المجددون والتجديد في الإسلام 4 محمد جابر الأنصاري...الاعتدال هو الحلّ

نشر في 27-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 27-08-2010 | 00:00
يرى المفكّر البحريني محمد جابر الأنصاري أن العرب والمسلمين قد جربوا النهوض ومواجهة تحديات هذا العصر المتغير بالتغريب الخالص، فلم يفلحوا، واكتشفت نخبهم الداعية إلى مثل هذا التغريب أن «البذرة» لا تنمو في التربة المحلية، وإنما تذهب عبثاً. كذلك، جربت قطاعات أخرى الخلاص باصطناع تفسير متشدّد ومتطرّف للإسلام ليس من طبيعته وسماحته فانتهت إلى ما انتهت إليه مما نراه اليوم بأمّ العين، من إحراق مدارس البنات، إلى تفجير المعالم الأثرية، التي بقيت طوال تاريخ الإسلام في البلاد الإسلامية ولم تمسّ بسوء إلا في أيامنا هذه.

بناء على هذه المقدّمة تكون النتيحة التي يخلص الأنصاري إليها هي: «لم يبقَ أمام العرب والمسلمين إلا النهوض بإسلام تجديدي متحرر متسامح ومعتدل، لأن إخفاقهم في ذلك يعني خسارة المصير والمستقبل حيث لم تبق أمامهم أية «خيارات» أخرى... إسلام يتفهم طبيعة العصر ويمكّن المسلمين من مواجهته والتعايش معه، لأنه في الواقع فإن الغالبية الصامتة في المجتمعات العربية والإسلامية لا تعرف إلا هذا الإسلام المتسامح المعتدل الذي توارثته عبر العصور، لكنها تفتقد القدرة على التعبئة والاحتشاد لتحويل إيمانها إلى تيار فاعل، بل العكس، يجرها المتشددون جراً إلى حيث يريدون. غير أن المراهنة يجب أن تكون على هذه الغالبية الصامتة بإسلامها المتسامح والنظر في أسباب افتقادها للقدرة على التأثير في مجريات الأمور، فما لم يتم ذلك فإن مستقبل المجتمعات العربية والإسلامية رهن بما يدفعها إليه المتشددون تطرفاً وانتحاراً. ومثار الغرابة في الأمر، أن المتشددين والمتطرفين هم الذين يكسبون الجولات الانتخابية بأصواتهم الجهورية عبر صناديق الاقتراع، ونعرف في عالمنا العربي والإسلامي مفكرين وكتاباً يحترمون كلمتهم، ولكن يغطي عليهم من يقلّون عنهم علماً ورصانة».

ينطلق المفكّر البحريني في مشروعه من أن الثقافة العربية الحديثة هي ثقافة أيديولوجيا أكثر مما هي ثقافة معرفة وحضارة، باعتبار أن المعرفة، معرفة الذات والآخر والواقع بمعناه الأعمق والأشمل، هي الشرط الأساسي لتحقيق التقدّم الحضاري، ويرى أن المعرفة السياسية لدى العرب «تعاني من تضخّم في جانبها الأيديولوجي والمثالي والطوباوي، ومن ضمور وفقر دم بالمقابل في جانبها الواقعي والعملي، والتحليل النقدي. ومن هذا الاختلال الأساسي في بنيتها العامة يتولد قسط لا يستهان به من الخلل والقصور في السلوك السياسي العربي الناجم عن ذلك الوعي المختل بحقيقة السياسة»، حيث إن الأيديولوجيات العربية على اختلافها، وطنية وقومية ودينية، لا تزال تفتقد غالباً إلى استراتيجيات وبرامج العمل السياسي الزمني المحدد. فهي تعتمد على التفكير بالتمنيات، وعلى اعتماد الأهداف الكبرى من دون بحث عن وسائل ناجعة لتحقيقها على أرض الواقع.

ولد الأنصاري في البحرين عام 1939، وتعلّم فيها حتى إنهائه دراسته الثانوية، بعدها انتقل الى الجامعة الأميركية في بيروت ونال منها: بكالوريوس آداب عام 1963 وماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966 ودكتوراه في الفلسفة الإسلامية الحديثة والمعاصرة عام1979، بالإضافة الى ذلك تابع تعليمه وحضوره للدورات الدراسية في عدد من الجامعات المرموقة في العالم كجامعة كمبردج. وفي عام 1982 توجه إلى فرنسا لدراسة الثقافة الفرنسية في جامعة السوربون بباريس.

تولّى الأنصاري رئاسة الإعلام وكان عضو مجلس الدولة في البحرين بين عامي 1969 و 1971، وهو أحد مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب البحرينية وأول رئيس لها سنة 1969، وقد حاز على جائزة الدولة التقديرية في البحرين، وجائزة سلطان العويس في الدراسات القومية والمستقبلية وجائزة منيف الرزاز للدراسات والفكر.

من أهم كتب الأنصاري التي مسّت قضية التجديد الإسلامي، «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، 1930-1970»، «العالم والعرب سنة 2000»، «التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق»، «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، «رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر»، «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام»، و{لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع؟».

ويعزو الأنصاري ذلك، بطريقة غير مباشرة، إلى وجود خلل في بنية العقل العربي، حيث «الفجوة القاتلة بين الأهداف والغايات الكبرى المعلنة في الحياة العربية كالوحدة والحداثة ومواجهة الإمبريالية والصهيونية والجهاد وقيادة العالم وبين السلوك اليومي الملموس للجماهير العربية والنخب العربية في حياتها الواقعية... إذ إنه بعيد كل البعد عن إمكانية التقدم نحو تلك الأهداف بأي شكل، في ظل المستوى المتدني لذلك السلوك نظاماً وإنتاجاً وعملاً واحتراماً للوقت وللواجبات اليومية الضرورية ولقيم المجتمع المدني في مختلف المجالات». علاوة على ذلك فالعقل العربي معتلّ، في نظر الأنصاري، بالميل إلى إغفال، بل إنكار الحقائق والوقائع التي لا توافق تصوراته ورغائبه، ويكابر في هذا الشأن حتى لو أدى ذلك إلى حدوث نكبات، والميل إلى العموميات والمطلقات، من دون التوقّف أمام الجزئيات والتفاصيل الدقيقة لأية فكرة أو قضية.

حالة مزمنة

لكن هذا التصوّر العام، الذي يمثل الفضاء الفكري الذي يعمل من خلاله الأنصاري، لا يشكّل الجزء الجوهري في رؤيته، إنما ما يؤدي هذا الدور هو الجانب الذي يركّز فيه على «السياسي» في الثقافة العربية، وذلك من خلال محاولته إعادة فهم الواقع العربي عبر تشريح تكوين العرب السياسي، ورصد أسباب تأزّمهم السياسي، والحالة المزمنة التي وصلوا إليها في هذا الشأن.

يبني الأنصاري رؤيته على اقتناع بأن «الأزمات السياسية المتلاحقة التي يعاني منها العرب ليست وليدة الحاضر الراهن وحده، وليست نتاج لحظاتها الآنية المنعزلة، وإنما هي أعراض لتراكم واقع موضوعي طويل الأمد، تداخلت فيه عوامل المكان والزمان والتكوين الجمعي، أي بكلمة أخرى، عوامل الجغرافيا والتاريخ والتركيبة المجتمعية العامة المتوارثة، والممتدة إلى عمق الحاضر المعاش في مختلف مظاهره وأعراضه التي يعانيها عرب اليوم».

يعتبر الأنصاري أن «السياسة هي كعب أخيل في الجسم العربي وفي بنيان الحضارة العربية - الإسلامية، الغنية بعطائها الروحي والعلمي والإنساني، في ما عدا عطاء السياسة واختياراتها ومحنها، وفي ما عدا الشأن السياسي والإنجاز السياسي الذي يبدو أضعف جوانبها على الإطلاق»، ويستخلص، بعد استعراض بعض خطى من مسيرة الأمة الإسلامية السياسية، أن مفهوم العمل السياسي تجمّد لدى العرب في مستوى الحماسة الوطنية والنضالية والتمرد والرفض، في استمرار لحالة الاستلاب والغربة، والتوزع بين خيارين فقط، هما العصيان والخضوع، وفي المقابل نادراً ما نجد الطابع العملي في السياسات العربية، بوصفه ممارسة يومية مستمرة وتعاملاً متبادلاً يقوم على الأخذ والرد والتوافق في إطار الممكن. ومن ثم نجد هناك أزمة سياسية تطاول المجموع العربي برمته، رسمياً وشعبياً، على مستوى الدولة والمجتمع المدني معاً، سواء من حيث الأداء أو من حيث الوعي السياسي. وهذه الأزمة، لا تعني غياب الكفاءات السياسية الفردية العربية بل العطب هو في العمل الجماعي. ونظرا الى إهمال الاتجاهات السياسية والأيديولوجية العربية كلّها طبيعة التركيب الاجتماعي العربي، الذي لن ينجح مشروع نهضوي إلا بعد الإلمام بتفاصيله وأخذ أوضاعه كافة في الحسبان، تظهر الأزمة السياسية بشتى جوانبها.

لكن كيف يمكن الخروج من نفق هذه الثقافة السياسية السلبية وذلك الوضع المتردي؟ في نظر الأنصاري فإن طوق النجاة يتمثل في «تجديد الإسلام»، فها هو يقول: «في العصر الحديث جرّب العرب حلولاً من خارج الإسلام، وبمنافاة له. فلم تتجذر هذه الحلول في الأرض العربية، ثم توجهوا في الآونة الأخيرة إلى صيغ تنسب إلى الإسلام وتتصف بالتطرف والتعصب ومعاداة العصر، وذلك في ردة فعل ضد التطرف العلماني السابق. ولا يبدو أن صيغ التعصب المنسوبة إلى الإسلام، والتي هي في الواقع من ترسبات التاريخ، قادرة على إحداث الخلاص المنتظر. وعليه فإن العرب اليوم لا خيار لهم غير أن ينجحوا في تحقيق الاتجاه الوحيد المتبقي أمامهم، وشقه إن أرادوا الحياة، وهو تجديد الإسلام، مع الحفاظ على جوهره، ليستوعب روح العصر، في توافق تام مع أصالته العربية وتسامحه العربي. إن كلمة السر هنا تتخلص في (الإسلام ـ العروبة ـ العصر) في مندمج عضوي واحد. وإذا سقطت أية كلمة من هذه الكلمات الثلاث سقطت الصيغة كلها».

مشروع حضاري

يطالب الأنصاري بتحويل هذا التوجّه العام إلى «مشروع حضاري عربي - إسلامي» بمعالم واضحة وبرامج محددة وعملية، في ظل تبلور موقف عربي حيال مختلف القضايا والتحديات التي يفرضها العصر. وهنا يستلهم حركة «لاهوت التحرير» في أميركا اللاتينية التي انتصرت للجانب الاجتماعي في المسيحية وأدخلتها إلى الحياة الإنسانية بصيغة مغايرة، تتسم بالإيجابية والديناميكية. وتبدو هذه الحركة بالنسبة إليه مثالاً مهماً، فهي إن نجحت في تقديم بديل ثالث مستقلّ عن الرأسمالية والماركسية فإن هذا سيقدم دليلاً جديداً على أن شعوب العالم الثلاث بمقدورها أن تسير بنهج حضاري مستمدّ من روحها وخصوصيتها.

الجدار السميك

من جهود الأنصاري الفكرية أيضاً أنه حاول إزالة الجدار السميك بين العلمانية والإسلام، وتحويل الأولى من مصطلح كريه مخيف إلى فعل يمكن التعامل معه وتفكيكه ونقده والرد عليه، بدءاً من القول بأنه لا يوجد للعلمانية معادل دقيق في المصطلح الإسلامي، «وموقفي الاجتهادي ألا نستخدمها في الخطاب الإسلامي، وإن كان من الضروري تحليلها وتفكيكها في خطابنا العلمي والأكاديمي والثقافي... ومن مظاهر ذلك الضعف من الناحية المعنوية، أن بعض المفكرين المسلمين بدلاً من أن يدرسوا «العلمانية» كمصطلح ومفهوم قابل للتفكيك والنقد، نجدهم من موقع انعدام الثقة بأنفسـهم وبعقيدتهم، يشنون عليها حرباً شعواء لا تبقي ولا تذر... لا تبقي ولا تذر حتى ذرةً من المعرفة والموضوعية و... احترام العقل!... وتصل إلى حد الإصابة بالقشعريرة. نعم... العلمانية ومعها الشيوعية والمادية ... وغيرها وغيرها مما جاء في تراث الآخرين، ألا يجدر بنا كمسلمين أن نلم بهذه المفاهيم من دون أن نركع لها، وقرآننا الكريم، وحي السماء، يورد لنا، على لسان الحق تقدس سره، عقائد الملحدين والمشركين والكفرة، قبل أن يرد عليهم! أجل، فالقرآن الكريم، هو أوثق مصدر، بل المصدر الوحيد أحياناً، لمعرفة مضمون الكثير من العقائد الباطلة قبل الإسلام... ولكن قومنا لا يفقهون... أفلا نقول لهم، ونحن نشرح مجرد شرح مفهوم العلمانية: «قرآنكم... يا مسلمين»».

لكن يبقى الأهم لدى الأنصاري مطالبته الدائمة بما أسماه «الاعتدال الإسلامي» الذي يرى أنه الحل و{البديل» الوحيد المتبقي والخيار الطبيعي، شريطة أن يأتي من قطاعات أصيلة في المجتمعات العربية والإسلامية وليس نتيجة «ترتيبات» مخطط لها في الخارج.

ويطرح الأنصاري شروطاً عدة ومقاييس لتحديدها، وهي باختصار:

1ـ القبول بفكرة الإسلام المنفتح والمتسامح، أي الإسلام «الأصلي»... لا «الأصولي».

2 ـ القبول بتطوّر الدولة التاريخي السلمي، بعيداً عن العنف.

3 ـ الانفتاح على الاتجاهات الوطنية الأخرى في المجتمع، من دون تخوين أو تكفير، وكذلك اتجاهات الحضارات الإنسانية ودروسها وتجاربها وربما كان «القبول» الكلامي أو النظري بهذه الشروط ممكناً. ولكن المحك هو القبول العملي بذلك، أي بالأفعال وليس مجرد الأقوال، ووضع البرامج والتنظيمات والقوانين المؤدية إلى هذه الغاية.

النهضة... مشروع التجديد الإسلامي المؤجّل دوماً

لم يكن شكيب أرسلان يزجي قولاً في الفراغ حين تساءل بملء فمه: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ بل كان يطلق طلقة كاشفة تبدد الظلمة التي لفت عقول رواد النهضة العربية - الإسلامية الحديثة الذين حيّرهم غروب شمس حضارتنا، وبزوغ شمس حضارة الغرب، الذي كان يعيش في ظلام دامس بينما كان نور التحضّر والتقدم يغمر أرض الإمبراطورية الإسلامية مترامية الأطراف.

في حقيقة الأمر فإن سؤال النهضة ونظائرها وأشباهها هو الذي سيطر على العقل المسلم منذ مطلع القرن الثامن عشر، وطفت على السطح مصطلحات تدور حول هذا المعنى، تتقاطع معه أحياناً، وتوازيه أحياناً، وتختلط به لدى كثيرين، مثل «الإحياء» و{الصحوة» و{الإصلاح» و{التجديد». وهذه المصطلحات توزّعت على اتجاهات نظرية وعملية شتى هي:

1 ـ طرحها البعض كمنظومة قيم متماسكة، ترمي إلى تشكيل إطار عصري ذي جذور عميقة تمتد إلى عهد الإسلام الأول، وتحاول أن تعيد إنتاج تجربته الفريدة والعفية، التي أطلقت الدفقة الأولى لنور الحضارة الإسلامية، سواء من حيث الحالة الروحية الفياضة أو من زاوية السلوكيات والمآثر التي جاد بها الرعيل الأول، الذي سماه بعض أنصار الحركة الإسلامية الحديثة «الجيل الرباني» أو «الجيل الفريد».

2 ـ وثمة من طرح هذه المصطلحات بوصفها شعاراً سياسياً، بهدف تعبئة الأنصار وحشدهم للاستقواء والاستعانة بهم في بناء «الدولة الإسلامية المعاصرة» أو «استعادة الخلافة» وإزاحة الأنظمة العلمانية وشبه العلمانية التي وصلت إلى سدة الحكم عقب سقوط الخلافة العثمانية عام 1924.

3 ـ طرحت هذه المصطلحات أيضاً في سياق التحدّي الحضاري للغرب، والذي بلغ موقعاً متقدماً من نفوس أتباع الحركة الإسلامية الحديثة والمعاصرة وعقولهم، إلى درجة أن من تابعها وجعلها موضع الفحص والدرس رأى أنها تعد رد فعل على تجبر الحضارة الغربية، وتحول فائض قوتها وتمكنها إلى حركة استعمارية استهدفت بلاد العرب والمسلمين. ومن هنا حفل خطاب الإسلاميين على اختلاف تنظيماتهم وجماعاتهم من حيث التفكر والتوجه والتصرف بمضامين وتعبيرات كثيرة توضح موقفهم المغبون من الغرب، ودعوتهم إلى مواجهته، ابتداءً من التمسك بالهوية وانتهاءً برفع السلاح.

4 ـ واستخدمت هذه المصطلحات لمواجهة تيارات سياسية وفكرية انحازت إلى «القطرية» الضيقة، ومالت إلى استعارة طرق الغرب وأدواته في النهضة، ورفعت شعارات من قبيل «التحديث» و{الحداثة» و{التنوير» في مواجهة من راموا التقدم على أسس إسلامية.

5 ـ كذلك، طرحت هذه المصطلحات لدى البعض في إطار بحثهم عن دور حياتي، أو سعيهم إلى الحصول على تقدير الذات واحترام الآخرين، عبر الانتماء إلى فكرة سياسية واجتماعية مرتبطة بالدين الذي يحظى بمكانة عريضة في قلوب الشرقيين وعقولهم.

6 ـ آخراً وليس أخيراً، استخدمت هذه المصطلحات لدى البعض أيضاً بغية تحقيق منافع مادية ودنيوية عبر الاستفادة من الأموال الطائلة التي جاد بها الميسورون من أنصار الحركة الإسلامية وأتباعها والمتعاطفين معها، سواء كانوا حكاماً أو وجهاء أو حتى أفراداً عاديين كانوا حريصين على دفع التبرعات المتفرقة والمنتظمة لهذه الحركة.

لكن هذه التوزيعات الستة لمسألة النهضة خضعت كغيرها من اهتمامات علماء المسلمين المحدثين للأمرين الأساسيين اللذين يقاس عليهما أي تفكير أو عمل لنقف على مدى نجاعته وقدرته على تغيير الواقع المتردي الذي نعيشه، وهما الصواب والإخلاص. وفي حقيقة الأمر فإن كثيراً من أسئلة النهضة وسائليها لم ينقصهم الإخلاص، لكنهم افتقدوا في كثير من المواقع والمواضع والحالات إلى الصواب.

وأول خطوة نحو مفارقة الصواب كانت هي الخلاف على تعريفه، والتي نبعت أساساً من الاختلاف حول تأويل النص الإسلامي المؤسس وهو القرآن الكريم، إلى جانب الصحيح من السنة، وتجلياتهما في الواقع المعيش، ومن ثم فإن ما رأته جماعة ما عين الصواب رأته أخرى مخالفة صريحة له، وما اعتبره البعض تجديداً في فقه الدين وفكره تصوّره آخرون تجديفاً وخروجاً عن الشرع.

وعلى هذا الأساس وقع اختلاف، ولا يزال، حول سبل النهضة، بين الفرق والجماعات والتنظيمات الإسلامية. فبعضها انطلق من الموقع نفسه ورمى إلى تحقيق الغاية ذاتها، لكنه لم يلبث أن تخاصم أو تنازع حول الأسلوب الذي يجب اتباعه في سبيل بلوغها. وهذا الاختلاف توزع على محاور عدة من قبيل القواعد التي تقوم عليها النهضة، والعناصر التي تشارك في صنعها، والمستوى الذي تبلغه، والهيئة التي ستكون عليها في المستقبل المنظور والبعيد.

ولم يقتصر الاختلاف والخلاف على أتباع الحركة الإسلامية بل امتد إلى التيارات الفكرية الأخرى، التي أدلت بدلوها في الجدل والنقاش الذي دار حول معاني النهضة ومبانيها، وأشباهها ونظائرها، بل إن هؤلاء هم من أطلقوا السؤال أولاً، وقبل وقت طويل من التفات الحركيين الإسلاميين إليه، بل إن هذا التساؤل لم يُطرح في إطار تحدي الغرب أو خصامه، بل في سياق الرغبة في التفاعل الخلاق معه، والاستفادة من عطائه الحضاري، تحت لافتة أن «الحكمة ضالة المؤمن فأنّى وجدها فهو أولى بها». وهذا المعنى تجسّد بجلاء في أعمال فكرية عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، كتب رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وخير الدين التونسي وأديب إسحق.

back to top