ورشة الأمل
 1-2

نشر في 11-05-2011
آخر تحديث 11-05-2011 | 00:01
 زاهر الغافري في أواسط الستينيات تقريباً وكنّا صبية، كان الشعور بأن العامل العُماني القادم من البحرين أو الكويت، لزيارة أسرته، كأنه قادم من كوكب آخر، أو مدينة مسحورة مفعمة بالضياء. كان ذلك الشعور الغريب والغريزي تقريباً يُوحي إلينا بأننا كنّا كمن يعيش خارج العالم.

أحسب أن هذا الشعور كان يرافق الصغار في أغلب القرى العمانية. وأذكر أن زائراً عمانياً عاد من البحرين الى القرية، فاستُقبل بحفاوة كبيرة كأنه عريس، وألتفّ حوله الأهل والأصدقاء والمعارف وصغار الحي، يسألونه بفضول وأنفاس مبهورة عن البلد أو المدينة التي جاء منها، تلك المدينة الغريبة الممتلئة بحسب خيالاتنا بالبهجة والأضواء.

تذكرتُ هذه الوقائع وأنا أقرأ «ورشة الأمل» لقاسم حداد، وهو كتاب – سيرة شخصية لمدينة المحّرق البحرينية- وأنا الذي لم يزر البحرين سوى مرة واحدة وقصيرة أحسستُ بمتعة اكتشاف –وأنا أقرأ الكتاب– ليس البلد والمدينة فحسب بل أيضاً تلك الشعلة الكامنة، لمشروع تكوّن الشاعر.

ذلك ان قاسم حداد وهو يسرد بعض تفاصيل وجزئيات ووقائع وأمكنة المحرّق، منذ الخمسينيات، يسرد في الوقت ذاته، طفولته هو، أو طفولة الشاعر فيه قبل أن يتحقق لاحقاً بالفعل، بدءاً من الولادة والدراسة التقليدية (الكتاتيب) ثم الدراسة الحديثة... ألخ. مع ما يتبع ذلك من مغامرات الطفولة والجسارة ورغبة الاكتشاف، تماماً كفكرة الدخول في المغامرة الشعرية.

وعلاقة قاسم بالمكان، (المحرّق) ترتفع الى مرتبة الوجود الحق، عندما يصف هذه العلاقة بأنها (مثل سيفٍ وُلد في غمده)، انها البدء والمنتهى، علاقة لا تنفصم رغم التحولات التي ستطرأ على المكان وعلى الشاعر معاً. إن اللحظتين الباهرتين، المؤثرتين، في تكوين قاسم في مدينة المحرّق تتجليان هكذا: بوصف المحرّق كما يقول هو:

مدينة الأبواب المفتوحة دائماً

وبوصفها أيضاً ورشة الأمل.

فضاء من الحريّة لا يُحد إذن، ودفء انساني في العلاقات الاجتماعية.

هذه الحيوية ستغمر الشاعر الصبي بمشاعر التأمل والانفتاح، وتقدير الآخر، بحيث تبدو العائلات المقيمة ليس في الحي الذي كان يقطنه فحسب، بل في المدينة كلها، أقول تبدو كأنها عائلة واحدة. لهذا الحنين الجاذب، المصهور بدفء القلب، علامة كاشفة عن سياق العلاقات الاجتماعية في مدينة المحرّق وفي كثير من المدن العربية. في تلك البرهة البعيدة من الزمن.

لم يعد الأمر كذلك بالتأكيد.

يتحدث قاسم حداد عن المحرق بلوعة، وبنبرة رثائية، كأنما إذ يرثي المدينة يرثي ذاته، خصوصاً في الفصل المعنون (الذي لا يُستعاد ولا يضاهى، ولا يقبل الفقد) في هذا الفصل بالتحديد تظهر جذوة الحنين، الى الأمكنة التي تبدو قصية في الذاكرة.

«حنين جريح» يكتب قاسم حداد.

مدينة، اعطت من زبدة روحها، بذرة الأمل، مدينة امتزج فيها التاريخ الاجتماعي والسياسي والعصيان، بقوة الحياة فتم اهمالها ومعاقبتها.

back to top