المجددون والتجديد في الإسلام 11 تخليص الدِّين من الأساطير والفلكلور
في عملية تجديد الفقه والفكر الإسلامي من الضروري تخليص الدين مما ران عليه من تحولات جعلت التدين يأخذ لدى كثيرين شكل الفلكلور أو الأساطير أو يتماهى في الثقافات السائدة فيخلط ما هو دين بما هو تقاليد متوارثة أو يتاجر بالدين ويضر بجلاله وقدسيته.تصير الأديان لدى البعض نوعاً من الفلكلور حين تتماهى في الموروث الشعبي، فيختفي جوهرها العقدي إلى حد ما، وتستبدل طقوسها التي تفرضها الشريعة، وتحدد طريقة أدائها في صيغة تفصيلية، بطقوس أخرى تتعارف عليها الجماعة، وتتبناها وتدافع عنها، وتصل بها أحياناً إلى حد من القطيعة مع الطقس الأصلي. وأحد الأمثلة الجلية على ذلك ما يفعله بعض الجماعات، التي تبدو في الجانب الأغلب منها ظاهرة فلكلورية تلبس ثوب الدين، وتتخلى في تفضيلها «الحقيقة» على «الشريعة» عن الالتزام التام بالفرائض.
ويحدث أن تختلط «أساطير الأولين» بالعقائد والتصورات. وهذه المسألة قديمة قدم الدين والإنسان معاً، فأديان مصر القديمة والميثولوجيا اليونانية طالما زحفت إلى التأويلات المسيحية واليهودية، فعمقت الهوة بين ما أنزل على موسى وعيسى عليهما السلام وبين ما يعتقد فيه أتباع الديانتين. وفي الإسلام توسع البعض في الاعتقاد في كرامات الأولياء، وخلعوا عليهم خوارق الأعمال والصفات، واستسلم الشيعة لفكرة «الإمام الغائب» ولم يراجعوها إلا مراجعة جزئية وموقتة على يد الخميني من خلال فرض مبدأ «ولاية الفقيه»، وتسربت الأساطير إلى علم الكلام وبعض السِّير والتصورات والأفكار الغنوصية عن الدين.ويطوع البعض النص لخدمة المسار الرأسمالي، ويبالغ في الحديث عن الملكية الخاصة، متناسياً أو مقللاً من شأن ضرورة توافر «حد الكفاية» لكل المسلمين، ويغالي في التنعم بالملذات المادية، متغافلاً عن أن الزهد إحدى جواهر الدين الروحية. ولم يقف الأمر عند حد خدمة هذا المسار النظرية، بل تجسد بطريقة مخيفة في اتساع ظاهرة الاسترزاق بالدين، عبر تحويل علومه إلى سلعة تعرض باستمرار، سواء من خلال المطابع أو الشاشات الزرقاء. وأدى هذا إلى تحول بعض منتجي الفقه والفتوى والدعوة إلى أصحاب ملايين، واتجهت رؤوس أموال طائلة إلى الاستثمار في هذا المجال، فانطلقت عبر الأثير قنوات فضائية دينية عدة، وتمكنت من جذب إعلانات قيمتها ملايين الدولارات. وبمرور الوقت تبدأ آليات السوق تؤدي دورها في هذا النوع من الإنتاج، فينفصل تباعاً عن منشئه وجوهره وأصله، وفي هذا خطر داهم على الدين.ويتحول التدين إلى خطاب ثقافي سائد، يتفاعل الدين مع التقاليد والعادات المتوارثة فيصبح جزءاً من ثقافة المجتمع العامة، ويصير بعض طقوسه وتعاليمه وشفراته ولغته وكلماته وتعبيراته أمراً متعارفاً عليه حتى لدى غير المتدينين والملحدين، ويتصرف كثيرون على هذا الأساس من دون أن يدروا أو يحيطوا علماً بجذور هذه التصرفات الدينية. ومن هنا نقول إن المسيحيين في العالم العربي هم جزء من الحضارة الإسلامية، لأن مفرداتها تغلغلت في نفوسهم وعقولهم إلى درجة يصعب عليهم التخلص منها، مهما أوتيت للبعض منهم رغبة في الانعزال أو القطيعة أو التمرد على رؤية الإسلام الحضارية. والأمر نفسه ينطبق على الأقليات المسلمة التي تعيش في كنف حضارات وديانات أخرى في أوروبا وآسيا.الركائز الأربعونظراً إلى أهمية هذه النقطة فسنتعمق في تناولها وشرحها، من منطلق الركائز الأربع الرئيسة التي يدور حولها أغلب الفكر الإسلامي، والتي تتصل اتصالاً مباشراً، وترتبط ارتباطاً عضوياً، بكل ما يجود به الإسلام في مجالات العقيدة والعبادات والمعاملات، أو في الدعامتين الأساسيتين اللتين يقوم عليهما وهما: عبادة الله سبحانه وتعالى، والاستخلاف في الأرض. وهذه الركائز هي:1 ـ الثوابت: وأقصد بها الثوابت العقدية، أي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقضاء والقدر، خيره وشره. وهناك اتفاق وإجماع حول هذه الثوابت، والخلاف حول التفاصيل المرتبطة بالوصف والماهية والمعاني اللغوية، لا ينال من هذا الإجماع، الذي هو شرط أساسي كي يكون الإنسان «مؤمناً»، ليس كما تقر الرسالة الخاتمة التي حملها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، بل ما تقره الرسالات السماوية التي سبقتها، حيث وحدة الأصل والمنبع، ووحدة الهدف والمقصد. 2 ـ النظم: وهي الشريعة، التي تحدد علاقة الإنسان بالناس والمجتمع، وترسم له حدود «الحق» و{الواجب» ومعالم «الحلال» و{الحرام» و{المكروه»، وهي كذلك جملة التشريعات المنبثقة من هذه الشريعة، والتي تتأسس على مبادئ ترى أن الإسلام «دين ودولة» وأن القرآن الكريم «دستور». وهذه الفكرة ليست محل إجماع بين فقهاء ومفكري الإسلام، فبينما تتمسك أفكار وآراء وتخريجات رجال «الحركة الإسلامية» بمختلف ألوانهم بالنظم بوصفها جزءاً أصيلا من الإسلام، لا يكتمل الدين إلا به، يرى آخرون أن الإسلام دين لا يضع نظاما معينا للحكم، مثلما ذهب الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم»، والشيخ جمال البنا في كتابه «الإسلام دين وأمة وليس دينا ودولة». وبين هذين الرأيين تأتي آراء متعددة، تقترب من هذا أو من ذاك، أو تقف في المنتصف تماماً.3 ـ القيم: وهي تتجلى حين يعبر المرء عن حبه لشيء وموافقته عليه أو نفوره منه، قياسا إلى شيء آخر. ويختلف مفهوم القيم من الفكر المثالي، الذي ينظر إليها على أنه مسألة مطلقة، عنه في الفكر البراغماتي، الذي يتعامل معها على أنه مسألة نسبية، مروراً بالفكر الواقعي الذي يزاوج بين المفهومين السابقين. لكن هناك أساسا عاماً لتعريف هذا المفهوم، ينظر إليه على أنه مجموعة من الأحكام المعيارية المتصلة بمضامين واقعية يتشربها الفرد من خلال انفعاله وتفاعله مع المواقف والخبرات المختلفة، على أن تنال هذه الأحكام قبولاً من فئة اجتماعية معينة؛ حتى تتجسد في تعبير الفرد عن شخصيته سلوكياً أو لفظياً، أو من خلال اتجاهاته واهتماماته. والقيم جزء أصيل من رسالة الأديان، التي تمد الإنسان بمعيار إلهي للحكم على الأشياء والأفعال، فيصبح كلام الله هو الفيصل في الحكم على الحسن والقبيح، وعلى المباح والمحرم، والشرعي والمجرّم، فيكون الحسن هو ما وافق الشرع، ويستوجب الثواب، والقبيح ما يخالف الشرع، ويستلزم العقاب.وإذا كان هناك من يفرق بين القيم والمعتقد باعتبار أن الأولى تشير إلى الحسن Good مقابل الرديء Bad والثانية تشير إلى الحقيقة True مقابل الزيف False فإن هناك من يؤكد وجود ارتباط قوي بين الاثنين. فالمعتقدات تنقسم إلى ثلاثة أنواع، الوصفي والتقييمي والآمر الناهي، والقيمة من النوع الثالث، حيث تبدو «معتقدا ثابتا نسبيا، يحمل في فحواه تفضيلا شخصيا أو اجتماعيا لغاية من غايات الوجود، أو لشكل من أشكال السلوك الموصلة إلى هذه الغاية. والقيم شأنها شأن المعتقدات تحتوي على ثلاثة عناصر، الأول معرفي يتمثل في إدراك الإنسان لما يريده ويرغب فيه، والثاني وجداني يتعلق بشعور الإنسان حيال الأشياء والأعمال، والثالث سلوكي يرتبط بحركة الإنسان حيال الواقع المعيش. وإذا كانت القيمة المحورية في الليبرالية هي «الحرية»، وفي الاشتراكية هي «المساواة» فإن القيمة الأكبر في الإسلام هي «العدالة»، التي لا تقر المساواة الحسابية في قتلها الحافز الفردي المشجع للإبداع والترقي، وتمنع الحرية من أن تجنح إلى التفلت، فتصبح حرية «غير مسؤولة»، أو لا تحدها كوابح من دين أو تقاليد اجتماعية، أو حتى مراعاة حدود حريات الآخرين وحقوقهم.4 ـ الذات والعالم: وهذا جزء رئيس في الدين الإسلامي، أسسته آيات بينات من القرآن الكريم، وأكدته الممارسة في عهد النبوة، وفرضه الواقع المتجدد والمتغير، في أيام قوة المسلمين وتمكنهم، وفي ليال ضعفهم وتأخرهم. والعلاقة مع الآخر عولجت في ثنايا الفكر والفقه الإسلامي المعاصر كثيرا في الحديث الذي دار حول الهوية والانتماء، وحوار الحضارات، وموقف غير المسلمين في البلدان الإسلامية، والذي وصل إلى أعلى مراحله حين أقرت بعض الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي بمبدأ «المواطنة» حسب إجراءاته المعمول بها وتصوراته المعهودة في الدول الديمقراطية، بعد أن كانت تكتفي في الماضي بإعلان مبدأ إيجابي مجمل يقول: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». وهذه تعتبر المباحث الأربعة الرئيسة التي تظهر فيها خصوصية الإسلام بشكل عام. أما بالنسبة إلى الخصوصية الثقافية التي يدور حولها هذا البحث، فهي إن كان لها نصيب من الاعتقاد والنظم والقيم والعلاقة مع الآخر، فإن هذا النصيب ينتظم في أربع ركائز، تدور حولها الثقافة عموماً في معناها ومبناها، وهي:- المعرفة: التي تعني تحصيل المعلومات من مختلف المصادر المتاحة، وإدراك وجودها وأهميتها. - القيم: التي ترسخ في الذهن والنفس بفعل التراكم المعرفي الشفاهي، والتعلم مما يجري في البيئة المحيطة، أو في الواقع المعيش. - الاتجاهات: التي تتشكّل من تمسك الإنسان بقيمة أو قيم معينة والذي يقوده إلى الميل لأيديولوجية محددة، أو طريقة حياة ما، أو مذهب اجتماعي، أو انضمامه لجماعة منظمة، معتدلة أو متطرفة، سياسية أو دعوية أو خيرية...الخ. - السلوك: فهذا الميل يقود الإنسان إلى إنتاج نمط معين من السلوك، نابع من القيم التي يؤمن بها، أو يتبناها، والاتجاه الذي ينحاز إليه، ويستخدم فيها ما أمكنه من معارف حصلها طيلة عمره. وهذه المحاور الأربعة توجد الثقافة بوصفها أسلوب الحياة السائد في أي مجتمع بشري، بما يميزه عن مختلف التجمعات الحيوانية. وهذا الأسلوب منه المادي الذي تمثله الأشياء كالآلات والأسلحة والملابس... إلخ، ومنه غير المادي الذي تكونه الأفكار والعادات والتقاليد التي تمثل تراثا اجتماعيا ينتقل من جيل إلى جيل، إما عبر اللغة أو بواسطة السلوك.جنباً إلى جنبوفي جانب منه يبدو الدين بالنسبة إلى البعض «أحد مظاهر السلوك الثقافي» ليعيش جنباً إلى جنب مع مظاهر أخرى، توجدها التقاليد والموروثات تارة، والاحتكاك بالعالم الخارجي المعتنق لدين آخر أو اللاديني تارة أخرى، لكنه لدى آخرين أعمق بكثير من السلوك، وهو إما مكتمل بذاته، أو مكتف بما لديه، أو أن لديه القدرة على هضم أي «وافد» عليه من دين أو حضارة أو تقاليد أخرى، بحيث يستفاد من السمين فيه ويلفظ الغث، من دون أن يتأثر جوهر الدين، أو يتكدر نبعه الصافي، الذي كان عليه وقت نزول الرسالة وتبليغها. وبالنسبة إلى المسلمين، ثمة من يرى ضرورة في القطيعة مع الثقافات الأخرى، والخصام مع أي تقاليد أو موروثات، لعدم تشكيل «جاهلية» جديدة يجب التصدي لها ومحاربتها كما يقول هؤلاء، إما بالدعوة التي تنقي ما تعكر، وتصوب ما أصابه الزلل، أو حتى بالقوة التي تغير المجتمع وتبدله تبديلا. وثمة من يتسامح مع المجتمع، ويرفق به، فيثني على النافع ويثبته، ويذم الضار ويخلعه، ويحاور صاحب أي رأي مختلف بالحكمة والموعظة الحسنة.أما على المستوى العملي فإن الصفاء والنقاء موجودان في «العقيدة» في منبعها وأصلها، وقبل أن تشوبها أي شائبة، أو يختلط بها أي اعتقاد أو ميل مخالف، وفي «الخطاب القرآني» في ألوهيته، وليس في «الخطاب الديني» في شقه البشري. أما وجود «خطاب ثقافي إسلامي» صاف أو يدعي النقاء المعرفي والقيمي والسلوكي الكامل فضرب من المستحيل، لأسباب عدة منها:1 ـ انفتح الإسلام على الثقافات الأخرى منذ بدء دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فثبت الفضائل والسلوكيات الحميدة كافة التي كان يفعلها عرب الجاهلية، وقاطع وزعزع الرذائل والسلوكيات السيئة التي كانوا يقترفونها. واستمر العمل بهذه القاعدة «الواقعية» لدى المسلمين المعتدلين المدركين لروح الإسلام وطرق الدعوة السلمية في كل زمان ومكان. 2 ـ تعقد مفهوم الخطاب، فهو من ناحية الشكل يشمل جميع أعمال الاتصال، المكتوب منها والشفاهي، المادي والرمزي، المنطوق والسيميائي. ومن ناحية المضمون يبدو بناء معقداً يحوي داخله كثيراً من الأفكار والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية... إلخ. ومثل هذا البناء المركب والمعقد لا يمكنه أن يحال إلى معين واحد، أو مرجعية واحدة، إلا بالمعنى الواسع، الذي يتفاعل فيه الخاص مع العام، وتتحاور فيه الذات الحضارية مع الإرث الإنساني المشترك.3 ـ عدم وجود خطاب ثقافي إسلامي واحد في الزمان نفسه، نظراً إلى عدم تواجد المسلمين في «منطقة ثقافية» واحدة، فهم موزعون جغرافياً على قارات الدنيا، بعضهم يسكن الوديان الخصبة وآخرون يعتلون قمم الجبال أو يعيشون في الصحاري القاحلة، وهم موزعون على ثقافات الدنيا، الأنغلوسكسونية والفرانكوفونية والثقافات الآسيوية والأفريقية، المتعددة والمعقدة. 4 ـ عدم وجود خطاب ثقافي إسلامي واحد في المكان نفسه. ففي البلد الواحد قد نجد الخطاب الديني الرسمي وغير الرسمي، والمنغلق والمنفتح، والخطاب المعتدل والمتطرف، والخطاب السلفي والآخر الصوفي... إلخ. علاوة على ذلك ثمة دول إسلامية عدة، تضم الواحدة منها أشتاتاً من البشر، مختلفين في الأعراق واللغات واللهجات، أي أنهم مختلفون في الثقافة الفرعية، التي يظل لها حضورها، ولها بصمتها على الثقافة الأصلية المستمدة من الإسلام، ثم يكون لدينا في البلد الواحد تجاور لأكثر من خطاب ثقافي إسلامي، باستثناء الذوبان الكامل الذي قد يحدث في جماعات وتنظيمات إسلامية صغيرة عابرة للإثنيات واللغات واللهجات.5 ـ اتساع مفهوم الخطاب الإسلامي لدى كثير من المفكرين والفقهاء المسلمين إلى درجة أن الدكتور يوسف القرضاوي يرى أنه: «البيان الذي يوجه باسم الإسلام إلى الناس، مسلمين وغير مسلمين، لدعوتهم إلى الإسلام، أو تعليمه لهم، وتربيتهم عليه: عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، فكراً وسلوكاً، أو لشرح موقف الإسلام من قضايا الحياة والإنسان والعالم، فردية أو اجتماعية، روحية أو مادية، نظرية أو عملية... وهو خطاب يتميز بالسعة والشمول، بقدر سعة الإسلام وشموله، فهو يشمل الفرد بجسمه وعقله وروحه ووجدانه، ويشمل الأسرة بعلاقاتها الزوجية والأبوية والأخوية والرحمية، ويشمل المجتمع بطبقاته وتكويناته الدينية والعرقية واللغوية والاقتصادية وغيرها، ويشمل الأمة بشعوبها وأوطانها، والدولة التي تحرس الدين وتسوس الدنيا، والعالم كله، فهو يوجه الدعوة إليه، ويقيم العلاقة معه، متعاونا على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، متضامناً في مواجهة الطغيان والاستكبار في الأرض، مسانداً للمظلومين والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان». ولا يحصر القرضاوي الخطاب الإسلامي في البعد العقدي الروحاني الخالص، بل يمده ليشمل أبعاداً وجوانب أخرى، من بينها الأخلاقي الذي يتصل بالقيم العليا والفضائل والسلوكيات الراقية، ومن بينها المجتمعي الذي يبحث عما يرقي المجتمع ويحل مشكلاته، ومنها ما يتعرض لقضايا فكرية واقتصادية وسياسية ودولية، ليقدم العلاج لها في ضوء تعاليم الإسلام.ومن المستحيل مع هذا الاتساع ألا يلتقي الخطاب الإسلامي في بعده المرتبط بالنظم والقيم والعلاقة بالآخر مع غيره من خطابات مطروحة داخل أي جماعة بشرية، في أي زمان أو مكان.6 ـ رحابة الإسلام نفسه في المعنى والأصل، إذ إنه يعني «إسلام الوجه لله سبحانه وتعالى»، بما يجعل الإنسان عبداً مطيعاً مخلصاً لربه، مؤمناً به وبوحدانيته، ومتوكلاً عليه، يراعي وجوده في كل قول يتلفظ به، وفي كل فعل يبدر عنه. كذلك فإنه وبنص القرآن دين يسبق دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأبو الأنبياء سيدنا إبراهيم «أول المسلمين»، بل إن الإسلام بمعناه المذكور سلفاً، هو الدين منذ المنشأ، الذي نزل مع آدم إلى الأرض، بغض النظر عن الأسماء التي أطلقها البشر على الرسالات والدعوات، مثل الإبراهيمية واليهودية والمسيحية. فهذه الرسالات منبعها واحد، وجوهرها واحد، وأي مضمون أو شكل طرأ عليها وجعلها تنحرف عن هذا الأصل وذلك الجوهر، هو من صنع البشر، بالتأويل الخاطئ تارة، وبالاختلاق والكذب على الله تارة أخرى. ثم فإن الآية الكريمة التي تقول: «إن الدين عند الله الإسلام» (آل عمران: 19)... والأخرى التي تقول: «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه» (آل عمران: 85) يجب أن يفهما في ضوء هذا، فالدين واحد، والدعوات والرسالات السماوية متعددة، والأنبياء والرسل متعاقبون. وكل ما يقال عن الاصطفاء والاختيار مشروط بالأعمال والأعباء والواجبات والفرائض التي أمر الله تعالى بها عباده، فلا اليهود «شعب الله المختار» ولا «المسيحيون ملح الأرض ونور العالم» ولا المسلمون «خير أمة أخرجت للناس» في كل زمان ومكان، ومع أي فعل أو وضع أو ظرف. 7 ـ وجود ثنائية متعايشة بين الخاص والعام في الأديان من دون تفرقة أو تمييز. فالمبشرون بالدعوات الدينية، يقولون في مرحلة التمكن إن لديهم «منظومة قيمية» تنطبق على شعوب الأرض كافة. أما في أوقات الضعف، وحين يكون أصحاب هذه الدعوات مستهدفين من الأغيار الأقوياء، فيطلبون من هؤلاء ألا يدسوا أنوفهم في شؤونهم، وألا يفرضوا عليهم ثقافة بعينها، ويحترموا خصوصيتهم، ويقروا بتعددية تسمح للجميع بأن يتمسكوا بمعتقداتهم، ويمارسوا طقوسهم الدينية والثقافية. وهذا لا يعني أن عالمية الدعوة أمر غير واقعي أو مرتبطة بمرحلة التمكن فحسب، بل يعني في المقام الأول أن هذه العالمية، الرامية إلى هداية البشر أجمعين، يجب أن تكون في بناء العقيدة وتعلم العبادات أو أركان الدين، ولا يجب أن تتغول لتفرض نمطاً ثقافياً محدداً، فهذا فوق طاقتها، ولا طائل كبير من ورائه، إنما الجدوى تتحقق حين تركز الدعوة على منح الثقافات السائدة إطاراً أخلاقياً عاماً، لا يجور على التعدد والتنوع، ولا يقطع جذور مجموعة بشرية في أي مكان.لكن ما يجب التأكيد عليه في هذا المقام أن تحولات هذه الأديان الخمسة لا يمكنها أن تمحو أصولها وجواهرها، وليس بوسعها أن تجفف المعين الصافي الذي ينهل منه أولئك الباحثون دوماً عن الدين المكتمل بنعمته التامة وصورته التي تجلى بها للناس في زمن البداية. والله حافظ لذكره إلى أن يرث الأرض ومن عليها.