الأنشودة الروسية 
2-2

نشر في 20-10-2010
آخر تحديث 20-10-2010 | 00:01
 زاهر الغافري في مكاتبات تيشخوف - غوركي تقفز المعاناة الشخصية، عند الكاتبين سواء تعلق الأمر بالعائلة أم العمل أم سورات الغضب أم مقدار الحزن الهائل والاكتئاب عند كليهما، أم التذمر من جشع الناشرين والنميمة الثقافية، وهي كلها مشاعر إنسانية، معجونة باللحم والدم. كما فيها أيضاً تلك النقاشات الثقافية، ذات الطابع الجدي في الكتابة والمسرح والتشكيل ومتعة تأمل الطبيعة وتبادل الكتب والمؤلفات. تيشخوف هو الذي سيعرّف غوركي بكتابات المسرحي السويدي أوجست سترند برغ وأعمال مواطنه هيدلبيرغ. تيشخوف هو الذي سيدفع غوركي أيضاً، ولكن باستعداد روحي ومسؤولية، من غوركي، أقول هو الذي سيدفعه إلى كتابة الدراما، بعد نقاشات هادئة ومتأنية حتى أنجز كتابة مسرحيته «الطبقات السفلى» ومثلت عبر العالم. تولستوي العجوز، وعرّاب الفلاحين، القابع في ضيعته، سيمتدح غوركي أمام تيشخوف وسيعمدان إلى زيارته، بين حين وآخر، وكان يتابع أعمالهما. تيشخوف هو الذي سيقترح أسماء الممثلين والمخرجين لعمله، بمَن فيهم دانتشنكو وستانسلافسكي، ومايرهولد الأكثر شباباً آنذاك، بالإضافة إلى كنيبر الممثلة الروسية التي ستصبح في ما بعد زوجة تيشخوف ورفيقة حياته. وكان مكسيم غوركي بتوصية من تيشخوف كلما زار موسكو، نزل عند عائلة آل كنيبر هذه، مستمتعاً بالنقاشات الفنية وبأقداح الفودكا الروسية الشهيرة.

في الرسائل نبرة حزينة أيضاً، نبرة السأم، والضجر، والإحساس باللاجدوى: «إني كالعادة أحيا حياة تافهة، وأحس بأني فاقد لتوازني، تبعث على اليأس... إني أرغب رغبة عظيمة في حياة أخرى مهما كان نوعها، حياة أقل عبوساً وبطئاً» يكتب تيشخوف إلى غوركي: «إني بليد أحمق كالقاطرة. لقد أسلمت إلى نفسي منذ العاشرة من عمري ولم تتح لي الوسيلة كي أتعلم، ولم أفعل شيئاً آخر سوى أن ألتهم الحياة وأعمل» يكتب غوركي إلى تيشخوف. وفي رسالة أخرى يكتب غوركي أيضاً «غسل الروح بدموع الصمت، ذلك لأن الكلام ضرب من العبث، فالمرء يتكلم كي لا يقول شيئاً، ولن يتفوه المرء بما تبكي منه الروح».

كانت هذه الرسائل تُتبادل بين الكاتبين من مدن عدة، نيجيني، نوفوجورد التي عاش فيها غوركي، فأصبحت تحمل اسمه بعد وفاته، موسكو، سان بطرسبيرغ ويالطا التي اتخذها تيشخوف مكاناً للراحة والعلاج بسبب طبيعة طقسها الملائم لمرضه وبنى فيها مسكنه، هناك أمام البحر الأسود. يقال إن الطبيعة الروسية يختلط فيها، المزاج الفُكاهي والداء السوداء، على حد سواء. حتى أن بوشكين كان يطلق على جوجول وصف «السوداوي المرح» وهو وصف ينطبق على كتّاب روس آخرين بمن فيم غوركي وتيشخوف. في هذه الرسائل، رغم نبرة الحزن أو بسببه، تظهر أطياف من الفكاهة الساخرة. يكتب غوركي «تسليت في هذه الأيام الأخيرة بالذهاب لرؤية امرأة جميلة. إنها طبيبة أسنان وقد اقتلعت لي أسناني فقبّلت يديها. أن المرء بحاجة إلى لباقة رائعة كي يقبّل يدي طبيبة أسنان، حاول ذلك! انه يكلفك غالياً: إنها تقتلع لك أسنانك وتجعلك تدفع ثمن القُبلة. لقد تركت عندها ثلاثة أسنان، وهذا كل ما بوسعي أن أفعله».

عندما نفي غوركي إلى مقاطعة «ارزماس» التي لا يسكنها سوى 700 راهب. كتب غوركي إلى تيشخوف: «هنا يسود الهدوء والطمأنينة والهواء الرطب، وتكثر البساتين ذات البلابل التي تشدو، والجواسيس الذين يختبئون تحت الأغصان. في جميع البساتين توجد بلابل أما الجواسيس فإنهم موجودون على ما يبدو في بستاني أنا فقط». وعندما أصابه القرف من هذه الإقامة الإجبارية في مقاطعة الرهبان هذه كتب «إذا لم يسمحوا لي في الخريف بمغادرة هذا المكان فسأعشق طاهية مفتش الضرائب الذي يقيم في مسكن يقابلنا، وسأجرها إلى أعلى قبة جرس في المدينة، وسألقي بنفسي معها من علٍ. ستكون هذه هي النهاية المفجعة لـ»م. غوركي» أو يكتب مثلاً، توجد هنا سيدة تتنزه مرتدية قبعة بولونية وممسكة بيدها سوطاً، وتجر وراءها كلباً، وعندما تقابل المشبوه يعلو وجهها الازدراء وتشيح برأسها. حسناً، سأقبض على هذه السيدة من قدمها اليسرى وسألقيها في مستنقع «سوروكا» العفن، ثم سأجعلها تبتلع مجلداً عاماً من مجلة «أنباء موسكو» عدا البرقيات الرسمية».

back to top