طوفان الرعب من الشرق: مسلمون أمام المغول 9 إعصار المغول يتقدّم وملوك المسلمين مشغولون بالحروب بينهم!!

نشر في 07-09-2010 | 00:00
آخر تحديث 07-09-2010 | 00:00
فشل السلطان جلال الدين في لمّ شمل المسلمين وجمعهم على الجهاد ضد المغول على رغم النصر الذي حققه عليهم، ولما علم أن جنكيز خان في الطريق إليه بجيش جرار ليثأر لهزيمة جيشه في غزنة لم يجد أمامه من سبيل سوى الهروب، فاصطحب ما تبقى معه من جند وخرج قاصداً بلاد الهند لينضمّ بقواته إلى سلطان دلهي، لكن عندما وصل إلى نهر السند فوجئ بأن المكان شديد العمق وسريع التيار ولم يعثر على سفن أو قوارب تنقله إلى الضفة الأخرى فقرر الانتظار إلى حين وصول السفن.

علم الخاقان بوجهة جلال الدين، فجدّ في مطاردته على رأس جيش من 60 ألف مقاتل ما عدا الحرس الإمبراطوري الذين بلغ عدده 10 آلاف فارس.

لاحت جحافل المغول لجلال الدين ورجاله عن بعد، وتلفت السلطان حوله فلم يجد سوى البحر خلفه والعدو أمامه وعلى يمينه جبل شاهق الارتفاع وهو بعيد عن بلاده، لذا كان سبيله الوحيد المقاومة، طالما أنه هالك إذا استسلم، ولقاء ربه شهيداً في سبيله فقرر خوض تلك الحرب الأقرب إلى المغامرة.

مع ظهور الخيوط الأولى لضوء الفجر، خرج المغول بتشكيلهم القتالي لمواجهة الجيش الإسلامي المحدود العدد والعدة، وحاول الجيش المغولي الالتفاف من ناحية الميسرة لكن حنكة جلال الدين القتالية أحبطت محاولته، وحمل السلطان بنفسه على رأس قوة على قلب الجيش المغولي، فمزقه وفرّق شمله، ثم اتجه نحو لواء القيادة بحثاً عن الخاقان لكن هذا الأخير كان ولى هارباً بعدما قتل جواده، فامتطى غيره وانتقل إلى مكان آخر.

كانت لحظة انتصار ذات مذاق خاص لأن سلطان المسلمين كاد يفتك بخاقان المغول الذي أرهب العالم، لكن هذا الأخير فرّ في الوقت المناسب وأخذ المسلمون يكبّرون وارتفعت معنوياتهم.

اهتز قلب المغولي العجوز من هذا الموقف ونظر إلى ميمنة جيش جلال الدين وكان الجبل يحميها، فأمر أحد قادته بأن يتقدم مع جنوده برفقة أدلاء الطرق من فوق الجبل ويهبط سريعاً ليلتفّ حول جيش المسلمين، فمضى ذلك القائد برفقة الأدلاء عبر الممرات الجبلية الرأسية، صاعدين مسالك ودروباً صعبة العبور، فسقط جنود كثر أثناء مسيرتهم الشاقة هذه، وقبل حلول الليل استولوا على قمة الجبل وفي الصباح انقضوا على جيش المسلمين من أعلى الجبل وطوقوه.

بعد ذلك قاد جنكيز خان بنفسه فرقة الفرسان الثقيلة المكونة من 10 آلاف فارس، وتقدّم نحو ميسرة جيش المسلمين وفتك بهم ثم حرّك قواته نحو قلب الجيش حيث يوجد جلال الدين، وبذا أصبح الجيش الإسلامي في موقف الميئوس منه وحلّت النهاية سريعاً.

أمل أخير

نفذ جلال الدين هجوماً أخيراً لا أمل فيه ضد فرسان الحرس الإمبراطوري، ولما تبيّن له عقم مغامرته حاول الانسحاب مع رجاله إلى النهر لكن عدوه تعقبه وشتت كتائبه، ولم يكد جلال الدين يصل إلى ضفة النهر ذات الميل الحاد حتى وجد نفسه وحيداً مع 700 فارس فحسب من أتباعه فأدرك أن نهايته اقتربت، عندها تخلص من دروعه وأبقى سيفه وقوسه وجعبة سهامه وكان يمتطي الجواد الأبيض الذي غنمه قادته في معركة غزنة وتنازع عليه قائدان وانسحب أحدهما بسبب هذا الجواد الأصيل.

قفز علاء الدين إلى النهر والراية بيده من ارتفاع يزيد على 30 قدماً، بعدها ألقى رجاله بأنفسهم في النهر، وكانوا سباحين مهرة فوصلوا جميعاً إلى الشاطىء الآخر سالمين، لكنهم كانوا حفاة وشبه عراة وفي حالة من الإعياء والإجهاد كما لو كانوا خارجين من القبور.

أما جنكيز خان، فأصدر أمراً صارماً بأن يأتوا إليه بجلال الدين حياً، وانقضّ المغول على البقية الباقية من الخوارزميين وانتحى الخاقان يراقب ذلك الفارس الشجاع وهو يسبح في النهر بجواده وراح يتأمله بإعجاب ممزوج بالحقد، ثم تمتم قائلا: «سعيد من يلد هذا الابن»، ثم توجه إلى أبنائه قائلا: «كان يجب أن يكون الأب (السلطان علاء الدين) مثل ابنه، فها هو ذا هرب من ماءين مغرقين ونار ووصل الساحل سالماً، فسوف تتولد عنه أعمال كثيرة وفتن لا تعدّ ومتاعب لا حصر لها، فكيف يستطيع الرجل أن يغفل عنه؟»

قتل عدد كبير من جنود جلال الدين وغرقت فرق المغول التي حاولت عبور النهر نظراً إلى عمقه وسرعة التيار فيه وعدم خبرة الجنود بفنون السباحة، بعد ذلك أسر المغول ابن جلال الدين وكان صبياً في السابعة من عمره وقتله جنكيز خان بنفسه.

بينما جلال الدين في طريقه إلى ضفة النهر الأخرى، شاهد أمه وزوجاته يتضرعن إليه ليقتلهن حتى لا يقعن في أسر المغول، فأمر بعض خاصته الذين كانوا على الشاطىء بأن يقتلوهن، (لكن عطاء ملك الجويني في مؤلفه الذي صدر بالفارسية باسم «جهان كشاي» ومعناها «غازي العالم» قال: كان له ولدان قتلهما جنكيز خان بنفسه، ووزع زوجاته وبناته وجواريه على الأمراء والقادة وقتل كل الأسرى).

اجتياح بلاد المسلمين

بينما كان جنكيز خان يتصدى بنفسه لجلال الدين، كانت فرقه المتوحشة تجول في أقاليم الشمال، فحاصر الجنود مدينة مراغة، قاعدة إقليم أذربيجان، من كل ناحية ونصبوا المجانيق حولها، لكن أهلها أصروا على المقاومة، فدفع المغول الأسرى المسلمين أمامهم ليقاتلوا إخوانهم المسلمين في مراغة، ومن كان يتردد من الأسرى عن حمل السلاح يفتكون به بطريقة بشعة، هكذا كان المسلمون يتقاتلون مع بعضهم حتى سقط منهم الآلاف وسقطت المدينة في أيدي المغول، فدخلوها في صفر سنة 618 هـ ، وأعملوا السيف في أهلها حتى قضوا عليهم جميعاً ونهبوا ثرواتها وسبوا نساءها وما عجزوا عن حمله أضرموا فيه النيران.

بعد ذلك اجتاح المغول همذان (تقع حالياً في جمهورية إيران)، وأخضعوها بعد معركة طاحنة دارت بين الطرفين، ثم اتجهوا إلى مدينة أردبيل، جنوب غرب بحر قزوين (من مدن إيران حالياً)، فقتلوا سكانها وأحرقوها عن آخرها ومنها إلى مدينة تبريز، وهي الوحيدة التي لم يتعرضوا لها بأفعالهم الشيطانية، فقبلوا الهدايا والأموال وتركوها، ثم اتجهوا نحو بيلقان داخل أرمينيا الكبرى (في إيران حالياً) وأعملوا في أهلها السيف، فلم يبقوا على صغير أو كبير أو امرأة أو طفل، وكانوا يشقون بطون الحوامل ويقتلون الأجنة في تلذّذ غريب وعجيب ويرتكبون الفواحش مع النساء ثم يقضون عليهن في اللحظة نفسها، بعد ذلك أحرقوا المدينة كعادتهم.

تابع المغول زحفهم الدموي الرهيب فاجتاحوا داغستان والشيشان، غرب بحر قزوين، وقتلوا سكانهما ثم أحرقوا العمائر والمساجد وسووها بالأرض ودخلوا الحدود الشمالية للعراق، لكنهم آثروا الانسحاب ظناً منهم أن جيش الخلافة يحجب الأفق، فيما في الحقيقة لم يكن ثمة جيش بمعنى الكلمة لدولة الخلافة التي غرق المسؤولون عنها في اللهو والملذات كما سنعرض لاحقاً.

حتى هذا الوقت، تمكّن المغول من الممالك والبلدان الواقعة بين الصين والجزيرة العربية، وتشمل: كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان، تركمانستان، أفغانستان، باكستان، أذربيجان، أرمينيا، جورجيا، شرق إيران، جنوب غرب روسيا.

بعد فرار جلال الدين، قرر جنكيز خان الانتقام من الأقاليم التي شارك أهلها في جيش جلال الدين، على وجه الخصوص غزنة، المدينة التي شهدت هزيمة جيشه وقتل فيها الآلاف من جنوده بخلاف من تم أسرهم وتعذيبهم.

زحف جنكيز خان بقواته إلى غزنة وشهوة الانتقام تتأجج في داخلهم، وبعدما دخلها من دون مقاومة تذكر، أمر بخروج سكان المدينة إلى خارجها بحجة إحصائهم، ثم أمر بقتلهم جميعاً ولم يترك روحاً واحدة فيها، ثم عاد إلى هراة ليقضي على البقية الباقية منها، وجمع الأسرى أمامه وكان بينهم إمام المدينة، وخطب فيهم فقال: «إن محمد خوارزم شاه (السلطان علاء الدين) لم يكن ملكاً، بل كان لصاً لأنه قتل التجار والسفراء في أترار، وليس هذا من شيم الملوك»، ثم التفت إلى إمام المدينة وقال له: «هل سيبقى اسمي خالداً بعد موتي؟» فأجابه الإمام: «يبقى الاسم ما بقي سكان».

وما كاد جيش الخاقان يتخطى حدود المدينة، حتى أصدر أمره التقليدي بقتل الأسرى، مع الإبقاء على نساء الملوك والأمراء لينتقلوا كإماء لهم في الجوبي.

نحو بلاد العرب

بعدما عبر جلال الدين ومن معه نهر السند، وجدوا أنفسهم بلا مأوى يلجأون إليه، فأغاروا على البلاد الغنية ونهبوا ما فيها من طعام ولباس وسلاح، وراح جلال الدين يتنقل بين مدن الهند حتى بلغ دلهي، فتوسل إليه حاكمها ليتخذ مأوى غير المدينة خوفاً من بطش المغول وأغدق عليه الهدايا، ثم نصحه بالتوجه إلى مدينة مولتان الواقعة على نهر السند، فأخذ جلال الدين بالنصيحة.

غادر جلال الدين الهند وقرر أن تكون وجهته نحو أقصى الغرب، تجاه بحر فارس، بعيداً عن المناطق القريبة من سيطرة المغول واستقرّ في كرمان، وكان حاكم الإقليم يدعى براق الحاجب فأعلن خضوعه لجلال الدين وعرض عليه إحدى بناته ليتزوجها، فقبل وتكرّر الأمر نفسه مع أتابك إقليم فارس، ثم إقليم يزد، ثم خضعت له مدينة أصفهان عاصمة إقليم الجبال في غرب فارس (إيران)، وكان أخوه غياث الدين يحكم تلك المنطقة من قبل والدهما السلطان علاء الدين وتوطد حكمه فيها بعد انسحاب المغول ولما عاد جلال الدين انضوى تحت لوائه.

أصبح غرب فارس بأكمله تحت سيطرة جلال الدين ولاصقت مملكته الجديدة حدود دولة الخلافة الإسلامية، وكانت آنذاك في أشد مراحل ضعفها، على رغم أن المغول كانوا يسيطرون على أقاليم شرق فارس، لكن جلال الدين وجه جيشه نحو بلاد المسلمين، فحاصر البصرة لمدة شهرين ثم تركها واتجه شمالا نحو بغداد، ومرّ بالقرب منها لكنه لم يدخلها.

خاف الناصر منه بسبب العداوة المستحكمة بينه وبين الخوارزميين، فأمر بتحصين أسوار بغداد وتقوية حصونها، ولم يكتف بذلك بل أرسل إلى المغول يحضهم على القضاء عليه، على رغم علمه بكل ما فعله هؤلاء ا بممالك الإسلام وتنبيه العقلاء في حاشيته بأن بغداد ستكون هدف المغول التالي.

استمر جلال الدين في زحفه، فأخضع المناطق المحيطة ببغداد لسلطانه بعدما اجتاحها بجيشه ونهبها، ثم اتجه إلى إقليم أربيل في الشمال ودخل إقليم أذربيجان واستولى على عاصمته تبريز وما حولها، فقوي جيشه وكثر عدد جنوده ثم فتح كنجة، وكان يأمر جيشه بنهب البلدان التي يدخلها مع أنها من بلاد المسلمين، مقلدا أفعال المغول الوحشية، بعد ذلك أخضع مملكة الكرج النصرانية لسلطانه وأنزل فيها هزيمة فادحة، بذلك وصلت حدود مملكة جلال الدين حتى شمال غرب بحر قزوين.

ساعدت الأقدار جلال الدين، إذ مات الخليفة الناصر لدين الله، عدو الخوارزميين، وخلفه ابنه الظاهر بأمر الله الذي ُتوفي بعد تسعة أشهر من توليه الحكم في رجب من عام 623 هـ (يوليو 1226م)، وآلت الخلافة الإسلامية في بغداد إلى المستنصر بالله، الذي رأى عدم الدخول في مواجهات عسكرية مع الخوارزميين وواكب ذلك موت جنكيز خان، وانشغال المغول باختيار خليفته.

ظل جلال الدين يخوض حروباً مع الممالك الإسلامية، وكان من أبشع ما فعل حصاره لمدينة أخلاط (شرق تركيا الآن)، فقتل أهلها ونهب جنوده خيرات البلد وسبوا النساء، لكن حاميتها التركية أوقعت به هزيمة فادحة في النهاية...

وصية جنكيز خان

على الجانب الآخر، بعدما انتصر جنكيز خان على جلال الدين، قضى عام 1222م متجولا بين مدن ومراعي وغابات خراسان طلباً للراحة والاستجمام والاستمتاع بممارسة الصيد، وفي ربيع 1223م، شدّ الرحال عائداً إلى الجوبي، ودعا إلى اجتماع كبير لمجلس القوريلتاي.

راح الخاقان يقصّ أخبار المعارك التي خاضتها جيوشه خلال السنوات الخمس الماضية على القادة المجتمعين، وقال: «أحرزت السيادة المغولية التامة على جميع الممالك بفضل شريعة الياسا فعليكم احترامها»، ثم نصح أبناءه الثلاثة الحاضرين المؤتمر قائلا: «لا تدعوا المنازعات تفرّق بينكم وكونوا على قلب رجل واحد».

أمضى الخاقان في موطنه أشهراً، ينعم بالراحة، بعدما أخضع معظم العالم القديم لإمرته ما عدا بلاد سونغ وقبائل هيا، فقرر إرسال سابوتاي لغزو سونغ وتولى هو بنفسه إخضاع قبائل هيا.

في فصل الشتاء، زحف الخاقان بنفسه عابراً المستنقعات المتجمدة ليلقى عدوه القديم، وكان زعيم هيا قد استعان بجنود من جيوش الخطا والصين الغربية والأتراك، علاوة على قوات هيا الأصلية.

دارت معركة رهيبة بين الجيش المغولي وجيوش هيا، راح ضحيتها قرابة 300 ألف جندي وفرّ من تبقى، ثم قتل جنكيز خان الرجال القادرين على حمل السلاح، أما زعيم هيا فلاذ بالفرار إلى قلعة جبلية تحميها أخاديد تغمرها طبقات الجليد، وأرسل يطلب الصفح من جنكيز خان، فتظاهر جنكيز خان بقبول الصلح، وقال لرسله: «أخبروا سيدكم أنني لا أريد ذكر الماضي، وسأحتفظ به صديقاً».

بعد ذلك زحف جنكيز خان بجيشه إلى سونغ ليلحق بسابوتاي، كون شعب سونغ يحتاج إلى قوات أكثر لإخضاعه، فقاد جيشه حتى النهر الأصفر وهناك بلغه نبأ موت ابنه جوجي في براري روسيا، وكان أحب أبنائه إليه، فانفرد بنفسه في خيمته وكتم حزنه الشديد على ولده البكر، وأمضى بعض الوقت وحيداً حتى تغلب على صدمته هذه.

أخيرا خرج الخاقان من عزلته وتظاهر أمام الجميع بعدم حزنه على ابنه، ومضى مع جيوشه لاستكمال سيطرته، حتى دخل إحدى الغابات الكثيفة، فاستدعى ابنه تولوي الذي دخل إلى خيمة إمبراطور العالم، فوجده راقداً على بساط قرب الموقد، متدثراً بأردية من اللباد والفراء.

قال جنكيز خان لابنه تولوي: «إني لأرى منيتي قد حانت، وسأغادركم عما قريب»، ثم استدعى كبار قادة جيشه وضباطه، الذين حضروا على وجه السرعة، وركعوا أمامه في خشوع، فأمرهم باستكمال الحرب مع سونغ وقتل زعيم هيا الذي أرسل يدعوه إلى وليمة، وأوصى بأن يتولى تولوي حكم الأقاليم الشرقية وجفتاي حكم الأقاليم الغربية، بينما يتولى أوكتاي الحكم الشامل كخاقان لقراقورم.

موت الغازي

جنكيز خان هو البطل الحقيقي للقصة المأثورة، التي تروى كثيراً لتأكيد أن الاتحاد قوة والتفريق ضعف، وعندما وقف أولاده في حضرته، طلب جعبة سهام وأخذ سهماً أعطاه لواحد منهم وطلب منه أن يكسره فكسره، ثم أخذ حزمة وأعطاها لكل منهم فلم يقدر أحد على كسرها، فقال لهم: «هكذا تكونون أقوياء ما دمتم متحدين» ثم لفظ أنفاسه الأخيرة يوم السبت 15 رمضان عام 624هـ (28 أغسطس عام 1227م)، عن عمر يناهز 72 عاما.

مات الغازي الأكبر في التاريخ بعيداً عن بلاده، في بلاد سونغ، لكي يخفي المغول عن أعدائهم نبأ الفجيعة، قتل فرسانهم كل مخلوق يصادفهم في الطريق إلى الجوبي وهناك بكاه سكانها، وظل جثمانه يتنقل بين القصور الملكية لتلقي عليه زوجاته النظرة الأخيرة، وتقاطر الأمراء والأميرات وزعماء القبائل من كل صوب وحدب لوداع الزعيم الذي ملك نصف الأرض.

كان من عادة المغول دفن خاناتهم في سفح جبل شاهق بين سلسلة جبال ألتاي، مع أن الرحلة إليه شاقة وطويلة وقد تستغرق أشهراً. سار موكب الجنازة يحمل رفات الخاقان الأعظم وكان الحراس يقتلون كل من يصادفهم في الطريق، اعتقاداً منهم بأن كل من يقتلونه يصير خادماً للميت في الحياة الأخرى، لذا لم يقتصر القتل على البشر فحسب، بل كانوا يقتلون أجود الخيول، عسى أن يستخدمها الراحل في الحياة الأخرى.

بعد وفاة جنكيز خان قائد الخروج السابع، خلدت جموع يأجوج ومأجوج إلى الراحة لفترة استمرت عامين كاملين، ثم اجتمع الأمراء والقادة واستدعوا قادتهم المنتشرين في الأرض إلى قراقورم استعداداً للمرحلة التالية.

سقوط هيبة جلال الدين

اسفرت الهزيمة التي مني بها جيش جلال الدين في أخلاط عن سقوط آلاف القتلى من جنوده، فضلا عن وقوع آلاف أسرى، ما انعكس سلباً على نظامه، فسقطت هيبته بين الأقاليم المجاورة التي كانت تحسب حسابات لجيشه واختل التوازن العسكري من جديد لغير صالحه.

أصبح الباب مفتوحا أمام سلاجقة الروم لتحقيق أطماعهم في المدن الواقعة شرق أخلاط والخاضعة لنفوذ جلال الدين، وثارت مملكة الكرج ضده وتحررت من حكم الخوارزميين وأعلنت تبريز وكنجة العصيان، وامتنعت طائفة الإسماعيلية عن دفع الإتاوات التي فرضها عليها السلطان جلال الدين.

وسط هذه الخسائر والنكبات، انغمس السلطان في الملذات. يروى ابن الأثر في الجزء العاشر من «الكامل في التاريخ» (ص 496 و497):

«كان جلال الدين سيئ السيرة، قبيح التدبير لملكه، لم يترك أحداً من الملوك المجاورين له إلا وعاداه ونازعه الملك وأساء مجاورته... وكان السبب غريباً، أظهر من قلة عقل جلال الدين ما لم يسمع بمثله، ذلك أنه كان لجلال الدين خادم خصي وكان يهواه، اسمه قلج، فاتفق أن الخادم مات، فأظهر من الهلع والجزع عليه ما لم يسمع بمثله، ولا لمجنون ليلى، وأمر الجند والوزراء أن يمشوا في جنازته رجالة (مترجلين)، وكان موته بموضع بينه وبين تبريز عدة فراسخ، فمشى الناس رجالة، ومشى بعض الطريق راجلا، فألزمه أمراؤه ووزيره بالركوب، فلما وصل إلى تبريز أرسل إلى أهل البلد، فأمرهم بالخروج من البلد للقاء تابوت الخادم، ففعلوا، فأنكر عليهم حيث لم يبعدوا، ولم يظهروا من الحزن والبكاء أكثر مما فعلوا، وأراد معاقبتهم على ذلك، فشفع فيهم أمراؤه فتركهم».

يتابع ابن كثير: «ثم لم يدفن ذلك الخصي، إنما استصحبه جلال الدين معه حيث سار، وهو يلطم ويبكي، فامتنع عن الأكل والشرب، وكان إذا قدم له طعام يقول: احملوا من هذا إلى قلج، ولا يتجاسر أحد أن يقول إنه مات، قيل له مرة إنه مات فقتل القائل له ذلك، إنما كانوا يحملون إليه الطعام ويعودون فيقولون: إنه يقبل الأرض ويقول إنني الآن أصلح مما كنت، فلحق أمراؤه من الغيظ والأنفة من هذه الحالة ما حملهم على مفارقة طاعته والانحياز عنه مع وزيره، فبقي حائراً لا يدري ما يصنع، لا سيما لما خرج التتر، حينئذ دفن الغلام الخصي وراسل الوزير واستماله وخدعه إلى أن حضر عنده، فلما وصل إليه بقي أياماً وقتله جلال الدين، وهذه نادرة غريبة لم يسمع بمثلها».

back to top