المافيا... دولة المال والدم كابوني ابن الحلاق الذي أصبح أسطورة 7
آل كابوني الإسم الأشهر والأشد ارتباطاً بعصابات المافيا، فعلى رغم حياته القصيرة التي لم تتجاوز 48 عاماً فإنه صنع شهرته كقاتل لا يرحم وزعيم عصابة داهية يتحدى الجميع ولا يؤمن بالمستحيل. انطلقت شهرته إلى الولايات الأميركية كافة التي لقبته باسم آل ذو الندبة (scarface Al )، وهذا ما خلّدته سينما هوليوود لاحقاً في أحد أهم أفلام الجريمة والعصابات وأشهرها لتختلط القصة الحقيقية بالدراما السينمائية وترتبك التفاصيل بين الحقيقة والأسطورة التي كانت موضوعاً لمقالات وكتب وأفلام وأغنيات كثيرة. تميّز ألفونس كابوني بقدرته العجيبة على الإقناع والمراوغة وإرادته الشديدة وعزيمته في الحصول على ما يريد بأقصر الطرق، ما جعل منه حكيم المافيا الكريم الذي خلّدته عبارات كثيرة منها: «الابتسامة مع مسدس تعطي مفعولاً أكثر بكثير من البسمة وحدها»، فضلاً عن عبارته الأشهر التي صارت قانون عمل وخريطة حياة للمافيوزي المحترف: «بالمسدس تحل كل المشاكل».
الإيطالي الغريبوُلد ألفونس كابوني أو آل كما اعتاد أن يناديه المقرّبون منه، في 17 يناير (كانون الثاني) عام 1899، في بروكلين، وهو الإبن الرابع لغابرييل وتيريسينا كابوني المهاجرين من نابولي جنوب إيطاليا. هاجرت أسرة كابوني إلى الولايات المتحدة في عام 1893، واستقرت في 95 شارع البحرية، في قسم ساحة البحرية في وسط مدينة بروكلين. وعندما كان آل في سن الحادية عشرة، انتقلت أسرته إلى 38 ميدان غارفيلد في منحدرات بارك في بروكلين.التحق كابوني بالمدارس الأميركية العامة في بروكلين، وواصل تعليمه حتى الصف السادس، حيث فُصل من المدرسة العامة رقم 133 لشغبه المتكرّر، واعتدائه بالضرب على مدرّسيه، ليخرج إلى الشارع في سن الرابعة عشرة. وكان من أقرب أصدقائه، سواء في المدرسة أو في ما بعد، شاب نحيل أصبح لاحقاً أحد أخطر المجرمين وأشهرهم في الولايات المتحدة وهو لاكي لوتشيانو الذي جمعت بينه وبين كابوني صداقة حميمة امتدت حتى نهاية العمر.بعد خروج كابوني من المدرسة، عمل في وظائف متواضعة، بما في ذلك متجر للحلوى وصالة بولنغ. وتدريجاً، انخرط في أنشطة إجرامية، وتعلّم في شوارع بروكلين فنون السرقة والسطو على المحلات، خصوصاً بعدما انضمّ الى عصابة من المراهقين بقيادة رجل العصابات جوني توريو، والتي كانت صورة مصغّرة من عصابة {النقاط الخمس» الشهيرة آنذاك والتي تخرّج منها كابوني لاحقاً.بعد إتمام مهمّته الأولى مع عصابات غير ذي شأن، بما فيها {الأربعون حرامي» المبتدئون، انضمّ كابوني إلى سفاحي بروكلين، ثم عصابة الـ{خمس نقاط» سيئة السمعة. وكان يتم توجيهه وتشغيله عن طريق فرانكي ييل الذي أخفى نشاطاته خلف عمله كنادل في ملهى رقص في كوني أيلاند ويدعى نزل هارفارد. وفي تلك الفترة عمل كابوني كحارس في ملهى بروكلين، حيث تعرّض لثلاث طعنات سكين في جانب وجهه الأيسر، من شقيق امرأة دخل كابوني في شجار معها وأهانها عن غير قصد، كما قال لاحقاً. الغريب أن كابوني اعتذر لغلاسيو، شقيق المرأة، وطلب منه العمل لديه حارساً شخصياً في وقت لاحق. وقد أطاحت تلك الجروح بوجه كابوني الذي كان يصرّ عند التقاط صور له على إخفاء الندوب التي لم تعالج بشكل صحيح فتركت آثارها كجروح حرب، ومنحت كابوني لقب شهرته «آل ذو الندبة». ووفقاّ لآخرين، فإن كابوني حظي باسم للتدليل بين أصدقائه المقربين وهو «سنوركي».بعد مجموعة من الجرائم في بروكلين، حامت الشبهات حول كابوني، فقرر الانتقال إلى مدينة أخرى للعمل فيها، لتبدأ رحلته مع الجريمة المنظّمة في سن السادسة والعشرين. تزوّج في 30 ديسمبر (كانون الأول) 1918 من ماي جوزفين كافلين بعد أن كانت قد أنجبت ابنهما ألبرت فرنسيس أو سوني. ويُعتقد أن كابوني غادر نيويورك مع عائلته، إلى شيكاغو في عام 1921، وذلك كتلبية لدعوة توريو الذي كان يسعى الى الحصول على فرص للعمل في مجال الغش والتهريب. حكيم شيكاغو في شيكاغو، المدينة التي تحولت يوماً بعد يوم إلى عاصمة الجريمة المنظمة الأولى في العالم، بدأت تحوّلات كابوني من شخصية الشاب القاتل الطائش الذي لا يحكمه عقل أو قواعد إلى قاتل مخادع ماكر وزعيم حازم شديد الدهاء قادر على إدارة عصابته في ظل منافسة شديدة في المدينة، التي منحته قبل أن يتجاوز الثلاثين من عمره أموالها وثرواتها التي كانت تحت إدارته وإمرته. اتصف كابوني بأنه رجل ذكي لا تعرف متى يظهر وجهه الآخر، فكان دائماً يبدي الاحترام للجميع ممن يعملون معه، سواء الكبير أو الصغير ولم يحاول أبداً التصدي لأحد بسبب ديانته أو جنسيته، لكنه كان يلجأ أحياناً إلى المسدس لتصفية بعض الأمور، حينما تفشل الحيل مؤمناً بأن بالسلاح وحده يمكنه حلّ أعقد المشكلات وأصعبها.بدأت قصة كابوني في شيكاغو، كما ذكرت المصادر، بحوار دار مع صديقه القديم جوني توريرو الذي يمت في الوقت نفسه بصلة قرابة لجيمس كولوسيمو «بيغ جيم»، زعيم أكبر شبكة دعارة في شيكاغو آنذاك، وكان كابوني مشتبهاً به في قضيتي قتل، ويسعى الى الحصول على وظيفة أفضل لإعالة أسرته الجديدة. فحاول وتوريرو إقناع العم «بيغ جيم» بالتخليّ عن نشاط الدعارة والاتجاه الى أنشطة السرقة والسلب والنهب وفرض الإتاوات لكن من دون جدوى، فقررا التخلّص منه للسيطرة على أفراد العصابة والتحكّم في إدارتها بالصورة التي تروق لهما. استطاع توريرو بسهولة الاستعانة بقاتل مأجور من نيويورك ليقتل عمه، وهذا ما تم فعلاً، فورث أكبر عصابة في شيكاغو واستولى عليها، ليصبح لكابوني وتوريرو الحق وسلطة التحكم في شيكاغو باستثناء شمالها، الذي ضم عصابة أخرى كبيرة تزعّمها رجل من أصل إيرلندي يدعى ديون أبانيون.لم تمرّ الأيام بسلام على رغم الحدود الفاصلة والمتعارف عليها بين العصابتين، إذ سرعان ما اندلعت حرب كبيرة عمل فيها كابوني وشريكه توريرو على قتل ديون، واستمرت هذه الحرب لسنوات انتهت بمقتل ديون وإصابة توريرو إصابة بالغة في إحدى المعارك، والتي كادت أن تودي بحياته في عام 1925، وعلى إثرها قرّر الاعتزال والاكتفاء بما حصل عليه من أموال والعودة إلى بروكلين ومنها إلى إيطاليا. بالتالي، أصبح كابوني الزعيم الأوحد وهو لم يتعدّ السادسة والعشرين، على عصابة تضم أكثر من ألف مجرم من جنسيات وأصول مختلفة، يأتمرون بأمره ويتلقون منه رواتب بلغت ميزانيتها حوالى 300.000 دولار أسبوعياً.اشتهر كابوني بالسيطرة على أجزاء كبيرة من عالم الرذيلة في شيكاغو، والتي قدمت ما يقدر بـ 100 مليون دولار سنوياً من الدخل القومي. وقد جمع هذه الثروة من الأنشطة غير القانونية، مثل القمار والدعارة، وبيع الخمور. صنع كابوني شهرته بقيادة عصابات جرائم التهريب وغش الخمور وغيرهما من الأنشطة غير القانونية خلال فترة الحظر التي أعقبت بداية الحرب العالمية الأولى وأزمة اقتصادية ضربت البلاد بين عامي 1920 و 1930، فيما احتفظ ببطاقة هويته بمهنة تاجر للأثاث المستعمل.مع تدفّق الأموال، ازدادت قوة قبضة كابوني السياسية وعلى مؤسسات تنفيذ القانون في شيكاغو، وتعاظمت رغبته في فرض سلطته ووصل الأمر إلى حدّ رشوة عمدة شيكاغو وليام «بيل الكبير» هيل طومسون، لغض الطرف. وقيل إنه حصل على اهتمام وسائل الإعلام ليصبح من المشاهير في سن مبكرة على رغم وصفه بأنه «عدو الشعب رقم واحد»، إلا أنه اعتاد الرد بلطف قائلاً: «أنا مجرد رجل أعمال، أعطي الناس ما يريدون، وكل ما أفعله هو تلبية احتياجات الجمهور».مذابح فرض السيطرة بسبب العداوات التي صنعتها رغبته في السيطرة على شيكاغو، تعرّض كابوني لأكثر من مائتي محاولة اغتيال منها محاولات عدة بدس السم في طعامه، ولم ينجح في تخطّيها وعبورها إلا بفضل حراسه الشخصيين وبراعتهم إما في صد الهجوم أو إفشاله قبل أن يتم. وعلى رغم وفاء المقربين له، إلا أن الأمر لم يخلُ من محاولات تجنيد مساعديه لاغتياله، وقد فشلت كلّها وبقيت قصص انتقامه ممن خانوه تتسم بالبشاعة والقسوة على قدر جرم الخيانة كما قال كابوني قبل أن ينفذ في الخائنين حكم عدالته. يُذكر أن اثنين من رجاله وهما جون سكاليز وألبرت أنسيلمى، قررا العمل لحسابهما والتخلّص من سيطرة كابوني وزعامته بالاشتراك مع بعض أعدائه من منافسيه في مجال الجريمة. فوصل الخبر إلى كابوني، فدعاهما الى تناول العشاء الفاخر. وبمجرد الانتهاء من تناول الطعام وبحلول منتصف الليل، أخرج كابوني من سترته سيفاً هندياً ملفوفاً بقطعة من الحرير كهدية لهما وفي حركة خاطفة أطاح برأس الإثنين.أدّت أعمال العنف التي وقف وراءها كابوني ليس إلى نجاحه وشهرته فحسب، بل إلى حنق منافسيه أيضاً، لا سيما من عدوَّيه اللدودين في عصابة الجانب الشمالي هايم فايس وبغس موران. فقد مُزقت سيارته مراراً بالرصاص كما في 20 سبتمبر (أيلول) 1926، إذ أطلقت عصابة الجهة الشمالية النار على محيط كابوني وهو يتناول طعام الغداء في مطعم فندق هاوثورن، ذلك باستخدام موكب من عشر سيارات تعج بحاملي البنادق ورشاشات طومسون فأمطروا واجهة الفندق والمطعم في الطابق الأول بالرصاص. ولم ينجُ كابوني إلا بفضل الحارس الشخصي فرانكي ريو حين ألقاه على الأرض مع أول صوت إطلاق النار وارتمى فوق «الزميل الكبير». دفعت هذه الهجمات كابوني الى تزويد سيارته الكاديلاك بدروع، وزجاج مضاد للرصاص، وإطارات هوائية فضلاً عن صفارة إنذار خاصة بالشرطة، وهي السيارة التي استولت عليها لاحقاً وزارة الخزانة الأميركية بعد القبض على آل كابوني في عام 1932 لتُستخدم كسيارة ليموزين للرئيس الأميركي آنذاك فرانكلين روزفلت. بعد تلك الحادثة، وضع كابوني حراساً شخصيين مسلًحين على مدار الساعة في مقر إقامته في فندق يكسنغتون. واشتهر في تلك الفترة بالتنقل السرّي بين الكثير من الملاجئ والمخابئ خارج شيكاغو في بروكفيلد، ويسكونسين ؛ مينيسوتا؛ أويان، نيويورك؛ لايك الفرنسية، انديانا؛ دوبوك، ايوا؛ فلوريدا؛ جونسون سيتي، تينيسي؛ غراند هافن؛ ميتشيغان؛ وانزينغ، وفي عام 1928، اشترى كابوني 14 غرفة كملجأ على جزيرة بالم، فلوريدا بالقرب من شاطئ ميامي. ولمزيد من الحيطة، اعتاد كابوني والوفد المرافق الظهور فجأة في إحدى محطات القطار بشيكاغو ليشتروا تذاكر عربة نوم كاملة في نهاية القطارات المتجهة إلى أماكن مثل كليفلاند، أوماها، كانساس سيتي، وليتل روك أو الينابيع الساخنة في اركنساس، ليقضوا أسبوعاً في فنادق فخمة الأجنحة بأسماء مستعارة بمعرفة السلطات المحلية وطواطئها الذي انتهى مع مذبحة يوم القديس فالنتين في 14 فبراير 1929 في ضاحية لينكولن بارك بجانب شيكاغو الشمالي. وعلى رغم أن تفاصيل تلك المذبحة غير معروفة تحديداً إلا أنها انتهت بمقتل سبعة أشخاص. وقد نفِّذت كمحاولة للرد على عصابة باجس موران، آخر قائد لجماعة أبانيون الأيرلندية. ولرصد عادات الأهداف وتحركاتها استأجر رجال كابوني شقة في مستودع الشاحنات الذي كان بمثابة مقر موران. أمر كابوني باغتيال موران، فقضت خطة العمل باستدراجه لاستكمال بيع صفقة خمور بسعر منخفض. وصل موران متأخراً إلى المكان المتفق عليه ليلحظ عن بعد رجال شرطة فهرب في الحال، والواقع أن هؤلاء الرجال لم يكونوا سوى رجال كابوني المتنكرين بزي الشرطة وقد دخلوا المستودع ظناً منهم أن موران قد سبقهم إليه فأفرغوا رصاصاتهم في رأس سبعة من رجاله لاعتقادهم بأنه واحد منهم، وأصيب كل منهم بخمس عشرة إلى عشرين رصاصة، وهذا ما وصفته الحكومة الأميركية بأنه أبشع عمل إجرامي قامت به المافيا. وقد دفعت هذه الأخبار الإدارة الأميركية إلى التخلّص من كابوني، لكنها فشلت في التوصّل إلى أدلة تفيد تورّطه.النهايةوالغريب، أن كابوني، مجرم شيكاغو الرهيب، لاحقته السلطة في عام 1931، عندما كان أحد المتهمين والمدانين من الحكومة الاتحادية بتهمة التهرب من دفع الضرائب ليدخل السجن أحد عشر عاماً. وفي مايو (أيار) 1932، أُرسل كابوني إلى سجن أتلانتا الأميركي، لكنه تمكّن من الحصول على امتيازات خاصة، ثم نُقل إلى سجن الكاتراز الشهير بإجراءاته الأمنية الصعبة للتأكد من أن كابوني ليس على اتصال بالعالم الخارجي. وعلى رغم أنه تكيّف نسبياً مع البيئة الجديدة، إلا أن وضعه الصحي ساء بسبب مرض الزهري (السفلس) الذي أصيب به في شبابه نتيجة لعلاقاته الجنسية المتعددة. فقضى السنة الأخيرة من مدة العقوبة في مستشفى السجن، مضطرباً ومشوشاً. أنهى كابوني فترة عقوبته في الكاتراز في 6 يناير 1939، فنُقل إلى المؤسسات الإصلاحية الفيدرالية في ولاية كاليفورنيا، لخدمة بلده لمدة عام، عقوبة الجنحة. ثم أُفرج عنه بشروط في 16 نوفمبر 1939، ليسافر بعدها مع بعض أفراد عائلته إلى منزله بولاية فلوريدا، حيث عاش هناك لمدة تسع سنوات عانى فيها من نوبات متقطعة من المرض وغياب الوعي وفقدان الإدراك والنسيان، وقد ظل رفاقه القدامى من المافيا يزورونه من حين الى آخر من دون أن يكون له أي دور في أية أنشطة إجرامية. تُوفي كابوني بعدما أنهكه المرض، في 25 يناير عام 1947، فبكاه كثيرون ممن اعتبروه أحد أهم زعماء المافيا وأشهرهم، وقد حملت شخصيته ملامح درامية جمعت بين القاتل الشرس والمجرم العنيف والإنسان اللطيف الذي يحنو على الفقراء.