا أحمد في حياة أم كلثوم في تلك المرحلة المبكرة، فكان قيامه بزرع فكرة انتقال أم كلثوم إلى القاهرةِ، في ذهن والدها الشيخ إبراهيم، وتشجيعه على ذلك، ومساعدته على الخروج من تزمته ومن مخاوفه.

أما اللقاء الثاني لأم كلثوم، مع الشخصيات التي ستلعب فيما بعد دورا أساسيا في حياتها الفني، فقد كان ذا طابع إنساني محض، لأن الطرف الثاني في اللقاء (رياض السنباطي)، كان ما يزال عند ذاك فتى في مقتبل العمر، يرافق والده (شأنه شأن أم كلثوم في طفولتها) في حفلات مماثلة لتلك التي كان يحييها الشيخ إبراهيم البلتاجي مع ابنته أم كلثوم.

وبما أن المنصورة كانت مركز إقامة رياض السنباطي في تلك الأيام (التي انتقل إليها من قريته فراسكور)، وبما أن المنصورة كانت، في الوقت نفسه، أقرب المدن الكبيرة إلى طماي الزهايرة والسنبلاوين، فقد كان منطقيا لفرق الإنشاد والفرق الفنية التي تجوب قرى ومدن تلك المنطقة، أن يلتقي أفرادها في إحدى محطات القطارات، وهم ذاهبون إلى حفلة أو عائدون من حفلة.

وتستحق بداية رياض السنباطي الريفية، المشابهة إلى حد ما بداية أم كلثوم، وقفة عابرة هنا، لأن القواسم المشتركة بين عناصر نشأة هذين الفنانين الاستثنائيين في فنون الموسيقى والغناء، تفسر لنا جذور تلك العلاقة المميزة التي جمعت بينهما في ذروة نضجهما الفني، حتى جعلت منهما ثنائيا مميزا، مع أن أم كلثوم قد تعاملت مع أحد عشر أو اثني عشر ملحنا في مسيرتها الفنية، ومع أن بعض هؤلاء قد لعبوا في حياتها الفنية أدوارا حاسمة، ووضع ثلاثة منهم على الأقل (أبو العلا محمد، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد) بصمات واضحة على ملامح شخصيتها الفنية التاريخية، غير أن أيا منهم لم يشكل مع أم كلثوم، ذلك الثنائي المتميز بتكامل فني بارز غطى عقودا ثلاثة امتدت من أوائل الأربعينيات حتى أواخر الستينيات في القرن العشرين (كما سنكتشف معا في الصفحات التالية من هذا الكتاب)، عنينا به ثنائي أم كلثوم – رياض السنباطي.

مع أن فارسكور كانت قرية المولد لرياض السنباطي، ووالده محمد، فقد حمل اسم العائلة اسم قرية أخرى مجاورة هي قرية سنباط. ويبدو أن من بين أسباب هذه المفارقة سببا فنيا، هو ما يهمنا هنا. فقرية سنباط، أو كفر سنباط، كانت تتشكل (خلافا لسائر القرى والكفور) من قسمين، قسم لسكانها العاديين، وقسم لسكانها من الغجر، الذين كانت نساؤهم تحمل اسم «الغوازي» (مفردها غازيّة). والغوازي فصيلة مما يمكن أن نصنفه «فنانات شعبيات» على طريقة نساء ورجال الغجر في عدد من الدول الأوروبية، يتعاطين فنونا يمتزج فيها الغناء بالرقص بالترفيه. وبما أن حياة الغجر تقوم أساسا على التنقل وعدم الاستقرار، فلا شك بأن ما يقدمونه من فنون، يكون في الغالب محصلة ما يجمعونه من المناطق الشعبية التي يتنقلون فيها، إما للعيش، أو لتقديم فنونهم التي يكتسبون منها رزقهم.

ولكن يبدو أن التجمع الغجري في كفر سنباط قد اكتسب سمعة خاصة في كونه «مركزا» (إذا صح التعبير) للون مميز من الألوان الغنائية الشعبية ذات النكهة المميزة.

يضاف إلى ذلك، ما اكتسبته المنطقة من سمعة فنية، كثمرة لمولد شديد الخصوبة يقام في قرية «ميت دمسيس» القريبة جدا من سنباط، وهو مولد «أبو جورج» الذي يقام في كنيسة القرية التي يقال أن ذراع ريتشارد قلب الأسد مدفونة فيها، من أيام الحروب الصليبية. ويتم الاحتفال بمولد «أبو جورج» في الخامس عشر من شهر سبتمبر / أيلول من كل عام.

ويبدو أن نشاط الغوازي «الفني» المميز في كفر سنباط، ومولد «أبو جورج» المتميز أيضا فيما يقدمه من فنون الرقص والغناء والاحتفالات الشعبية في قرية «ميت دمسيس» المجاورة، قد جعل من تلك المنطقة أحد أشهر «مراكز» الفنون الشعبية في أرياف مصر في الوجه البحري، كما يبدو أن كل ذلك كان من أسباب انتساب رياض السنباطي اسما إلى تلك المنطقة، مع أنه لم يولد فيها، بل في جوارها.

أما اللقاء الأول بين الطفل رياض السنباطي، والطفلة الأكبر منه بسنوات ست تقريبا، أم كلثوم، فمعروف ومؤكد، وكانت آخر إشارة له ذات قيمة توثيقية، إشارة رياض السنباطي إليه في إحدى المقابلتين التلفزيونيتين التاريخيتين اللتين خص بهما تلفزيون الكويت في العام 1980 أو 1981، أي قبيل وفاته بأشهر، وربما كان هذان التسجيلان الوحيدين لرياض السنباطي في مقابلة تلفزيونية، فقد كان بخيلا في أحاديثه الصحافية، وأشد بخلا في الأحاديث الإذاعية، ومغاليا في بخله في الأحاديث التلفزيونية.

المهم، أنه يذكر في إحدى مقابلتيه في التلفزة الكويتية قصة لقائه الأول مع أم كلثوم، الذي تم في الساعة الخامسة من فجر أحد الأيام، فيما كان عائدا مع والده من إحدى الحفلات، فالتقيا في محطة قطار الدلتا، في قرية «قرين»، بالشيخ إبراهيم البلتاجي، وابتنه أم كلثوم، العائدين أيضا من حفلة مماثلة. فكان ذلك أول لقاء شخصي إنساني بينهما، ما كان يمكن له أن يعطي أي ثمرة فنية مباشرة، لصغر سن الفنانين في ذلك الحين، وهي ثمرة سيتأخر قطافها حتى العام 1936 (لحن على بلد المحبوب وديني)، الذي ظهر قبل ذلك بعام في فيلم أم كلثوم الأول «وداد»، ولكن بصوت المطرب عبده السروجي، ثم سجلته أم كلثوم بعد ذلك على اسطوانة، كأول لقاء بين صوتها وألحان السنباطي.

غير أن اللقاء الأهم في قيمته الفنية في تلك المرحلة التأسيسية من حياة أم كلثوم) بين لقاءاتها الأولى بالمشاهير من أهل الفن (السابقين واللاحقين)، كان بلا شك لقاءها بالشيخ أبو العلا محمد. وكالعادة، كانت محطة قطار السنبلاوين، الموقع الأول للقاء، في إحدى رحلات الشيخ إبراهيم البلتاجي الفنية مع ابنته. ويبدو أن أم كلثوم صعقت عند ما سمعت والدها يصرخ مناديا الشيخ أبو العلا باسمه، فقد كانت لشدة انبهارها بصوته وهي تواظب على الاستماع إلى اسطواناته في بيت عمدة «طماي الزهيرة»، تظنه من الفنانين الراحلين. ويبدو أن تعلق أم كلثوم به في لقاء محطة القطار، كان قويا لدرجة أقنعت الشيخ أبو العلا بقبول دعوتها، لتغيير وجهة تحركه في ذلك اليوم، والذهاب إلى منزل الشيخ البلتاجي، وفور وصول موكب تلك الزيارة «التاريخية» إلى المنزل، صاحت أم كلثوم بوالدتها أن تذبح كل الدجاج الموجود في حديقة المنزل، لأن «أحسن واحد في الدنيا يزورنا اليوم»، على حد تعبير أم كلثوم.

وبعدما أطال الشيخ أبو العلا في الغناء، تلبية لإلحاح الطفلة، طلب إليها أن ترد له الجميل، وتسمعه صوتها، فانطلقت – بذكاء عفوي- وبعد التغلب على نوبة الخجل والتردد، تغني له قصيدته المعروفة

أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا

فلم يكتف الشيخ أبو العلا بمسح الدموع التي ترقرقت في عينيه، بل انضم إلى مجموعة المبشرين الأوائل بذلك الصوت الواعد، واستدار إلى والدها يلح عليه بضرورة انتقال أم كلثوم إلى القاهرة. ولكن الشيخ إبراهيم بقي متمسكا بوجهة نظره المعارضة تماما لتلك الفكرة، تواضعا ورهبة. غير أن أم كلثوم تجرأت في معارضة والدها، وتأييد رأي الشيخ أبو العلا محمد، أليس “أحسن واحد في الدنيا”؟.

وبقيت أم كلثوم ملحاحة في التمسك بهذا الرأي، حتى كان لها ما أرادت، ولكن بعد مخاض طويل، “ورحلات” فنية أولى إلى القاهرة وجوارها، قبل الاستقرار النهائي التاريخي في العام 1923.

جسر العبــور بين طمـــأي والقـاهـرة

بديهي أن انتقال أم كلثوم من مطربة موالد وتواشيح دينية في طماي الزهايرة وجوارها، إلى القاهرة، عاصمة الفن في مصر والعالم العربي كله، لم يتم بخطوة واحدة، بل عبر مرحلة انتقالية كانت أشبه بجسر عبور طبيعي من مرحلة التكوين الفني الأول إلى مرحلة المجد الفني الكامل. وقد تمثل هذا الجسر بسلسلة من الحفلات المميزة في المدن الصغيرة، خارج القاهرة وفي ضواحيها، وتأسس على الإعجاب الذي حظيت به أم كلثوم في أوساط أساطين النغم والإنشاد الديني، كالشيخ أبو العلا محمد، والشيخ زكريا أحمد وصديقيه الشيخين علي محمود وأحمد ندا، الذين كانوا قد بدأوا في القاهرة، وأوساطها الاجتماعية والفنية العليا يبشرون بالصوت النسائي الاستثنائي القادم من أعماق الريف.

سلسلة الحفلات الكبرى، قبل الاستقرار في القاهرة، بدأت بحفلة في المحلة الكبرى، حيث أحيت أم كلثوم حفلة زفاف نجل نعمان باشا الأعصر، عمدة المحلة الكبرى. ولم تكن الحفلة نجاحا فنيا مدويا فقط، بل تطور أجر أم كلثوم (والفرقة) ليصل إلى عشرين جنيها، وكوفية من الحرير، هدية لأم كلثوم.

أعقبها سلسلة حفلات في دمياط. فقد كان محافظ دمياط في ذلك الزمن، رسمي بك، مولعا بالفن والغناء. وكانت دمياط تفتقد بيوت التسلية والملاهي. فكان المحافظ، كلما سئم من جو العزلة والفراغ، يستدعي المطربة الجديدة الصاعدة أم كلثوم وفرقتها.

أما أهم تلك الحفلات التمهيدية، وأقربها إلى القاهرة (في المكان والزمان)، فكانت في ضاحية القاهرة الجنوبية، حلوان.

كان لعز الدين بك ضيعة قريبة من طماي، وكان قد سمع بصعود نجم المغنية الجديدة. ولكنه فكر بدل أن يحي ليلة المعراج في ضيعته، أن يستدعي المغنية الجديدة الذائعة الصيت إلى قصره بحلوان.

وقد تحولت تلك السهرة، فيما بعد، إلى واحدة من أهم المحطات الانتقالية في تلك المرحلة الحاسمة من الحياة الفنية لأم كلثوم، حتى أنها استغرقت في مسلسل أم كلثوم الشهير حلقة كاملة.

وخلاصة الموقف كما ظلت أم كلثوم تردد تفاصيله في ذكرياتها، أن صاحب الدعوة، الذي كان قد سمع بصيتها ولكنه لم يشاهدها أو يستمع إليها مباشرة، أصيب بصدمة عند رؤيتها، وبدا ذلك جليا على قسمات وجهه،قبل أن يقول «إيه لعب العيال ده، هي دي البنت اللي حتغني».

وخاف عز الدين بيك من فشل الحفلة فاتخذ قرارا فوريا، وأمر بإنزال أم كلثوم والفرقة إلى الطابق السفلي، واستدعى فورا المغني الشهير في ذلك الوقت الشيخ إسماعيل سكر، لإنقاذ السهرة من الفشل. ولكن عز الدين بك، خطرت له بعد أن هدأ روعه، وتأكد من النجاح الفني لسهرته، أن يستدعي أم كلثوم للغناء أمام الحاضرين، على سبيل الاطلاع والتجربة. وما أن وقفت أم كلثوم على «الكنبة»، حتى انطلق صوتها كالشلال الهادر، وتحول الشيخ إسماعيل سكر من مطرب الحفلة الأول، إلى «سمّيع» أول لأم كلثوم، يقود الطلب بالإعادة والاستزادة.

وتؤكد أم كلثوم أنها لم تكن في ذلك السن تشعر بأي مسؤولية، كما وهي في عز مجدها الفني، لذلك فقد غنت بلا خوف أو وجل، فأضيف اسم الشيخ إسماعيل سكر، إلى قائمة أرباب الغناء والتواشيح الدينية في القاهرة، المعجبين بصوت المطربة الريفية الصاعدة.

أما الحفلة التالية، فقد تجاوزت بها أم كلثوم ضواحي القاهرة، إلى داخل العاصمة. وتروي أم كلثوم لنعمات أحمد فؤاد مشاعرها لدى دخول القاهرة للمرة الأولى في حياتها، لإحياء عرس في حي «كوم الشيخ سلامة»:

«كنا نعيش في قريتنا طماي الزهايرة، مركز السنبلاوين، وهي قرية متواضعة، أعلى بيت فيها لا يزيد على طابقين، وأكبر مظهر للثراء فيها عربة حنطور يركبها العمدة، ويجرها حصان واحد. ولا أذكر أنه مرت بها سيارة، فلم يكن في القرية كلها إلا طريق واحد (شارع واحد)، يتسع لمرور عربة العمدة، وبضع طرق أخرى ضيقة، تتسع لمرور حمير الخفراء وشيخهم. كنت أغني في القرى المجاورة، وكانت كلها قرى صغيرة، وكنت أحسب أن مركز السنبلاوين هو أكبر مدينة في الدنيا. وكنت أسمع الحديث عن المركز، كما تسمع أنت الآن الحديث عن لندن وباريس ونيويورك.

وذات يوم، أقبل والدي يقول لنا أننا سنسافر إلى القاهرة. القاهرة أم الدنيا (..) وراح الفلاحون والفلاحات يحدثوننا عن عظمة القاهرة:

أتعرفون بيت العمدة، إن في القاهرة ألوف البيوت أكبر وأضخم وأعظم من بيت العمدة ! وهناك عربات حنطور يجرها حصانان، لا حصان واحد. وأحيانا تجد شيئا اسمه «الترام»، يجري في الشوارع، فتدفع نصف قرش، وتغمض عينيك ثم تفتحهما، فتجد نفسك في مركز السنبلاوين أو المنصورة أو في أجا. وهناك بيوت عالية جدا من ثلاثة أدوار أو أربعة أدوار، ثم هناك بساط سليمان، لا بل حجرة تقف فيها، وتضغط على زر، فترتفع بك الحجرة إلى السماء السابعة في دقيقة واحدة، يقصدون الاسانسير (المصعد)».

يمكن اعتبار هذا المقطع من الذكريات المتناثرة لأم كلثوم (من المؤكد أنها لم تعكف أبدا على تدوين دقيق لمذكراتها الشخصية) نموذجيا في المقارنة بين العالم الذي ولدت وتكونت شخصيتها فيه، حتى تجاوزت العشرين من عمرها بسنوات قد تصل إلى الثلاث (عالم الريف)، والعالم الذي انتقلت إليه نهائيا في العام 1923 (عالم القاهرة)، وصنعت فيه كل مجدها الفني وصعودها الاجتماعي، حتى وفاتها. إنها رحلة مدهشة ومثيرة استغرقت نصف قرن ونيف (52 عاما بين 1923 و 1975)، بدأتها أم كلثوم وهي في موقف الانبهار المطلق بالقاهرة وأهلها وفنونها، وأمضتها وأنهتها وهي في موقف إبهار القاهرة وأهلها، بل أهل مصر والعالم العربي بأسره، بشخصيتها وبما قدمته من فن.

ولكن ذلك لم يكن فقط ثمرة حظ سعيد (وإن كان للحظ دور لا ينكر في حياة كل فنان، كما في حياة كل إنسان). فقد رأينا، في الصفحات السابقة، كيف أن النشأة الريفية زودت أم كلثوم، وموهبتها الفنية المولودة معها كهبة الهيه خصها بها الله دون سواها، بأكثر من عنصر من عناصر القوة، كانت الأسلحة التي دخلت بها عالم القاهرة الساحر والجديد والكبير بلا حدود (بالنسبة لها في تلك الأيام):

عنصر قوة الشخصية وقوة الشكيمة والعزيمة. وقد تكوّن هذا العنصر، كما رأينا، عبر تحديات عديدة مركبة، منها أولا تحدي الصعوبات التي يفرضها المجتمع الريفي (كما مجتمع المدن في ذلك الحين وأكثر) على فتاة تولد في بيئة شديدة المحافظة، شديدة التركيز على أفراد العائلة من الذكور، وشديدة الضغط (إلى درجة الإلغاء في كثير من الأحيان) على الإناث من أفراد الأسرة، خاصة إذا أظهرن قوة في الشخصية، وامتلاكا واضحا لمواهب مميزة، فما بالك إذا كانت هذه المواهب في مجال الغناء، الذي كانت شرائح اجتماعية في المدينة (فما بالك في الريف) تعتبره ضربا من العيب والحرام إذا مارسه الرجل، فيكف بالمرأة أو الفتاة إذا فعلت ذلك ؟.

وقد رأينا في التفاصيل، أن الفضل الأول في مقاومة هذا التحدي بالذات (ولادة الأنثى في بيئة محافظة في الريف) يعود إلى والدة أم كلثوم فاطمة المليجي، التي بدأت تتدخل عند كل منعطف حاسم لمصلحة ابنتها، منذ أن كانت في اليوم الأربعين من عمرها، وأصيبت بمرض العينين، حتى الوصول إلى «معركة» رغبة الفتاة في دخول المدرسة. وفي المنعطفين، كانت الأم تقاوم حجة قلة الإمكانات المادية، يبيع ما تملكه من مصاغ.

أما الدور الثاني في مقاومة هذا التحدي (وقد تحول فيما بعد ليصبح دورا أول) فقد لعبته موهبة أم كلثوم نفسها. فلولا أن هذه الموهبة قد تدفقت كالشلاّل الهادر وشع بريقها ساطعا في بيتها الريفي الأول، في مقابل الخمول وانعدام الموهبة لدى شقيقها الاكبر (الذكر) الشيخ خالد، لما انصاع الشيخ إبراهيم البلتاجي لتحويل الموقع الأول المرموق في بيته كما في فرقته، من ابنه «الذكر، البكر، الوحيد» خالد، إلى ابنته الصغرى أم كلثوم، التي لم تكتف منذ ذلك اليوم بانتزاع ذلك الموقع المميز الذي ما كانت التقاليد تتيحه لها في المدينة (فكيف بالريف)، بل تحولت إلى محور لحياة والدها وفنه وعمله، منذ ذلك اليوم في طماي الزهايرة، حتى وفاته في القاهرة، وهو يعيش في ظلال ابتنه، مجرد والد لمطربة مصر والعرب الأولى.

أما التحدي الثاني الذي تصلبت شخصية أم كل في نشأتها الريفية الأولى، من خلال مواجهته، فقد كان تحدي شظف العيش المدقع، وصعوبة الظهور الفني، ثم صعوبة الانتشار، بكل ما يفرضه ذلك وسط إمكانات مادية محدودة إلى درجة الإملاق، ووسائل تنقل بدائية، وغياب كامل (في تلك الأيام، وتلك المنطقة) لأي وسيلة إعلامية كالصحافة أو الإذاعة أو الاسطوانة.

عنصر التكون الفني الراسخ (برغم عدم وجود أي معهد موسيقي في تلك الأيام، ليس في أرياف السنبلاوين أو المنصورة، بل حتى في القاهرة نفسها)، عبر علاقة راسخة بجذور الإنشاد الديني، على يد والدها الشيخ إبراهيم أولا، ثم المشايخ الذين تابعت الطريق معهم، في الريف أولا، ثم في القاهرة بعد ذلك، كالشيخ زكريا أحمد، والشيخ أبو العلا محمد.

وهكذا، كانت مرحلة النشأة الريفية لأم كلثوم كما رأينا، مرحلة التكون الصلب للشخصية الإنسانية، ولبدايات الشخصية الفنية. وإذا كان للحظ من دور بعد كل ذلك الجهد المضني في تصليب عود الشخصيتين (الإنسانية والفنية) فقد تجسد هذا الدور في تلك المصادفات السعيدة، التي لفتت النظر في وقت مبكر مناسب، إلى تلك الموهبة الاستثنائية، التي كان من الممكن لظروف أخرى معاكسة، أن تبقيها مدفونة في أعماق الريف المصري، وكان لفت النظر هذا (لحسن الحظ) يشمل اثنين من أساطين النغم والإنشاد الديني في القاهرة: الشيخ زكريا أحمد والشيخ أبو العلا محمد، فلعبا في القاهرة (أم فنون الموسيقى والغناء في المنطقة العربية) دور المبشر بقدوم صوت استثنائي، قبل أن يلعبا، فيما بعد، دور صقل وتهذيب تلك الجوهرة النادرة، كما سنرى في الصفحات التالية.

إلياس سحاب

back to top