المافيا... دولة المال والدم إيطاليا مهد الجريمة المنظّمة 3

نشر في 13-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 13-08-2010 | 00:00
مثلما اشتهرت إيطاليا بأنها مهد الفن والسباغيتي والبيتزا والموناليزا وسيارات الفيراري، كانت أيضاً مهد المافيا، إذ احتضنت شبه الجزيرة الإيطالية المافيات الأربع الرئيسة في تاريخ الجريمة المنظمة، والتي كان لها فضل الريادة قبل المافيا الإيطالية - الأميركية ( المسماة كذلك تيمناً بكوزا نوسترا الأصلية)، وما تلاها مما استُنسخ على يد المافيا الصينية (ترياد) والمافيا اليابانية (ياكوزا) والمافيا التركية (باباس) والمافيا الألبانية وحتى عصابات المافيا الجامايكية وغيرها على امتداد خريطة العالم.

توزّع فخر الانتماء الى المافيا الإيطالية بين عائلات أربع: الأولى نشأت في كورليون صقلية وحملت اسم La Cosa Nostra، وهي الأشهر بين جماعات مافيا إيطاليا، وقد عرّفها المؤرخ ماركو مونيير سنة 1863 بأنها «النهب المنظم، مؤسسة شعبية سرية هدفها النهائي إحداث الشر». أما الثانية فهي جماعة سرية تُدعى «كامورا» تكوّنت في سجون نابولي بإيطاليا، وانتشر نفوذها في بداية القرن التاسع عشر في المدينة. العائلة الثالثة منظّمة سرية إجرامية اسمها ندرانجينا أو{أونوراتا سوسيتا» وتعني «الجمعية المحترمة» في اللغة الإيطالية، وقد اكتسبت نفوذًا كبيراً في إقليم كالابريا الإيطالي مع بدايات القرن العشرين، وأخيراً «ساكرا كورونا اونيتا» في مدينة «باري» . وقد شهد العام 1900 اجتماع عائلات المافيا في غرب صقلية وقيامها بتكوين ما يشبه الاتحاد الفيدرالي في ما بينها للسيطرة على معظم الأنشطة الاقتصادية في غرب الجزيرة، وهذا ما دفع الديكتاتور الفاشستي موسوليني للضرب بيد من حديد في عشرينيات القرن الماضي للقضاء عليها، لكن هزيمة إيطاليا في الحرب ساعدت على صعود المافيا مجدداً.

وبنهاية أزمة وحروب الصراع والسلطة في الثمانينيات والتسعينيات، أدت سلسلة من حروب العصابات في ما بينهم إلى اغتيال الكثير من أعضاء المافيا البارزين، فركّز جيل جديد من رجال المافيا على الأنشطة الإجرامية «للياقات البيضاء» بعكس الأنشطة الإجرامية التقليدية ونتيجة لهذا التغير، استحدثت الصحافة الإيطالية عبارة La Cosa Nuova أو « الشيء الجديد»، بدلاً من العبارة القديمة التي كان تطلقها المافيا الإيطالية على نفسها وهي La Cosa Nostra في إشارة إلى التجديدات الجديدة التي طرأت على المنظمة.

ما زالت الشرطة الإيطالية حتى الآن تقرّ بوجود هذه الجماعات أو العائلات، التي اتخذت من تاريخ الأجداد هادياً لطريق الجريمة، وفي مايو (أيار) 2010 ألقت القبض على ميكيلي كيركيا، البالغ 58 عاماً، أحد زعماء مافيا الكامورا بنابولي والموضوع على قائمة أخطر 100 هارب من العدالة. الطريف، أن الرجل قُبض عليه في فيلا صغيرة في إحدى ضواحي «فيومشينو» في العاصمة روما، حيث كان يمارس منها نشاطه في تجارة المخدرات، ولما لم يجد طريقة للهرب، قال لرجال الشرطة الذين امتلأ بهم المكان، وبصوت هادئ: «أهنئكم، كيف عرفتم بوجودي في هذا المكان النائي؟». وكانت السلطات الإيطالية قد اعتقلت قبله بأسابيع زعيماً آخر لإحدى عائلات المافيا، وهو أنطونيو كريستيفارو، واكتشفت استخدامه تمساحه، الذي يعدّه حيوانه الأليف، وطوله يزيد على 1.1 متر، لابتزاز أموال الناس، وكبار رجال الأعمال، وذلك في حادثة أدهشت الكثيرين لاحتفاظ كريستيفارو بالتمساح ووزنه 40 كيلوغراماً، على شرفة منزله، بالقرب من مدينة نابولي جنوبي إيطاليا.

الكامورا 

الكامورا إحدى أشهر عائلات المافيا الإيطالية وأقدمها، تغنّى بقوتها البعض ومنهم «لطفي دوبل كانون»، أحد مطربي الراب الجزائريين. والكامورا، أو «الحماية» عائلة ذات نشاط إجرامي نشأت في المدينة بخلاف الكوزا نوسترا المنحدرة من أصول قروية، لذا تجذرت الكامورا في أوساط الشعب، وخصوصاً الأشد فقراً. وقد عرفت بداياتها في نابولي بإيطاليا في مطلع القرن التاسع عشر ويعتقد بأن جذورها تمتد إلى أقدم من ذلك. وأدى العنصر النسوي دوراً بارزاً داخل هياكلها بسبب تعدّد الاعتقالات والاغتيالات.

لكن سطوة تلك الجماعة تجسّدت قبل عامين بتربّع «كَامورا» على عرش الكتب الأكثر مبيعاً، خصوصاً في السجون الإيطالية كما أكدت وسائل الإعلام، والذي تُرجم إلى الفرنسية والألمانية والإنكليزية، إذ حظيت الرواية بتوزيع مكثّف في أوروبا والولايات المتحدة، وهي من تأليف الكاتب الإيطالي روبرتو سفيانو، وحائزة جائزة فياردجيو الأدبية الإيطالية. وبدلاً من أن تُسلَّط عليه الأضواء، أُجبر سفيانو على الاختفاء تمامًا وعدم الظهور علنًا، بل إنّ وزارة الداخلية الإيطالية أصبحت مسؤولة عن سلامته، وإخفاء تحرّكاته ومقرّ سكنه عن الصحافة والإعلام، كون حياته أصبحت مهددة من عصابات الجريمة المنظّمة الإيطالية. وبحسب إحصائيات سفيانو الشخصية، فإن الكامورا قتلت 3600 شخص في المنطقة المحيطة بنابولي، حيث كان يقيم منذ 1979، ويضيف ابن مدينة نابولي: «أنا أعرف أين أضرب حتّى يحسّوا بالألم». يقدّم سفيانو في عمله الذي استقى مادته من عمله وعلاقاته تفاصيل دقيقة حول أساليب عمل الكامورا وامتداداتها في عصر العولمة في مختلف المجالات: المخدرات، سلب الأموال بالتهديد، الموضة والملابس الجاهزة، والشحن (وخصوصاً مع العصابات الصينية) والسياسة.

إيطاليا في حضن المافيا 

الكاتب الصحافي فرانك فيفيانو الذي أجرى حواراً في السبعينيات مع امرأة من إحدى عائلات المافيا المتنفّذة في الجزيرة وتُدعى الأم جونز، أحصى وجود 186 عائلة مافيا في صقلية، منها 76 تعمل في العاصمة باليرمو وريف كاسيلاماري، وترتبط معظم هذه العائلات مع بعضها ضمن مجلس يضم غالبيتها، ويتشكل من ثلاثة أعضاء فقط أحدهم كان جيتانو بادالمنتي، زعيم مافيا كاسيلاماري. وقبل تأسيس ذلك المجلس كانت الجريمة المنظمة في صقلية محلية تعمل على إفساد المسؤولين الصغار، وكانت عائلات المافيا تجمع ثروات معقولة لكنها ليست كبيرة، لكن بعد تشكّله بدأت السيطرة على إيطاليا وخلال سنوات معدودة أصبحت تسيطر على حوالي خمس الاقتصاد الصناعي في إيطاليا، ومع بداية التسعينيات توسّع طموحها ونشرت عملياتها إلى بقية دول أوروبا وكثير من دول العالم. وعلى رغم محاولة توحيد أنشطة المافيا الصقلية، إلا أن بعض العائلات الطموحة عارض وما زال فكرة استراتيجية العمل المشترك، ومنذ عام 1978 يسقط حوالي 900 إيطالي سنوياً نتيجة الصراعات والتصفيات الناتجة من حدّة التنافس بين عصابات المافيا في صقلية والتي طاولت أيضاً مسؤولين حكوميين وقضاة.

تتعقّد الخيوط المتعلّقة بالمافيا في إيطاليا حتى أنه يصعب معرفة من يعمل لمصلحتها ومن يعمل ضدها. فآخر الفضائح السياسية كانت قبل عام بالحكم على حليف لرئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلوسكوني بالسجن تسعة أعوام بسبب تورّطه في التعامل مع المافيا. وقبل أعوام تعرّض رئيس الوزراء السابق جيوليو أندريوتي للمحاكمة بتهمة عقد صفقات مع زعيم المافيا في صقلية. وبعد مواجهة الدولة عمليات دموية خطيرة في 1992 وتعرّضها لردّ شديد باعتقال المتهمين الفارين الذين ارتكبوا تلك المجازر وتوسيع عمليات المتابعة ومصادرة ممتلكات بلغت عشرات المليارات، وصدور أحكام قاسية على المتهمين، اختارت المافيا اتباع سياسة «الهدنة» لينسى الرأي العام والخاص خطورتها الرهيبة. فركّز بروفينزانزو، زعيم المافيا، نشاط المنظّمة كله في الصفقات الاقتصادية والمالية الكبرى كي تظهر على أنها العامل المنشّط لاقتصاد إيطالي ضعيف وغير منتج، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، لتقترح المنظّمة نفسها قوة سياسية واجتماعية قادرة على التحكّم في الاقتصاد والقيام بعملية تنمية تنوب فيها عن السلطات العمومية أو تتعاون معها فيها. غير أن سياسة المافيا في زمن «الهدنة» أخطر بكثير من سياستها في زمن «الحرب»، إذ إنها تظهر قدرتها الفائقة في اختراق الهيئات السياسية والمالية الحكومية والحرة، وفي ربط علاقات متينة ضمن النسيج الموجود بين السكان الفقراء والسلطات العليا، وبذلك تتمكّن من توسيع مجال تدخّلها والقدرة على التأثير في المواقف السياسية بالمناطق الخاضعة لنفوذها.

تحاول إيطاليا التحرّك في إطار قانون «لاطوري» المعروف بقانون 109 الذي مكّنها من متابعة أنشطة زعماء المافيا ورصدها، وهو قانون يرغمهم على التصريح بالممتلكات ويخوّل القضاة مصادرة ثرواتهم إذا تبين أن مصدرها غير قانوني.

ثمة أيضاً حركة المجتمع الأهلي الإيطالي ضد المافيا، التي تزعّمتها حركة «ليبيرا» التي جمعت أكثر من مليون توقيع داعية إلى نزع الأراضي التي اغتصبتها المافيا، ومنحها لتعاونيات فتية سواء في الشمال الإيطالي أو في الجنوب. واستطاعت هذه الحركة إنشاء شبكة تتضمن أكثر من 1500 مجموعة توحّدها رغبة جامحة لتحقيق المساواة والعدالة، فأعطت المثال على أن أنجع طريقة لمقاومة المافيا هي إشراك المجتمع المدني في هذه المعركة، بدل ترك قوات الأمن وجهاز القضاء وحيدين في الميدان وفي وضع ضعيف. ولم تعد «ليبيرا» وحدها في الساحة بل تبعتها حركات أخرى مثل «توبيزو» و»أمازاتيتشي توتي» أو اقتلونا جميعاً.

من يعلّق الجرس؟ 

يرى متابعون إيطاليون أن المجال الذي لا يتغير، أو يتغير ببطء، في هذه المعركة، هو المجال السياسي، وأن استمرار الحملة الأمنية ضد جناح المافيا العسكري بتعاون إيطاليا والولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً العملية الكبرى في فبراير/شباط 2008، أمر جيد، لكن الحرب ينبغي أن تركّز على عمود المافيا الفقري، ألا وهو علاقاتها الخارجية، أي روابطها وعقودها الخفية مع الذين ينشطون ضمن القانون، سياسياً ومالياً واقتصادياً ومؤسساتياً. ويرى البعض أن اتباع سياسة التصفيق عندما يُلقى القبض على رأس من رؤوس المافيا، ثم الاحتجاج لاحقاً عندما يبدأ تعميق البحث وإلقاء مزيد من الضوء على الجوانب المظلمة من القضية، سياسة لا تجدي فتيلاً في مكافحة الإجرام المنظم، بل تفسح في المجال أمام التنظيم المغلق لالتقاط الأنفاس ومتابعة الأنشطة. وهذا ما حصل للقاضيين فالكوني وبورسيللينو اللذين لاحقا المافيا أمام القضاء واستطاعا تضييق الخناق على المنظمة الخطيرة، إذ كانا على قاب قوسين أو أدنى من توجيه الضربة القاضية إليها، لكن نُظمت ضدهما حملة منظّمة اتّهم فيها فالكون بالانحياز السياسي وخدمة أجندة حزبية أقرب ما تكون إلى اليسار، فأوقفت الملاحقات القضائية. ثم تعرّضا بعد ذلك للاغتيال، خصوصاً مع خروج ما يؤكد تورّط معظم الهيئات السياسية والدينية في هذا الملف الممتلئ بالألغاز والأساطير، وعلى رأس المتورّطين برلوسكوني وأكثر من 290 شخصية سياسية من مختلف الأحزاب ورجال صحافة وإعلام وعسكريين وأمنيين، وهذا معناه وجود «دولة داخل الدولة».

من ناحية أخرى، حذّر المدعي العام الإيطالي الخاص بمكافحة جرائم المافيا بييرو غراسو المعروف باسم {صائد المافيا»، من نشاط المافيا في عالم كرة القدم، وذلك في مقابلة مع صحيفة {لا غازيتا ديلو سبورت} مؤكداً أن {كرة القدم في مرمى نيران المافيا} ومحذراً من التقليل من أهمية الموضوع.

أوضح غراسو أن المافيا تستخدم أندية كرة القدم في إيطاليا في عمليات غسيل الأموال القذرة الناتجة من أنشطة إجرامية، محذراً من المسابقات الرياضية والتي تعد بيئة خصبة لأشكال مختلفة من التحايل. كذلك، رأى أن الأندية الكبرى أقل عرضة لخطورة أن تصل إليها المافيا من الأندية الصغيرة التي لا تلفت اهتمام الإعلام، مشيراً إلى أنه ليس من الضروري وضع قوانين جديدة أكثر صرامة لحماية أندية كرة القدم من المافيا، فقوانين كثيرة موجودة ولكنها تحتاج الى التطبيق.

في يوليو (تموز) 2009، أصدرت محكمة في جزيرة صقلية الإيطالية أحكاماً بالسجن على أكثر من 50 شخصاً من أعضاء المافيا المحلية، وتجاوزت الأحكام الصادرة ضد بعض المدانين الـ20 عاماً، في قضية تقول الحكومة الإيطالية إنها خطوة بارزة في معركتها ضد الجريمة المنظمة، وخصوصاً أن المحكوم عليهم في هذه القضية ينتمون إلى عائلة «لو بيكولو» الإجرامية التي دأبت على فرض»إتاوة» على المتاجر والمصالح التجارية في الجزيرة بزعم حمايتها. وتعد هذه المرة الأولى التي تتمكّن فيها مجموعة من رجال الأعمال الصقليين بالتعاون مع الشرطة من إثارة اتهامات قضائية ضد عناصر المافيا، إذ تضمنت القضية المطالبة بتعويضات عن الأضرار البشرية والمادية. وتشير المعلومات إلى أن أحد المتهمين الرئيسين في القضية وهو كالوجيرو لو بيكولو، هو ابن أحد ملوك المافيا في الجزيرة وقد اعتُقل في عام 2008.

وإن كانت هذه الأحكام لا تعني أن المعركة ضد المافيا في صقلية قد شارفت على الانتهاء، فقد أعلنت السلطات الإيطالية أخيراً أنها تحقق في معلومات جديدة تشير إلى تورّط عناصر في الجهاز الأمني بصقلية، في قضية اغتيال اثنين من كبار المحققين والقضاة في جرائم المافيا في الجزيرة قبل 17 عاماً.

الحصاد المر 

في عام 2002، أظهرت دراسة أن المافيا ما زالت تمسك بخناق الشركات في إيطاليا عن طريق ابتزاز أموالها لتوفير الحماية أو تقديم قروض بفوائد باهظة، على رغم ابتعادها عن دائرة الضوء وتوقّف عمليات التفجير وقتل شخصيات مشهورة. ويقدّر حجم أعمال المافيا الإيطالية السنوي

بـ 100 مليار يورو، وهي تتفوّق بذلك على شركة «فيات» الإيطالية العملاقة لصناعة السيارات، وعلى الناتج المحلي الإجمالي لدولة مثل مصر. وتقوم أعمالها على فرض إتاوات وابتزاز أموال الأثرياء والمشاهير ورجال الأعمال، فضلاً عن تصفية خصوم سياسيين نظير مقابل، أو تجارة السلاح، وتجارة المخدرات، واستخدام النفوذ لفرض تسويق نوعية من البضائع، والتزوير في المراهنات والمزايدات. وذكرت جريدة «لا ريبوبليكا» الجمهورية- الإيطالية أن عدد الشركات والمحلات التجارية التي تدفع إتاوات لجماعات المافيا يصل إلى 160 ألف. وتتراوح التسعيرة الربع سنوية بين 500 يورو للمحلات الصغيرة إلى 5000 يورو للشركات الكبيرة. ولا يتردد أصحاب الأعمال في الدفع لأن المافيا نجحت في ترسيخ مفهوم «الموت هو نهاية المقاومة».

وأفادت الدراسة التي أجرتها مجموعة تمثّل أصحاب متاجر التجزئة بأن الجريمة المنظّمة تكلّف القطاع التجاري في إيطاليا نحو 60 مليار يورو (58.65 مليار دولار) سنوياً. ويشمل الرقم التكاليف المباشرة لدفع أموال مقابل الحماية والقروض الباهظة، وغير المباشرة مثل السرقات ونفقات أمنية وغيرها.

تابعت الدراسة بأن نحو ثمانية مليارات يورو تذهب مباشرة الى جيوب المافيا من نحو 160 ألف متجر وشركة صغيرة تدفع أموالاً لعصابات الجريمة المنظّمة مقابل الحماية. وأضافت أن الجريمة المنظّمة تضر بشكل أو بآخر بجميع الأعمال في بعض المناطق في جنوب إيطاليا وخصوصاً في صقلية، فضلاً عن أن الجريمة المنظّمة تسعى الى مدّ نفوذها نحو شمال إيطاليا ولكن بدرجات نجاح متباينة إذ لا تزال نسبة عمليات الابتزاز في روما وحتى الشمال أقل من 10%.

تواصل المافيا صراعها من أجل البقاء في موطنها الأصلي، حيث حافظت على وجودها بين ارتفاع وسقوط لأكثر من 150 عاماً، وربما كانت لوجودها جذور قبل ذلك بحسب دراسات جادة، إذ نجحت ببراعة في تجاوز أزمات كثيرة وثلاث مراحل وثلاثة أنظمة سياسية متمايزة في تاريخ إيطاليا الحالية: الليبرالية والفاشية والجمهورية. وقد تلوّنت المافيا لتستمر وأصرّت على ألا تكون كياناً واحداً وإنما تنظيماً له ألف وجه من المافيا الإيطالية التقليدية، والمافيا العالمية المستوردة: روسية وألبانية، وصينية، ونيجيرية، وغيرها من المافيات التي رسّخت أقدامها في التربة الإيطالية. وإن كانت المافيا قد ضعفت قليلاً في إيطاليا بعد أن لاحقتها السلطات، إلا أنها لم تختفِ تماماً، بل إنها تشهد انتعاشاً جديداً الآن في أماكن أخرى من العالم، وإن كانت الحقائق التي تكشف عنها الأحداث في بلد أوروبي كإيطاليا، ليست بعيدة أو منفصلة عن أي بلد آخر، خصوصاً في زمن العولمة الذي تلاشت فيه الحدود وتقلّصت المسافات.

back to top