المجددون والتجديد في الإسلام 2 عابد الجابري... العقيدة والقبيلة والغنيمة محدِّدات العقل العربي

نشر في 25-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 25-08-2010 | 00:00
ينطلق مشروع محمد عابد الجابري الفكري من النظر إلى العقل العربي على أنه «جملة المفاهيم والفاعليات الذهنية التي تحكم بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، مجال إنتاجها، وإعادة إنتاجها»، وبذلك تصبح لديه الثقافة العربية ذاتها هي «العقل العربي»، بوصفها إطار هذا العقل المرجعي، بعد أن ثبتت أركانه وتشكلت كلياته وتعينت حدوده في عصر التدوين، الذي يشمل العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي الأول. فالمعطيات والصراعات والتناقضات التي عرفها العصر المذكور، هي المسؤولة عن تعدد الحقول الأيديولوجية والنظم المعرفية في الثقافة العربية، وتعدد المقولات وصراعها في العقل العربي.

تتفكك بنية العقل العربي، في هذا المشروع، إلى ثلاثة عناصر أولية، البيان والعرفان والبرهان. والأول يشمل النظام المعرفي البياني من نحو وفقه وعلم كلام وبلاغة، ويمثله الفقهاء والنحاة وعلماء الكلام والأدباء، والثاني يتلمس طريق الإلهام والكشف، سواء كانت تحدد موقفا من العالم، أو تمثل نظرية لتفسير الكون وسبر غور الإنسان، ويمثله المتصوفة، وأصحاب الرؤية الباطنية أو الغنوصية بوجه عام. أما الثالث فهو طريق النظر العقلي، ويمثله الفلاسفة، وأصحاب الدراية. ويوزع الجابري هذه البني على فضاءات معرفية ثلاثة، ترتبط بالفعل والسياق والنظام، المتمحور حول المعرفة. وهذا ما يمكن تقديمه من خلال الجدول التالي:

نقد العقل العربي

وعرض تفاصيل هذا المشروع أو نقدها، ليس موضوعنا هنا، إنما يهمنا بالدرجة الأولى، حضور السياسة بشتى تجلياتها وآفاقها فيه. لكن الجابري لأن يؤسس للسياسي من خلال المعرفي ويتناول هذين الرافدين وهما في حالة تفاعل وتواصل وليس في حالة سكون وقطعية، كان لا بد من رسم الملامح العامة لمشروعه، في هذا المقام.

ومنذ البداية يربط الجابري الأبيستيمولوجي بالأيديولوجي في تكوين العقل العربي، فيقول: «إذا كانت الثقافة، أية ثقافة، هي في جوهرها عملية سياسية، فإن الثقافة العربية بالذات لم تكن في أحد الأيام مستقلة ولا متعالية عن الصراعات السياسية والاجتماعية، بل كانت باستمرار، الساحة الرئيسية التي تجري فيها الصراعات». ويؤكد هذا الرأي، في إطار أكثر اتساعا، حين يقول: «إن أي تحليل للفكر العربي - الإسلامي، سواء كان من منظور بنيوي أو من منظور تاريخاني، سيظل ناقصاً، وستكون نتائجه مضللة، إذا لم يأخذ في حسبانه دور السياسة في توجيه هذا الفكر، وتحديد مساره ومنعرجاته... ذلك أن الإسلام، الإسلام التاريخي الواقعي، كان في آن واحد دينا ودولة، وبما أن الفكر الذي كان حاضراً في الصراع الأيديولوجي العام كان فكرا دينيا، أو على الأقل في علاقة مباشرة مع الدين، فإنه كان أيضاً، ولهذا السبب في علاقة مباشرة مع السياسة. ويصل حضور السياسة في مشروع الجابري إلى درجة أنها أدّت، في نظره، الدور نفسه الذي قام به العلم في التجربتين الثقافيتين اليونانية والأوروبية الحديثة، من ناحية التأثير على الفكر الديني والفلسفي، وفك بناءاتهما وإعادة تركيبها، ويعتبر أن «اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي ـ الإسلامي، لم يكن يحددها العلم، وإنما كانت تحددها السياسة».

وبداية مشروع الجابري توحي بأنه كرس إنتاجه الفكري للجانب الأبيستيمولوجي، وهذا ما يظهر من قوله: «لقد استبعدنا مضمون الفكر العربي، الآراء والنظريات والمذاهب وبعبارة أخرى الأيديولوجيا، من مجال اهتمامنا، وحصرنا محاولتنا هذه في المجال الأبيستيمولوجي وحده، لكن «السياسي» فرض نفسه بوصفه يشكل جزءاً رئيساً من بنية الأبيستميولوجي ذاته، لأن تجليه في بنية الفكر وتمثله في حركة الواقع يصعب تجاوزه، بأي حال من الأحوال، وهذا ما أكده الجابري حين جعل فعل السياسة في العقل العربي موازياً لفعل العلم في العقل الغربي.

مواكبة الحداثة

من هذا المنطلق وجد الجابري نفسه بحاجة إلى تناول «العقل السياسي العربي»، وهو في نظره «عقل» لأن محددات الفعل السياسي وتجلياته تخضع جميعها لمنطق داخلي يحكم العلاقات بينها وينظمها، وهو «سياسي» نظراً إلى أن وظيفته ليست إنتاج المعرفة، بل ممارسة الحكم، أو تفسير كيفية هذه الممارسة. ويعين الجابري ثلاثة محددات يرى أنها حكمت العقل السياسي العربي في الماضي، ولا تزال تحكمه في الوقت الحاضر، بصورة أو بأخرى، حتى ولو من خلال «اللاشعور السياسي»، الذي يقوم على أن وعي الناس ليس هو الذي يحدد وجودهم السياسي، إنما منظومة من العلاقات المادية القاهرة. وهذه المحددات هي (العقيدة ـ القبيلة ـ الغنيمة)، والتي تجلت على مدار التاريخ العربي الإسلامي في دولة «الملك السياسي» التي تقوم على «الأيديولوجيات السلطانية» عند السنة و{ميثولوجيا الإمامة» لدى الشيعة، وانتهت سجالات المتكلمين وتكييفات الفقهاء إلى الاعتراف بشرعية الأمر الواقع، الذي يقوم على قاعدة «من اشتدت وطأته وجبت طاعته»، وهي فكرة «العصبية» التي دارت حولها فلسفة ابن خلدون.

لكن كيف يمكن إعادة بناء العقل السياسي العربي بما يواكب الحداثة؟ للإجابة عن هذا التساؤل يعود الجابري إلى محددات هذا العقل، المتمثلة في العقيدة والقبيلة والغنيمة، فيطالب بتحويل القبيلة في مجتمعنا إلى «لا قبيلة»، أي إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي، مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات والمؤسسات الدستورية، يعرف الفصل بين سلطة الدولة وحركة المجتمع المدني. ويدعو إلى تحويل الغنيمة إلى «اقتصاد ضريبي»، أي الانتقال من «الريعي» إلى «الإنتاجي»، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي، بمعنى التخلص من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب، الذي يدعي احتكار الحقيقة، وإفساح المجال لحرية التفكير والاختلاف في الرأي، الأمر الذي يقود إلى التحرر من سلطان الجماعة، والانتصار للعقل الاجتهادي النقدي.

ويرى الجابري أنه من الضروري التحام الأيديولوجيات العربية، أو تكوين ما أسماها «الكتلة التاريخية»، التي لا تعني، في نظره، «مجرد تكتل أو تجمع قوى اجتماعية مختلفة، ولا مجرد تحالفها، بل تعني كذلك التحام القوى الفكرية المختلفة (الأيديولوجيات) مع هذه القوى الاجتماعية، وتحالفها لأجل قضية واحدة... والفكر يصبح هنا يصبح جزءاً من بنية كلية وليس مجرد انعكاس أو تعبير عن بنية ما». ويؤكد الجابري أن هذه «الكتلة التاريخية» تحققت في الثورة العباسية على الأمويين، حيث شاركت فيها جميع القوى الاجتماعية، التي كان التغيير في مصلحتها، من عرب وموال، زعماء قبائل عربية، دهاقين الفرس، فلاحين وحرفيين وتجار، ضعفاء الناس، أغنيائهم. والتحمت مع هذه القوى الأيديولوجيات المعارضة كافة، مثل ميثولوجيا الإمامية (العباسية والعلوية)، وحركة التنوير والفقهاء، وحدث «التوافق الضروري» بين العقيدة والقبيلة والغنيمة، بوصفهما الثلاثية التي تشكل العقل السياسي العربي. لكن لأن بني العباس استغلوا هذا الانصهار الاجتماعي في ترسيخ أركان حكمهم توطئة للاستبداد والفساد، في ما بعد، فإن التساؤل الذي يصبح ضرورياً في هذا المقام هو: كيف يمكننا أن نحقق هذه «الكتلة التاريخية» دون أن نترك الأمور تنزلق إلى ما آلت إليه في عصر العباسيين؟

مدخل إلى القرآن

خطا الجابري خطوة واسعة في تجديد الرؤية الإسلامية من خلال تصديه لتفسير القرآن عبر كتابه «مدخل إلى القرآن الكريم» وهو المسعى الذي يصفه يوسف بن عدي بأنه يندرج في إطار الأفق المنهجي والتصوري الذي سبق وأن بلوره في نصوصه المتقدمة: المعالجة البنيوية والمعالجة التاريخية والوظيفة الأيديولوجية. ويقدم الجابري رؤية مغايرة في النظرة للقرآن تقوم على التساوق بين ترتيب نزول الآيات وبين السيرة النبوية المتداولة بين أيدينا، ليضع معايير أساسية في هذا المقام هي:

1 ـ معيار التمييز بين الآيات المكية والآيات المدنية، فثمة سور صُنِّفت على أنها من القرآن المدني، مع أن أسلوبها ومضامينها يشيران إلى انتمائها للقرآن المكي، فهذا الصنف حسب الجابري يجب ضمه إلى السور المكية شريطة ألا تكون من آيات أو إشارات تحتم انتماؤها إلى المرحلة المدنية من السيرة النبوية المطهرة.

2 ـ ربط القرآن الكريم بوقائع وأحداث السيرة النبوية المطهرة: ذلك لأنه لا يمكن وضع تصنيف لسور القرآن الكريم دون معرفة المراحل التاريخية التي مرت منها السيرة النبوية.

3 ـ النظر إلى الروايات داخل سياقها القرآني: وتقوم هذه الفكرة على ربط كل آية بالسياق القرآني كله، فلا تفسر منبتة الصلة عن النص في كليته وعمومه، أو يتم النظر إليها بوصفها نصاً مستقلاً عن بقية القرآن. ويقترب الجابري هنا من الرؤى التي طالبت دوماً بتفسير موضوعي للقرآن، أي جمع الآيات التي تخص مسألة معنية وتفسيرها مجتمعة، لنعرف دلالة الجزء من النظر إلى الكل. وأن ينظر إلى القرآن بأنه يفسر بعضه بعضاً. وتأخذ هذه الرؤية في الاعتبار السياقين اللغوي والاجتماعي، أي فهم القرآن وفق لسان العرب، ووفق أحوالهم المعاشة وقت نزول الآيات منجمة على الرسول صلى الله عليه وسلم.

4 - التعامل النقدي والموضوعي مع الروايات: ويهدف الجابري من هذا إلى تخليص تفسير القرآن المتداول بين أيدينا مثل تفسير ابن كثير والطبري وابن نباتة وغيرهم من الإسرائيليات التي علقت بها. كذلك يهدف إلى تخليص هذه التفاسير مما شابها من عصبيات مذهبية وانحيازات سياسية. واتخذ الجابري من القرآن ذاته مقياساً أو معياراً صارماً للحكم على صحة الروايات من عدمها. ووضع شروطاً في هذا المضمار من بينها: عدم التشكيك في المضامين العامة للروايات التي تتحدث عن «الظاهرة القرآنية»، خصوصاً عندما يكون الراوي ممن حضروا الواقعة، أو سمعها من شهود حضروها. والأخذ في الاعتبار أن تعدد الروايات لا يعني فتح باب الطعن في صدق ما ترويه، واستبعاد العبارات كافة التي تعبر عن الموقف الذاتي الخاص براويها كعبارات التعظيم والمبالغة وما إلى ذلك.

الخصوصيّة... مصطلح يوظف أحياناً لإعاقة التجديد

من نافلة القول إن فكرة «الخصوصية» التي تطرح الآن في وجه «العولمة» ليست أمراً جديداً، وليست حيلة دفاعية للذود عن «الهوية» أو «الذات الحضارية» بقدر ما هي حاجة أصيلة إلى التميز، ورفض قاطع لتماهي الذات في الآخر، أو مسخ النفس لحساب الغير، أو الاكتفاء بالتقليد، والرضا بالعيش في الهامش البارد، من دون أي طموح للتفاعل الخلاق مع العالم، من أدناه إلى أقصاه.

لكن الخصوصية ليست فكرة متفقاً عليها، فعلى رغم أصالتها وحيويتها، فإن مساحة الحركة داخلها شاسعة إلى حد التناقض التام بين معتنقيها، أو المنافحين عنها، المتحمسين لها، وبين رافضيها جملة وتفصيلاً، ممن يؤمنون بأن العالم صار «قرية كونية» من الضروري أن يذوب الجميع فيها، ليس في مجال التقنيات فحسب، بل أيضاً في فضاء القيم والمعاني الإنسانية.

والأكثر إثارة للجدل أن المؤمنين بالخصوصية ليسوا على عقل رجل واحد وقلبه في التعامل معها، بل إن بينهم أيضاً اختلافات تصل إلى حافة التناقض أحياناً. فثمة من يتعامل مع المسألة بصرامة وحدة، إذ لا يريد أن يتفاعل أو يستفيد مما لدى الآخر، وإن وجد نفسه منساقاً بحكم الواقع إلى الاستعانة أو الاسترشاد بما لدى «الغرب» مثلاً، فلا يعدو هذا بالنسبة إليه على أن يكون «بضاعتنا وقد رُدت إلينا»، في إشارة إلى العطاء الغزير الذي منحته الحضارة الإسلامية في أيامها الزاهرة للغرب.

وعلى الطرف الآخر، ثمة من يؤمن بتلاقح الحضارات، ويعتقد اعتقاداً راسخاً في أن المسلمين بحاجة ماسة إلى الاستفادة مما لدى الآخرين من عطاء، في مختلف المجالات، التقنية والإنسانية، باعتبار «الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها».

على هذين الطريقين، يقف الخطاب الإسلامي بشتى أطيافه من فكرة الخصوصية، موزعاً بين اتجاهين، الأول يتمثل في نظرة رحبة إلى الخصوصية، لا ترى أي غضاضة في المزاوجة بين ما لدينا وما يأتينا من الخارج، بشرط أن تكون النسبة الغالبة مما هو لدينا، وأن يشكل هذا القاعدة التي نبني فوقها، والجدار الذي نستند عليه. أما الثاني فينظر إليها باعتبارها نهجاً مكتفياً بذاته، لديه اكتمال نظري، وقدرة على تلبية كل ما يتطلبه الواقع من حلول للمشكلات التي تفرض نفسها، آنياً ومستقبلاً.

ثم يسعى أصحاب هذا الاتجاه إلى بناء أطر نظرية وعملية تلبي احتياجات الواقع، ويأملون بها أن يرمموا الشروخ الواسعة التي حدثت نتيجة ما يسمونه بالتغريب، أو الابتعاد عن الإسلام. وأنتجت عملية البناء والترميم هذه رؤى عريضة لأسلمة شتى دروب الحياة. فثمة «الاقتصاد الإسلامي» و{القانون الإسلامي»، وثمة «إسلامية المعرفة» ومحاولة لبناء «علم اجتماع إسلامي» و{علم سياسة شرعي» في جوانبه النظرية والإجرائية، و{علاقات دولية إسلامية»، و{فن إسلامي»، ونزولاً من هذه التصورات الكلية والأساسية، ثمة محاولة لأسلمة تفاصيل صغيرة جداً في حياة الفرد اليومية، مثل المأكل والمشرب والملبس وطرق الترفيه ونبرة الكلام والضحك، وما يجري في المناسبات الاجتماعية كافة، وفي مقدمها حفلات الزفاف والمآتم... إلخ، بل وصل الأمر إلى تحدث بعض النساء عن «الريجيم الإسلامي».

بات من الواضح لكل ذي عين بصيرة وعقل فهيم أن منطلقات تيار التوجه الإسلامي الجديد ومعالمه الفكرية، تقوم في جزء كبير منها على حرص شديد على توكيد حد أقصى من التميز والتفرد للإسلام ونظمه، ينفي عنه مشابهة أي عقيدة أخرى، وأي حضارة أخرى، وأي نظام غيره، عرفه الناس قديماً أو يعرفونه حديثاً.

لكن يجب أن يدرك هؤلاء إن كانوا يرومون ما هو في مصلحة الإسلام كدين عظيم، ما أدركه الدكتور كمال أبو المجد في كتابه القيم «حوار لا مواجهة» حيث ينبه الباحثين عن الخصوصية الحضارية بقوله: «إذا كان الحرص على تقرير التميز أمراً مشروعاً تماماً لتحقيق ذاتية الأنا الحضارية، ولرسم حدودها داخل العقل والنفس، ولوضع الخط الفاصل بين الذات وبين الآخرين، ومنع ذوبان تلك الذات في غيرها، فإن الإسراف الشديد في تقرير هذا التميز، وتلك الخصوصية، والإحساس بالضيق والرغبة الملحة في الإنكار والرفض تجاه أي دعوى لتقرير المشابهة أو المشاركة في الرؤية النظرية، والموقف العملي من الآخرين، يحتاج إلى مراجعة واستدراك من وجهة نظر تاريخية واجتماعية، ووجهة نظر إسلامية خالصة».

يضيق البعض من «الخصوصية» إلى درجة تجعل منها قفصاً حديدياً يحيط بالفرد من كل جانب، ويكاد أن يخنقه، أو يصبح نوعاً من «الوسواس القهري» الذي يطارد الإنسان في صحوه ومنامه، ويجعله يشعر بالذنب الدائم، والتقصير المستمر. ومثل هؤلاء يختلط لديهم العقدي الثابت بالاجتماعي المتغير، ويحملون الدين أحياناً فوق طاقته، أو أكثر مما يطلبه الدين نفسه، في قيمه العامة التي تحض على الفضيلة، وتنهى عن الرذيلة.

والمطلوب هو أن تكون الخصوصية سلاحاً حقيقياً في وجه تجبر العولمة، وشعورها الزائف بالقدرة على صهر البشرية جمعاء في بوتقة، أو تحويل الناس إلى أنماط متشابهة، بل متماثلة، تفكر بطريقة واحدة، وتعتنق ثقافة واحدة، وتعيش بأسلوب واحد. وهذا السلاح لا يقوم بجلد الذات، وإغلاق الباب أمام كل ما يرد من «الآخر»، بل يقوم على هضم كل ما لدى الآخرين من إمكانات، وتطويعها لخدمة مصلحة المسلمين العامة، وهذا ما كان يجري في الأيام الزاهرة للحضارة الإسلامية، حيث نشطت حركة الترجمة، واستفاد فلاسفة المسلمين مما تركته القريحة اليونانية، واستفاد العرب من طريقة بناء الفرس والروم للهياكل والمؤسسات السياسية، ونهل المسلمون جميعاً مما كان لدى البشر آنذاك من تقدم في الطب والهندسة، فحازوا بذلك مقدرة على قيادة من على الأرض، قروناً طويلة.

والخصوصية الثقافية متعددة المنابع والروافد، فيها من الدين الكثير، وفيها أيضاً من الفلكلور والتقاليد والأعراف السائدة، وما يمكن اعتباره، أو ما هو بالفعل «ثقافي خاص» أمر واسع، فيه من الأشياء المادية، بقدر ما فيه من المعاني والأفكار والتصورات والرموز. وقد بذل البحث العلمي، لا سيما في مجال الأنثروبولوجيا والاجتماع، جهداً فائقاً في تناول هذا كله بفروعه وتفاصيله، موضحاً نصيب الدين فيه، أو ما هو راجع إلى جذر ديني.

وأسهم الفقهاء وأصحاب الفتوى وأهل الذكر جنبا إلى جنب مع الباحثين والمفكرين والنقاد بمختلف ألوانهم ومشاربهم في الجدل الذي دار ويدور حول ما هو ثقافي إسلامي، بدءاً بالأزياء والملابس وانتهاءً بالأدب والفن. والخوض في هذا المضمار قد لا يأتي بجديد، ولا يضيف كثيراً إلى رؤية الخطاب الإسلامي لقضية الخصوصية الثقافية.

كذلك جاء الخطاب الفكري الإسلامي في تمسكه بالخصوصية الثقافية في وجه عولمتها، خطابا عاماً، كغيره من خطابات تصدت لهذه القضية وغيرها في سياق الأخذ والرد بشأن ما يسمى «النظام الدولي الجديد»، ثم «العولمة» وأخيراً ما نتج عن أحداث 11 سبتمبر. وهذه العمومية جعلت الخطاب الديني في هذه المرحلة أشبه بإعلان المواقف السريعة، بما يجعله قابلاً للتغير مع تطورات الأزمة المستمرة، ويبعده عن التأصيل والتعمق الفقهي والفلسفي، الذي ميز هذا الخطاب في مراحل سابقة، وحول قضايا أخرى.

back to top