أوباما وسلام الشرق الأوسط ... دولتان ولا حلول
من المستبعد أن يخاطر البيت الأبيض ويتحمل الكلفة السياسية التي قد تترتب على تضييقها الخناق على إسرائيل، لكن عناد هذه الأخيرة يؤكد أن "البداية الجديدة" في تعاملات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط، التي تحدث عنها أوباما في خطابه الشهير في القاهرة في شهر يونيو عام 2009، لن تبصر النور، ما سينعكس سلباً على موقف الولايات المتحدة في المنطقة، فهل هذا مقبول حقاً؟
كنت قبل أيام في أبوظبي، حيث أُحاضر عن السياسة الخارجية الأميركية في إحدى الكليات هناك، فطُلب مني أن أجري مناقشة عن سياسة الشرق الأوسط التي تتبعها إدارة أوباما. رحت أستعد لما قد يُطرح عليّ من أسئلة... أدرك ما سأقوله عن إيران والعراق والانتخابات المصرية. إلا أنني توقفت عند "عملية السلام"، إذ وجدتني في حيرة من أمري، فقد بلغت هذه العملية لتوها حائطاً مسدوداً، مع إعلان الإدارة الأميركية قرارها بالتخلي عن جهودها المحرجة الرامية إلى رشوة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كي يقبل بخطوة بسيطة ويجمد بناء المستوطنات لتسعين يوماً إضافية. أحاول دوماً تحدي افتراضات مستمعيَّ, ولكن إذا اعتقدوا أن عدم المرونة الإسرائيلية تدفع بالفلسطينيين إلى اليأس واستبعاد حل إقامة دولتين، فلن يكون بوسعي الرد عليهم، مكتفياً بالتأكيد أن الانشقاقات الداخلية الفلسطينية تزيد الطين بلّة.كان الحضور ودوداً في أبوظبي، ولكن أثار أحدهم القضية الفلسطينية- الإسرائيلية، وطرح علي السؤال: "كيف يُعقل أن يسمح الرئيس أوباما بذلك؟ ألا يستطيع الضغط على الإسرائيليين؟". ففكرت: ما الجواب الأفضل عن هذا السؤال؟ هل هو: "حاول. إلا أن جهوده لم تكن كافيةً، فاستسلم"؟ أو لعله: "لا، فعلى غرار أفغانستان والعراق، اكتشف أنه لا يملك النفوذ الذي ظن في مرحلة ما أنه يتمتع به".قد يجد البعض أن من المنطقي القول إن أوباما واجه أوضاعاً صعبة في إيران والعراق وأفغانستان، لكنه بذل قصارى جهده (مع أنه بات من الصعب تطبيق هذه الحجة على أفغانستان اليوم). إلا أن هذا العذر لا يبرر جمود مسيرة السلام، فقد أعلنت إدارة أوباما هزيمتها، وتخلت عن أمل عقد محادثات مباشرة بين الطرفين، واكتفت بمحادثات "متوازية"، مع تنقل الوسيط الأميركي بلا هوادة بين العواصم المختلفة. صحيح أن هذا يُلغي عقبة تجميد المستوطنات، الذي رفضته إسرائيل، غير أنه يتطلب تسويات في مسائل أساسية يبدو كلا الطرفين غير مستعدين لتقديمها. نتيجة لذلك، لا تملك المحادثات "المتوازية" فرصاً كبيرة بالنجاح. علاوة على ذلك، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، والجنرال ديفيد بتريوس أن الإخفاق المتواصل في عملية السلام يهدد الأمن القومي الأميركي. لا شك أن اليأس الذي ينتاب الفلسطينيين راهناً والغضب المتفشي بين شريحة واسعة من الشعوب العربية يشكلان خطراً كبيراً يهدد الولايات المتحدة، فعلى غرار "القاعدة"، تتغذى "حماس" و"حزب الله" بالغضب المعتمل في العالم الإسلامي بسبب مأساة الفلسطينيين.أمام البيت الأبيض اليوم عدد من البدائل المحتملة، التي سنتطرق إليها أدناه، لكن المشكلة الكبرى تكمن في أن الفلسطينيين ما عاد بيدهم حيلة. سألت رامي خوري، مفكر فلسطيني- أميركي يدير معهداً للسياسة العامة في الجامعة الأميركية في بيروت، عما يستطيع الفلسطينيون فعله في هذه المرحلة، فأجابني: "لا نملك أي نفوذ أو تأثير. وإذا أخفقت هذه الجهود بالكامل، أعتقد أن الضغوط ستتزايد، على الأرجح، داخل المجتمع الفلسطينية لإعادة صياغة السياسة المتبعة، فقد نشهد حكومة وحدة وطنية أو إعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية أو ربما مقاومة سلمية أو حتى عسكرية".لم تظهر حتى اليوم أي دلالات على عودة الفلسطينيين إلى العنف في الضفة الغربية، إلا أننا نسمع البعض يتحدثون عن عصيان مدني. يخشى الرئيس محمود عباس أن يُفقد العنف حكومته أهليتها ويعزز موقف "حماس"، أما عن حكومة "الوحدة الوطنية" المقترحة، فقد أخبرني خليل الشقاقي، رئيس المركز الفلسطيني للسياسات والبحوث المسحية في رام الله، أن عباس يعتبر الصلح مع "حماس" أشبه بالعيش مع ذئب. وأضاف الشقاقي موضحاً: "ترى "فتح" و"حماس" إحداها في الأخرى الخطر الأكبر الذي يهددهما". ولكن إلى متى سينجح عباس وحكومته في تفادي غضب الشعب واستيائه المتناميين؟ هذه بالتحديد المشكلة التي شابت اقتراح توماس فريدمان الأخير، فقد اعتبر فريدمان أن السبيل الأفضل الذي يتيح للولايات المتحدة المضي قدماً بعملية السلام، متخطية حالة الجمود، يتمثل في أن "تخرج هي من الصورة" وترغم كلا الطرفين على التأمل في الكوارث المحتملة التي تنتظرهما. ولكن بالنسبة إلى إدارة نتنياهو، تبدو الكوارث المحتملة أبعد من أن يراها في أفقه السياسي، فالوضع الراهن مناسب تماماً في نظره، غير أن هذا الاحتمال بالتحديد يزيد الضغوط من أجل العودة إلى المقاومة داخل الأراضي الفلسطينية.لا يريد عباس أن تُعاد صياغة السياسات الفلسطينية، لأن هذه الخطوة قد تؤدي إلى خسارته السلطة، لذلك، سيواصل على الأرجح بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، وهو أمر دعمته واشنطن ولم تعارضه إسرائيل. لربما تستطيع إدارة أوباما الضغط على تل أبيب لتعزيز هذا المشروع بتحقيق تعاون أكبر في المسائل الأمنية، مثل خفض عدد نقاط التفتيش وتسهيل حركة الفلسطينيين. بيد أن عباس يود تخطي فشل عملية السلام بحصوله على اعتراف أحادي الطرف بالدولة الفلسطينية. وهذا ما فعلته البرازيل والأرجنتين أخيراً، مع أن الاتحاد الأوروبي أعلن أنه لن يقدِم على هذه الخطوة إلا حين يراها "مناسبة". قد تمنح هذه المناورة الطرف الفلسطيني بعض النفوذ، رغم أن الدولة التي يُطالب عباس بالاعتراف بها ستبقى افتراضية حتى يتفق الفلسطينيون والإسرائيليون على حدودها، لكن هذه الخطوة تهدف إلى "سلب الشرعية" مما يعتبره الفلسطينيون احتلالاً إسرائيلياً لأراضيهم. قد يكون فقدان الشرعية السلاح الأقوى بين أيدي الفلسطينيين اليوم، فمعه تستطيع قيادة الضفة الغربية اتهام الإسرائيليين بانتهاك القانون الدولي، إما من خلال حصارهم لغزة وإما من خلال مداهمتهم في شهر مايو الماضي الأسطول الذي سعى إلى كسر الحصار. والغاية المرجوة من هذه الاتهامات تبديل الرأي العام العالمي وزيادة الضغط على إسرائيل.يوضح ناثان براون، خبير متخصص في شؤون الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن ومنتقد بارز لعملية السلام، أن تحويل إسرائيل إلى دولة شبيهة بجنوب إفريقيا (إذا ترافق مع حملة سلمية محلية) قد يبدّل مسار الأحداث ويجعل الوضع الراهن أقل جاذبية في نظر الإسرائيليين.لا شك أن إسرائيل اعتادت التعايش مع "فقدان الشرعية" منذ زمن، وتبدو مستعدة لمواصلة ذلك، ولكن هل إدارة أوباما مستعدة لتستمر في تأدية دور المدافع الوحيد عن إسرائيل في وجه العالم بأسره؟ لم يتردد المسؤولون في الدفاع عن إسرائيل وتخلوا عن مطالبتهم بتجميد المستوطنات، رغم استيائهم المتنامي، وهكذا نجح نتنياهو في عرقلة الخطة الرئيسة، لكن الخطة البدلية، المحادثات المتوازية، ستتيح للإدارة عرض اقتراحاتها بشأن الحدود وغيرها من قضايا "الوضع النهائي". وقد يطرأ تغيير ما، مع أنه احتمال مستبعد، فاستعداد كلا الطرفين لتقديم التضحيات المؤلمة يتراجع، لا يتزايد.بات نتنياهو اليوم بارعاً جداً في توجيه واشنطن كما يحلو له من دون أن يعبر عن رفضه علانية، فما العمل إن تكرر هذا المشهد مع المحادثات المتوازية؟ هل إدارة أوباما مستعدة لاتخاذ خطوات تتمكن من خلالها الضغط حقاً على تل أبيب؟ الجواب هو بالتأكيد لا. فما من إشارات إلى أن كلينتون أو غيرها من السياسيين الأميركيين يميلون في هذا الاتجاه. وبما أن الكونغرس المنتخب حديثاً سيقدم لإسرائيل دعماً أكبر مقارنة بالكونغرس الحالي، فمن المستبعد أن يخاطر البيت الأبيض ويتحمل الكلفة السياسية التي قد تترتب على تضييقها الخناق على إسرائيل، لكن عناد هذه الأخيرة يؤكد أن "البداية الجديدة" في تعاملات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط، التي تحدث عنها أوباما في خطابه الشهير في القاهرة في شهر يونيو عام 2009، لن تبصر النور، ما سينعكس سلباً على موقف الولايات المتحدة في المنطقة. فهل هذا مقبول حقاً؟إن كان البيت الأبيض يخشى عواقب الجهود التي يبذلها الفلسطينيون لكسب النفوذ، إما من خلال العصيان المدني أو العنيف وإما من خلال تشبيه إسرائيل بجنوب إفريقيا، فعليه، إذن، إيجاد سبل لحل هذا المأزق، ولا شك أنه يملك وسائل ترهيب وترغيب تفوق ما يتوافر للفلسطينيين، فهل يجب أن تبدأ الإدارة بفرض شروط على المساعدة الأميركية التي تقدمها لإسرائيل، كما ذكر أخيراً صاحب إحدى المدونات؟ وهل ينبغي لها أن تفتح قنوات الحوار مع "حماس"، كما اقترح آخرون؟ أعليها أن تكف عن تقديم المساعدة الفورية لإسرائيل في كل مرة تُتهم فيها حليفتها هذه بانتهاك القانون الدولي؟ وماذا عن إعلان خريطة مقترحة للدولتين إما مباشرة وإما من خلال الأمم المتحدة؟ ستسارع حكومة نتنياهو و"حماس" إلى رفض هذا الاقتراح على الأرجح، لكنه قد يحرّك شعوب كلا الطرفين، ما يقوّي موقف عباس ويُضعف نتنياهو.إذا كانت إدارة أوباما تعتقد فعلاً أن حالة الجمود في الشرق الأوسط تشكل خطراً يهدد الأمن القومي الأميركي، فعلى أوباما أن يحشد دعم الرأي العام الأميركي لأي خطوة يقرر القيام بها. يجب أن يوضح أن تصرفه هذا لا يعني تفضيل المصالح الأميركية على مصالح إسرائيل، بل يهدف إلى صون أمن هاتين الدولتين لفترة طويلة. في خطاب القاهرة، نجح أوباما في تحريك آمال شعوب الشرق الأوسط، واليوم، عليه مواجهة مهمة تعادلها صعوبة وأهمية، مهمة مخاطبة الرأي العام الأميركي.