طوفان الرعب من الشرق: مسلمون أمام المغول 6 أربعة جيوش مغوليَّة تهاجم مملكة خوارزم الإسلاميَّة

نشر في 03-09-2010 | 00:00
آخر تحديث 03-09-2010 | 00:00
حرص جنكيز خان على توطيد العلاقة مع الخوارزميين، فأرسل من تلقاء نفسه إلى السلطان علاء الدين ثلاثة مبعوثين اختارهم من أتباعه الخوارزميين، وهم: محمود الخوارزمي، علي خواجة البخاري، يوسف كنكا الإنزاري، وحمّلهم هدايا للسلطان محمد.

فوائد

كانت الهدايا عبارة عن كتلة صلبة من الذهب الخالص، سبائك من الفضة، قطع من الأحجار الكريمة، أقمشة من الصوف المغزول من وبر الجمال الأبيض، عطور، إضافة إلى رسالة خاصة إلى السلطان علاء الدين يقول فحواها:

«ليس يخفى عليّ عظيم شأنك وما بلغت من سلطان، وقد علمت بسلطة ملكك وإنفاذ حكمك في أكثر أقاليم الأرض، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات، وأنت عندي مثل أعز أولادي، وغير خافٍ عليك أيضاً أنني ملكت الصين وما يليها من بلاد الترك، وقد أذعنت لي القبائل هناك وأنت أخبر الناس بأن بلادي مثارات العساكر ومعادن الفضة، وفيها ما يغني عن طلب غيرها، فإن رأيت أن تفتح للتجار من الجهتين سبيل التردد عمّت المنافع وشملت الفوائد».

استشاط السلطان علاء الدين غيظاً من مضمون الرسالة، فكيف يجرؤ هذا المغولي على تسميته بولده، بما في ذلك من معاني المهانة والاستصغار، بالإضافة إلى ما تحمله عبارة إخضاع الخان للعناصر التركية من تهديد مقنّع لعلاء الدين ذي الأصول التركية.

تجارة

على رغم شكوك السلطان وعدم اطمئنانه لنوايا المغول، رأى من الحكمة والصواب أن يحمّل رسل جنكيز خان رسالة عبر له فيها عن صادق رغبته في إقامة سلام دائم بين الدولتين وفتح باب التجارة بينهما، سُرّ جنكيز خان بالرسالة وأمر بتجهيز قافلة تجارية ضخمة إلى أراضي الإمبراطورية الخوارزمية قوامها 450 رجلا، أغلبهم من المسلمين، 500 بعير يحملون أصنافاً شتى من الذهب والفضّة والحرير الصيني ووبر الجمال والعطور، وأوكل مسؤولية قيادة القافلة إلى عمر خواجة الأتراري والجمال المراغي وفخر الدين الدنزكي البخارى وأمين الدين الهروي، يرافقهم المغولي أوقوتا كممثل شخصي لجنكيز خان.

كي يعطي القافلة أهمية تفوق غيرها من القوافل التجارية، طلب جنكيز خان من كل أمير من أمراء بيته وكبار قادته بإرسال وكيل عنه ضمن القافلة وبحوزته نقود لشراء لوازم بيته وما تحتاج إليه أسواق المغول من بضائع ومصنوعات خوارزمية.

سلكت القافلة طريقاً توافرت فيها سبل الأمن والأمان حتى وصلت مدينة أترار على الساحل الغربي لنهر جيجون، وكانت أول محطة تجارية داخل أراضي الخوارزميين وملتقى التجارة بين شرق آسيا وغربها ومفتاح إقليم ما وراء النهر، وكان ينوب عن السلطان علاء الدين في حكم المدينة ابن خاله ينال خان، عندما شاهد الكنوز والنفائس والأموال التي يحملها التجار، طغى عليه الطمع وأراد الاستحواذ عليها، فكتب إلى السلطان يشككه في مهمة القافلة وأبلغه أن التجار هم في الحقيقة جواسيس جاؤوا في مهمة خاصة كلفهم بها جنكيز خان.

استمر ينال خان في ترداد مثل هذه الأقاويل على مسامع السلطان إلى أن صدقه وأذن له بأتخاذ تدابير الحيطة ومراقبة حركاتهم ورصدها إلى حين اتخاذ قراره النهائي بشأنهم، لكن طمع ينال خان في بضائع وأموال القافلة أعماه عن كل شيء وجعله لا يلتزم بما أمر به السلطان، فصادر البضائع والأموال وأمر بقتل قرابة مائة من رجالها، على رأسهم أوقوتا الممثل الشخصي لجنكيز خان ثم أودع الباقين سجن أترار.

تمكن أحد التجار من الفرار بحيلة ذكية ونجح في الوصول إلى قراقورم وقابل جنكيز خان وقصّ عليه ما حدث، فاستشاط الخاقان غضباً وهجره النوم وانتابته رغبة جارفة في الانتقام، لكنه تريث واعتبر أن ما حدث مجرد تصرف فردي من حاكم أترار من دون أن يعفي السلطان من المسؤولية، فأرسل وفداً برئاسة كفرج يغرا المسلم واثنين من المغول إلى السلطان علاء الدين ومعهم رسالة هذا نصها:

«إنك قد أعطيت خطك ويدك بالأمان للتجار وألا تتعرض لأحد منهم، فغدرت ونكثت والغدر قبيح ومن السلطان أقبح، فإذا كنت تزعم أن الذي ارتكبه ينال خان من غير أمر صدر منك، فسلّم ينال خان إليَ لأجازيه على ما فعل، حقنا للدماء وتسكينا للدهماء، وإلا فأذن بحرب ترخص فيها غوالي الأرواح».

قبل السلطان علاء الدين احتجاج جنكيز خان، لكنه عجز عن تلبية مطلب الخاقان بتسليم ابن خاله ينال خان حقنا لدماء المسلمين، فهو يعتمد في إدارة شؤون حكمه على عشيرته من الأتراك وكثرة جندهم، ولو استجاب لطلب جنكيز خان سيطيح به الأتراك وتدخل إمبراطوريته في حروب طاحنة، لذا رفض تسليم ينال خان، بل أمر بقتل ابن كفرج وأعاد مرافقيه إلى بلادهما بعدما حلق شعرهما.

بدأ الشاة تقوية قلاعه وحصونه وتدعيم الأسوار حول المدن وإعادة تنظيم جيوشه استعداداً لأي هجوم من طرف المغول، فلما وصل رسولا جنكيز خان إليه حليقي الرأس وأبلغاه مقتل ابن كفرج، عزم على الانتقام من علاء الدين، فأصدر أوامره لكشافة جيوشه في الجبال وجواسيسه بجمع الأخبار عن الخوارزميين وعن حصونهم وقلاعهم وجيوشهم وأسلحتهم وكل شيء يخصهم.

أمة واحدة

كان العالم الإسلامي خاضعاً في ذلك الحين لحكم الخليفة العباسي الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء (1180 ـ 1225) أطول خلفاء بني العباس مدة في الحكم.

قال عنه ابن الأثير في الكامل: «كان الناصر سيئ السيرة، خربت في أيامه العراق مما أحدثه من الرسوم (الضرائب) وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشيء وضده، وكان يرمي بالبندق ويغوي الحمام».

بينما كانت الأمور بين السلطان علاء الدين وجنكيز خان تسير إلى الأسوأ، كانت الأحداث تتلاحق في الجبهة الغربية بين السلطان والخليفة الناصر لدين الله، وبلغ النزاع بينهما منتهاه، ولم يجد الخليفة من يخلصه من عدوه الخوارزمي غير جنكيز خان، قائد المغول الوثني وشيطان الحرب وسوط الله على عباده، حامل لواء الخراب والدمار، مهرق الدماء وناشر الفساد ومفزعة شعوب الدنيا في زمنه.

أرسل الخليفة مبعوثاً سرياً إلى جنكيز خان يعرض عليه التعاون معه ضد خوارزم شاة (الإسلامية)، ذلك بأن يهاجم جنكيز خان عدوه من الشرق، بينما يهاجمه جيش الخليفة من الغرب ويقتسمان أملاكه.

ولما كان الرسول سيمرّ في طريقه إلى جنكيز خان عبر بلاد خوارزم، لجأ الخليفة إلى حيلة شيطانية تكفل سرية رسالته (التي حملت عارا لن يغفره التاريخ)، فكان أن أمر بحلق رأس الرسول وكتابة الرسالة بالوشم على رأسه، ثم الانتظار حتى ينمو شعره من جديد، ثم إرساله في مهمته نحو الخاقان وبعد قراءتها زالت مخاوف جانكيز خان من أمّة الإسلام، فهم مختلفون متناحرون وليسوا كما كان يظن أمة واحدة على قلب رجل واحد.

وصلت هذه الرسالة إلى الخاقان في وقت قتل سلطان خوارزم رسله وغدر بما تعاهدوا عليه وأعلن تحديه له، فكانت بداية الملاحم والمجازر التي حلّت بالأمة الإسلامية آنذاك.

بحيرة بيقول

في خريف عام 1219 تجمع المغول على المنحدر الجنوبي لجبال ألتاي، عند وادي أصيل بالقرب من منبع نهري أيرتيش وأورنجو، عند بوابة دزنجاريا (الطريق الشمالي لتركستان)، وظهر جنكيز خان يمتطي صهوة جواده الأبيض واضعاً في قلنسوته ريش النسور ومرتدياً نطاقاً مرصعاً بالذهب فوق سترة جلدية ذات فراء أسود وأكمام طويلة.

كان عدد جنوده 150ألف جندي ومعهم 50 ألف آخرين من المهندسين والصنّاع والفنيين (جلبهم أسرى من الصين واقتنعوا بالخضوع له) المتخصصين في اقتحام الحصون وتدميرها.

كانت الطريق أمام الجيش المغولي شاقة إلى أبعد الحدود، إذ سيجتازون المرتفعات من الشرق إلى الغرب صعوداً، ثم يتخذون طرقاً مذللة في سفوحها هبوطاً، وكان على فرسان المغول أن يقطعوا تلك المرحلة من غرب بحيرة بيقول حتى بلاد فارس صاعدين جبالها، هابطين إلى سفوحها، ضاربين في أوديتها، مجتازين مضايقها، عابرين أخاديدها، سابحين في أنهارها، في رحلة شاقة ومضنية، أشق ما فيها ليس وعورة الطريق، بل الرياح والعواصف والثلوج والبرد الذي يجمّد الأطراف ويشلّ الحركة والحياة.

في فجر يوم التحرك دقّت الطبول، فدُفعت قطعان الماشية التي لا حصر لها في المقدمة، ومشى خلفها المقاتلون في عرباتهم والفرسان على خيولهم، فإذا حلّ الظلام وهم سائرون، ينصب كل قائد لواءه بينما يستلم الجند الخيام من فوق الجمال لينصبوها، وفي وقت قصير يكون قد تم إنشاء المعسكرات، فيخلدون إلى الراحة مع نوبات حراسة منظمة.

خسائر فادحة

تقدمت الكشافة إلى الأمام، تبعتها طلائع الفرق المخصصة للإغارة على المخازن ومحلات الطعام، تبرز من خلال الغابات وتهبط من فوق المرتفعات في اتجاه النهر الذي تنتشر القرى في واديه الخصيب، وسلبوا قطعان الماشية وما يلزمها من العليق وكل ما يحتاجونه من الطعام ونقلوا المغانم تحت ساتر من دخان الحرائق التي اشعلوها في القرى غير المحصنة.

ما كادت طلائع الجيش الشاهاني تبلّغ السلطان بغارات المغول على القرى الحدودية ـ وكان عائداً من الهند حاملاً لواء النصرـ حتى صمم على أن يدفع بجيشه المكوّن من 400 ألف مقاتل نحو الشمال ليبيد هؤلاء الهمجيين اعتقاداً منه بأنهم لن يصمدوا أمام قوات الجيش الشاهاني الذي لا يقهر.

وصل السلطان بجيشه إلى قرب نهر جيجون، ثم اتجه نحو المصبّ، غير أنه لسوء حظه وجد نفسه في مواجهة جموع المغول في وادٍ طويل تكتنفه الغابات الكثيفة على المنحدرات.

كانت قوة الشاة تفوق قوة المغول، هؤلاء القوم الذين يثير منظرهم بشعرهم المشعث وأجسامهم المغطاة بالفراء والجلود اشمئزاز جند خوارزم المتأنقين، فرأى الشاة علاء الدين أن يسرع بشن هجوم على عدوه وأخذه على غرة قبل أن يلوذ بالفرار (حسبما اعتقد). اتخذ الجيش الخوارزمي وضع القتال وعلا نفير الحرب ودقت الطبول والصنوج... وبدأ أول فصول الملاحم بين التتار والمسلمين.

لاح الجيش الإسلامي على مرمى البصر للمغول وبهت القائد المغولي شيبه نويون من هذه الجموع الجيدة التنظيم، وهذه الأعداد الغفيرة من الجند الجيدة التسليح، فطلب من جوجي (ابن جنكيز خان) أن ينسحب ويستدرج عدوه نحو معسكره الأساسي، لكن جوجي رفض الانسحاب قائلاً: كيف أواجه أبي بعد الفرار؟ ثم أصدر أوامره بالهجوم وأسرع المغول فوق جيادهم يصيحون صيحة الحرب، ممسكين بسيوفهم القصيرة ورماحهم الطويلة، ونشبت معركة سريعة أسفرت عن خسائر فادحة في صفوف المسلمين.

ضربات موجعة

عندما أشرقت شمس اليوم التالي على الوادي الذي دارت فيه المعركة، كانت آلاف الجثث تغطيه، أما قوات المغول فتلاشت كما تلاشى الليل إلى حيث لا يعلم أحد.

كان جامعو العلف من المغول اكتسحوا كل ما على الأرض إلى أن أقحلت وأجدبت، ولم يجد سلطان خوارزم ما يموّن به جيشه في تلك المنطقة فتراجع إلى مدنه المحصنة، يحتمي خلفها خشية ضربات المغول الثقيلة.

تكبّد المسلمون في تلك المعركة الخاطفة خسائر جسيمة، فترك هذا الأمر أسوأ الأثر في نفوس المقاتلين الذين واجهوا فرسان المغول، حتى الشاة نفسه أصبحت سيرتهم تقضّ مضجعه، ويثير ذكرهم أعصابه. لقد أنزلوا الرعب حتى في قلب الفارس الجريء السلطان علاء الدين نفسه، لدرجة أنه قال عنهم إن عينه لم ترَ محاربين أشد منهم بسالة ولا أثبت منهم جأشا، ولم يرَ في حياته أمهر منهم في تسديد الضربات بحدّ السيف أو الوخز بطرفه.

خطة

على نهر جيجون كانت تربض قلعتا الإسلام المنيعتان في ذلك الحين، بخارى وسمرقند، فوضع جنكيز خان خطة محكمة للاستيلاء على أهم مدن وقلاع خوارزم، إذ كان القسم الأكبر من جيش الخوارزميين موجوداً في القلاع الرئيسة المنتشرة على حدود البلاد الشمالية، وتوزع باقي الجيش على حاميات المدن الكبرى مثل بخارى وسمرقند وأترار وكركانج (جرجانة)، وقضت خطة الخاقان بتقسيم قوات المغول إلى أربعة جيوش ليتولى كل واحد منها غزو إقليم بعينه.

بدأت جيوش المغول التحرك طبقاً للخطة الموضوعة لها، ووصلت الأنباء المثيرة إلى الشاة من الجهات كافة، فمن أترار وصلت أنباء عن ظهور أولاد الخاقان، ومن خوارزم وصلت أنباء عن جيش آخر للمغول، ومن خجندة وصلت أخبار عن جيش ثالث وهكذا، فشعر السلطان بشدة المحنة التي ألمت به.

كانت أترار مفتاح إقليم ما وراء النهر وبوابة العالم الإسلامي الشرقية، ومعقل ينال خان الذي قتل التجار وسلب أموالهم، ولم ينس المغول فعلته الشنيعة مع رجالهم.

انصرف ينال خان، السبب الحقيقي في تلك الكارثة، إلى إصلاح حصون المدينة وتقويتها، وعين أمهر القادة على جنود حاميتها الكبيرة، واستمر حصار المدينة خمسة أشهر، قاوم خلالها سكانها ببسالة منقطعة النظير، وتصدوا لمحاولات العدو اختراق دفاعاتهم، ولما أدرك سكان المدينة تردي أوضاعها وتصميم المغول على اقتحامها عنوة، أظهروا سخطهم على سبب هذا الجحيم الذي يحيط بهم وبات يهددهم، في الوقت نفسه أيقن ينال خان أن المغول لن يتركوه حياً حتى لو أعلن استسلامه ولم يجد أمامه من سبيل سوى المقاومة حتى الموت.

اقتحام

اقتحم المغول المدينة عنوة واندفعوا في شوارعها يقتلون كل من يعترض طريقهم، ونهبوا كل ما عثروا عليه من ممتلكات السكان وساقوا الأحياء خارج المدينة وذبحوهم كما تذبح الشاة، وأبقوا على أصحاب الحرف والصناعات، فارتكبوا مذبحة يعجز القلم عن وصفها.

أما ينال خان فتقهقر لدى سقوط دفاعات المدينة مع 10 آلاف من جنده واحتموا في القلعة وظلوا قرابة شهر ينفذون غارات موجعة على المغول، حتى سقط رجاله إلا اثنين فحسب، وفقد كل أمل في النجاة، فصعد إلى أعلى برج في القلعة وظل يمطر المغول بالسهام آملاً بأن يصيبه سهم ويموت بشرف، فلما نفذت سهامه، ألقى بنفسه على سطح أحد المنازل وظل يقذف المغول بالحجارة التي كانت إحدى الجواري تنتزعها من السور وتناولها له، حتى ضيق المغول عليه الخناق وأحاط به جنودهم فقتلوا رفيقيه وأوثقوه هو بالحبال، كما كانت تقضي الأوامر بذلك، واصطحبوه حياً إلى أوكتاي وشقيقه.

أرسل الشقيقان ينال خان إلى والدهما الذي كان على رأس أكبر الجيوش ومتجهاً إلى بخارى، فمثل ذليلا مهاناً أمام جنكيز خان وكان في حالة يرثى لها، فأمر الخاقان بصهر الفضة وصبها في عينيه وأذنيه على مراحل متقاربة، جزاء ما فعل مع تجار المغول، فاستمر الجند يصهرون الفضة، والرجل يستجير بصرخات مدوية، والخاقان يتلذذ بسماع أناته، إلى أن سكت صوته إلى الأبد.

سقوط بنكت

بينما كان الجيش الأول يقاتل في أترار، كان الجيش الثالث يجتاز الإقليم الخصب المؤدي إلى بنكت وخجندة والمتميز بالبساتين النضرة على شواطئ النهر، تليها حقول تنبت الخيرات من جميع الأنواع، المراعي المنبسطة إلى أقصى اتساع، تزدحم فيها المواشى والإبل والأغنام والخيل، وكانت القرى محصّنة بأسوار تحيط بها قنوات مائية كما يحيط السوار بالمعصم، تنتشر حقول البطيخ أمام المدن والقرى، وتملأ أشجار الفاكهة المدن، خصوصاً شجر الرمان الكبير الحجم، وكان القوم يعتصرونه شراباً يطفئ عطش الصيف.

تابع المغول زحفهم في تلك الجنان الأرضية ويخلفونها وراءهم خرائب، بهدف الوصول إلى مدينتي بنكت وخجندة ذات الأسوار العالية، دخلوا بنكت من دون مقاومة تذكر بعدما سلمها أهلها، ومع ذلك فصل المغول ـ الذين يعشقون سفك الدماء ـ الجنود عن الأهالي وذبحوا الجنود كلهم.

أما خجندة فكانت ذات أسوار وحصون وتقع على شاطئ نهر سيحون، وكان سكانها أهل حرب، وحكمها تيمور ملك أو الملك الحديدي، نائب السلطان علاء الدين فيها وأشهر نواب خوارزم شاة وأكثرهم جرأة وإقداماً وعقلية عسكرية فذة تجلت في إدراكه استحالة الدفاع عن المدينة أمام جحافل المغول المتوحشين، فانسحب منها مع ألف من جنوده البواسل إلى حصن المدينة المقام في موضع يتفرع عنده نهر سيحون إلى فرعين.

أحاط المغول بذلك الحصن، لكنهم أيقنوا استحالة حصاره، فهو يقع في وسط المياه، ولا تصل إليه حجارة المنجنيق ولا سهام المغول، وليس لديهم سفن أو قوارب، فطلبوا الإمدادات من الوحدات الموجودة في الإقليم، ووصلهم الأسرى من أترار وبخارى وسمرقند وجند وخجندة، حتى بلغ عددهم 50 ألفاً، إضافة إلى 20 ألفاً كانوا معهم.

قسم المغول الأسرى إلى فرق وشرازم صغيرة من عشرة إلى مائة فرد، يرأس كل مجموعة ضابط مغولي، وأمروهم بنقل الحجارة من جبل يبعد حوالي 12 ميلاً عن الحصن وبناء جسر يعبرون فوقه إلى الحصن المنيع المقام على جزيرة داخل مياه النهر، وبدأ الجسر يمتد يوماً بعد يوم بإشراف مهندسي الصين وبسواعد الأسرى المسلمين.

شجاعة تيمور

ولما علم تيمور ملك بما يفعله المغول، بنى 12 مركباً غطاها باللباد والطين المعجون بالخل لئلا تؤثر فيها النيران، ثم ملأها برماة السهام، وراح هذا الأسطول يغير يومياً على الشاطىء ويقذف المغول بسهامه ليعطل أعمال البناء، بعدما كان المغول يستخدمون المنجنيق لقذف الأحجار راحوا يستخدمون الأوعية النارية المملوءة بالكبريت المشتعل.

تابع تيمور مقاومته للمغول، يصلح مراكبه في النهار ويغير عليهم في الليل، لكن الجسر الحجري أخذ يطول وقارب على الاكتمال بما يمكن المغول من إحكام قبضتهم عليه مع رجاله، فتبين له عدم جدوى المقاومة، خصوصاً أن موارده العسكرية قاربت على النفاد، ومن يموت من الجند يستحيل تعويضه.

استغلّ تيمور الأوقات التي هدأت فيها حدة القتال وانطلق على متن 70 مركباً محملاً بالزاد والعتاد فوق مياه نهر سيحون وتبعه المغول على الشاطئ، لكنهم لم ينالوا منه.

وبقيت شجاعة تيمور مضرباً للمثل بين المغول قبل المسلمين، إذ نجح في تعطيل فرقة كاملة من المغول أشهراً طويلة، وتناقلت سيرته الأجيال.

عبور الصحراء

اتجه أكبر الجيوش بقيادة جنكيز خان نفسه رأساً إلى منطقة ما وراء النهر، وكانت أول مدينة في طريقه هي «زرنوق»، ولم يكن سكانها يتصورون مرور المغول عليهم، فأصابهم الذعر والهلع وهم يشاهدون من بعيد سحابة سوداء من الغبار الكثيف تتقدم نحو الوادي تجاه مدينتهم الآمنة المستقرة، فآثروا السلامة والاستسلام، كذلك فعل أهالي مدينة نور.

تابع الخاقان طريقه وسط الصحاري ذات الرمال الحمراء والأتربة السافية والرياح العاتية، متجهاً نحو بخارى درّة بلاد المسلمين في زمنها.

كان خوارزم شاة مرابطاً في سمرقند، فأدرك مدى الخطر الذي يهدد مملكته ودنو الكارثة، فأمر بتوزيع جيشه الرئيس على بخارى وسمرقند، ثم غادر سمرقند برفقة الأعيان ورجال حرسه الخاص متجها إلى بخارى، ولم يفته أن يحمل معه كنوزه وأفراد أسرته وحاشيته.

تعجل الخاقان عبور الصحراء لدخول المدينة التي سمع عن قصورها وبساتينها ويفاجئ خوارزم شاة فيها، حتى أنه لم يتوقف عند القرى والمدن الصغيرة التي قابلته في طريقه ليتزود بالمؤن اللازمة، فقد كان يريد مفاجأة علاء الدين بأي ثمن، لكنه ما كاد يبلغها حتى علم أن السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاة لاذ بالفرار.

back to top