المجددون والتجديد في الإسلام 6 أدونيس...التجديد بين الاتّباع والإبداع

نشر في 30-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 30-08-2010 | 00:00
يبحث مشروع أدونيس في جذور «الاتباع والإبداع» في الثقافة العربية ـ الإسلامية، ليحدّد البنية الفكرية المسؤولة عن هذين النقيضين. ويقول أدونيس إنه بدأ بدراسة الشعر العربي من الجاهلي حتى الحرب العالمية الأولى، فوجد أنه بذاته لا يفسر الاتباعية في الحياة العربية، ثم بحث عنها في الرؤية الدينية الإسلامية، خصوصاً بعدما ثبت لديه أنه لا يمكن فهم الرؤية الشعرية العربية ذاتها بمعزل عن الرؤية الدينية، نظراً الى أن «الظاهرة الشعرية جزء من الكل الحضاري العربي، لا يفسرها الشعر ذاته، بقدر ما يفسرها المبنى الديني لهذا الكل»، وهنا توافرت لديه فرصة تعيين «الثابت والمتحول» في العطاء الحضاري العربي ـ الإسلامي.

يعرف أدونيس الثابت في إطار الثقافة العربية بأنه «الفكر الذي ينهض على النص، ويتخذ من ثباته حجة لثباته هو، فهماً وتقويماً، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص، وبوصفه، استناداً إلى ذلك سلطة معرفية»، بينما يكون المتحوّل هو «إما الفكر الذي ينهض هو أيضاً على النص، لكن بتأويل يجعل النص قابلاً للتكييف مع الواقع وتجدده، وإما أنه الفكر الذي لا يرى في النص أي مرجعية، ويعتمد أساساً على العقل لا النقل».

لكنّ أدونيس يؤكد أن الحدود بين الثابت والمتحوّل ليست جامدة، إذ يقول: «لا يعني ما أسميه بالثابت أنه لم يعرف أي تحول في التنظير والممارسة عبر التاريخ، أو أن ما أسميه بالمتحوّل لا يتضمن بعض عناصر الثبات، إنما قصدت أن أشدد على الطابع الغالب، والأكثر إلزاما وحضوراً في اتجاه الثبات بالقياس إلى اتجاه التحول، أو في هذا الاتجاه بالقياس إلى ذلك الآخر». ونجد هنا أن التعريف جعل الثابت والمتحول «مصطلحين إجرائيين»، مكّنا أدونيس من دراسة الظواهر الثقافية بمعزل عن قاعدتها المادية، الأمر الذي انتقده الكثيرون، خصوصاً من بين الذين ينظرون إلى الثقافة بوصفها «بنية فوقية» لا تفهم إلا في إطار «بنية تحتية» ذات طابع مادي.

يخصّص أدونيس القسم الأول من مشروعه لدراسة مظاهر الثبات والتحول منذ نشوء الإسلام وحتى منتصف القرن الثاني الهجري، التي تتأسس في بداية الدعوة الإسلامية بين الدين والشعر، وبين الخلافة الأولى والسياسة من جهة، وبينها والثقافة عموماً من جهة ثانية. وتتجلى مظاهر الثبات في العصبية والسياسة، وفي الشعر واللغة، وفي السنة والفقه. في المقابل، تظهر تجليات المتحول في الحركات الثورية والفكرية والشعرية، والصعلكة الاقتصادية - السياسية. والقسم الثاني، يعرض مظاهر الثبات في مفاهيم القديم والسنة والإجماع والبدعة، وفي تنظير الأصول الدينية ـ السياسية، والأصول اللغوية ـ الشعرية. وفي المقابل يقدم مظاهر التحول في الحركات الثورية (القرامطة ـ الزنج)، وفي المنهج التجريبي، وإبطال النبوة، وأولية العقل على النقل، حسبما ذهب المعتزلة، وأولية الحقيقة على الشريعة، والباطن على الظاهر، كما تجلى في التصوف ونظرية الإمامة. أما القسم الثالث فقد خصّص لدراسة نماذج من الفقهاء التراثيين، وفقهاء عصر النهضة العربي، في ضوء ما تعرف بـ «صدمة الحداثة» بألسنتهم جميعاً. والتراثيون هم القاضي عبد الجبار المعتزلي، وأبو حامد الغزالي، وابن تيمية، والفارابي. وفي عصر النهضة يعرض آراء محمد بن عبد الوهاب، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي. وتناول الجزء الرابع الحداثة في مجال الشعر العربي من خلال مجموعة مقالات متتابعة.

افتراض الكمال

بذلك يكون أدونيس قد فرّق، فكرياً وليس زمنياً، بين الحداثي والسلفي. ففي التراث ثمة عناصر حداثية مرتبطة بالتحول، وفي المعاصرة ثمة عناصر سلفية مرتبطة بالثبات. فالسلفية لديه هي «امتداد للثبات، ينطلق من افتراض الكمال في المعرفة بالنص والنقل، بحيث لا يعود للحداثة معنى في لغة حققت إبداعها الأكمل، الذي لا يمكن تجاوزه، وبذلك تنتفي الحاجة إلى الفكر الآخر، وإلى الابتداع معاً... وما يحتاجه المجتمع هنا هو جعل الماضي حاضراً باستمرار. أما الحداثة فهي «امتداد للتحول، تنطلق من افتراض نقص أو غياب معرفي في الماضي، ويعوض بنقل فكر ما ومعرفة ما من هذه اللغة الأجنبية أو تلك، وإما بالابتكار والإبداع... ولذا فهي قول المجهول وقبول بلا نهائية المعرفة». ويرى أدونيس أن السلفيين ينزلقون إلى نوع من «العرقية المركزية» تشابه «النزعة المركزية الأوروبية»، فهم يرون أن الأمة الإسلامية، مركز العالم بوصفها تحمل خاتمة الرسالات، وأكملها، ومن ثم يرفضون الآخر، مثلما يرى بعض الأوروبيين أن قارته هي المركز الحضاري للعالم أجمع، وينكر على الآخرين إسهامهم الحضاري الراهن، أو حتى الماضي، الذي أثر في أوروبا ذاتها، واندمج في بنيتها الحضارية. ولا يقصر أدونيس الحداثة على ما يقدمه الغرب راهناً، بل يبحث عن أصولها في تراثنا وتاريخنا العربي ـ الإسلامي، من خلال تتبعه لثلاثة عناصر أساسية تشكل الرؤية الحداثية وهي الحرية الإبداعية من دون قيد، ولانهائية كل من المعرفة والكشف، والاعتراف بالاختلاف والتعدد.

في قراءته لأصول الاتباع والثبات في «الخلافة والسياسة»، ينطلق أدونيس من واقعة «السقيفة»، التي أعقبت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، إذ ظهر خلاف بين المهاجرين والأنصار حول من يخلف النبي في إدارة دفة الحكم. وفي نظره أخذ هذا الخلاف ثلاثة أشكال، الأول يستند إلى أولوية دينية خالصة وهو أحقية الأنصار لأنهم الأسبق للإيمان بالإسلام ونصرته، والثاني يستند إلى أولوية الدين والقبيلة معاً وهو أحقية قريش لأنها عشيرة الرسول، والثالث يستند إلى أولوية قبلية ويقوم على تعدّد الإمارة. ومن ثم نشأت سلطة الخلافة في مهد سياسي - ديني – قبلي... وقدمها أصحابها على أنها مستمدة من الله... وكما أن العصبية عنف باسم القبيلة، فقد أصبح الإجماع عنفاً باسم الجماعة، والسلطة عنفاً باسم الدين. وجاءت الخلافة الأموية لتسوغ ممارساتها على أساس أنها «نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا»، وادعت أنها «الإمامة الكبرى» و{الأصل الجامع» لذا فإن كل خروج عليها، هو خروج على الإسلام. وبات الصراع بين الفئات التي سيطرت على السلطة، وتلك التي غلبت يدور في جوهره حول فهم القرآن الكريم والسنة النبوية. وبينما تمسكت الفئة الغالبة بما استقر، راح المغلوبون يطرحون فهماً جديداً للإسلام، يلائم حياتهم وحاجاتهم وطموحاتهم. ومن ثم كانت رؤية هؤلاء تعبّر عن التحوّل في المجتمع الإسلامي، وعلى النقيض عبرت أفكار من بيدهم السلطان عن الثبات.

أما الاتباعية في السنة والفقه، حسبما يرى أدونيس، فيمكن أن نلمسها في مواقف عدة، بالنسبة الى أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، فالأول ظهرت اتباعيته في أول خطبة ألقاها على المسلمين بعد تولّيه الخلافة، وفي إتمام بعثة أسامة بن زيد التي كان قد أعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأديب الروم، وفي حروب الردة. والثاني اقتدى بالرسول في إدارة معركة اليرموك، وفي التقشف والزهد ورفض الظلم. ويؤكد أدونيس أن الاقتداء بالسنة رافقه حركة للتفقه بها ومعرفتها، وكان ينظر إلى من يحفظ أكثر من القرآن والسنة على أنه الأعلم. ويكشف تاريخ الاقتداء بالسنة أن محاكاتها كانت تامة في ما يتصل منها بالعبادات، بينما ساد الرأي في ما اتصل بالسياسة.

تجلت الاتباعية في الشعر والنقد، من خلال توظيف الإسلام للشعر كأداة أيديولوجية لمحاربة أفكار الجاهلية. فالرسول صلى الله عليه وسلم حافظ على النواة الأساسية لدور الشعر في القبيلة، وعلى العلاقة التي تربط الشاعر بقبيلته، غير أنه أعطى هذه النواة مضموناً جديداً، فنقل دور الشعر من إطار «الفضائل القبلية» إلى «الفضائل الدينية»، وحول العلاقة بين الشاعر والقبيلة إلى علاقة بين الشاعر والدولة الإسلامية. من هنا بدا الشعر فاعلية أخلاقية اجتماعية ترتبط بعقيدة الدولة ومصالحها، لذا لا ينظر إليه لذاته، أي لجماله وفتنته، وإنما إلى ما يحمله من أفكار، وما يفيد به المجتمع، وقد تبنى الصحابة موقف النبي حيال الشعر.

بالنسبة الى الإبداع أو التحوّل فيرى أدونيس أنه كان كامناً في الحركات الثورية والفكرية والشعرية. وفي ما يخص الأولى، يحدّد بدايتها في نواة معارضة السلطة التي نشأت في عهد الخليفة عثمان بن عفان، على أيدي المحرومين والمبعدين. وفي المقابل نشأت نواة من المدافعين عن السلطة من بين المنتفعين منها. ومن هنا برز حضور السياسة في حياة المسلمين، أكثر من أي وقت مضى. وغذّت الأوضاع الاقتصادية هذا الحضور، إذ انقسم المجتمع إلى فئتين، مستغلّة تقف إلى جانب الحكم، ومستغلّة يقصيها هذا الحكم، فلا تجد مفراً من مناهضته. وهنا برز اتجاهان، الأول يتخذ من القرشية والسنة والجماعة أساساً مطلقاً، والثاني، يتلمّس مصالح الناس وحاجاتهم أساساً، من دون أن يهمل السنة والقرشية، لكنها ترى أن الأحقية لا تنبع من مجرد اتباع السنة، أو من مجرد القرشية، وإنما من تفهّم حاجات الناس، والسعي إلى الحكم بالعدل.

واستمر هذا الزخم في عصر بني أمية، فازداد جهد أبي ذر الغفاري في مناهضة التفاوت، والانتصار لإنسانية الإنسان، فكان هو، في رأي أدونيس، الذي «وضع اللبنة الأولى في بناء العدالة والمساواة بناء نظرياً، ومن هذه الناحية كانت مواقفه وآراؤه بذرة تفتحت عن الحركة الثورية من جهة، وعن الحركة التأويلية العقلية، من جهة ثانية». ونشأ الخوارج فشككوا في نظرية الإمامة أو الخلافة، سواء من ناحية القرشية أو الطاعة. ووضعوا بدلاً من ذلك نظرية خلع الإمام الجائر، واستعاضوا عن مبدأ القرشية بالجدارة، وساووا بين المسلمين كافة في تولي الإمامة. وجاء علي ابن أبي طالب ليشدد على «الجهد والطاقة» في متابعة القرآن والسنة، ولم يعطِ اهتماماً للنسب القرشي، وأكد مبدأ المبايعة العلنية، ورفض الالتزام الحرفي بما فعله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب.

ووفرت الحركات الثورية التي أخذت تنشأ منذ السنة الأربعين للهجرة فرصة قوية لظهور الكثير من عناصر «التحول»، حيث لم تتوقف الجماعات التي عارضت حكم بني أمية، والتي كانت رموزها بحسب الترتيب التاريخي، سليمان بن صرد، وقيس بن سعد بن عبادة، وحجر بن عدي، ومختار الثقفي، وصالح بن مسرح التميمي، ومطرف بن المغيرة، وعبد الرحمن بن الأشعث، وزيد بن علي بن الحسين، والحارث بن سريج، وأبو حمزة الخارجي، وأخيرا أبو مسلم الخراساني، الذي جاء على يديه بنو العباس إلى الحكم. وكان «مقتل الحسين بن علي مرحلة حاسمة انتقلت فيها المعارضة من النظر إلى العمل». ومن الأمور التي يجب ذكرها في هذا المقام أن هذه الحركات جميعها، كانت تنادي بالعودة إلى صحيح الدين الإسلامي، لمقاومة طغيان بني أمية، وإقامة العدل الاجتماعي. وكانت كلّ منها تحرص على أن تبدو أنها الأشد تمسكاً بالسنة والجماعة، والأكثر بعداً عن البدع. وكرست هذه الحركات مبدأً مفاده أن نقد المجتمع وتغييره لا يمكن أن يتما إلا بالممارسة العملية الثورية، وفي هذا كانت هي بمثابة نفي السائد، والتطلع إلى ما هو أفضل، ورفعت من منزلة التحقيق على حساب التبشير في الرؤية الإسلامية، ومن هنا أصبحت كيفية تحقق الدين، أي كيف يتحقق الإنسان، الذي نادى به الدين، هي التساؤل الذي أخذ يشغل الناس.

نزاع المعاني

يقول أدونيس إنه بالتوازي مع النزاع في المجال السياسي، وما يتصل به، نشأ نزاع في المعاني، وما يرتبط بها، ورافقت الحركات الثورية حركات فكرية. فالخوارج قرنوا النظر بالممارسة، ووحدوا بين الإيمان والعمل. والمرجئة نادوا بأن يكون الحكم على الإنسان أو له، وعلى العالم أو له، لله وحده، وليس للإنسان، الأمر الذي يعني ضرورة التخلّي عن الجدل حول تحديد المؤمن والكافر، وتوجيه الناس إلى الاهتمام بشؤون الحياة اليومية. وكان هذا يعني، بالنسبة الى أدونيس، ثورة على ما أسماه «الإسلام الشكلي والظاهري». وظهر مناهضو الجبرية، التي استند إليها نظام الحكم الأموي ليسوغ استبداده. وفيما أكد الحسن البصري حرية الإنسان، نشأت في مناخ التشيع «نظرية الإمامة» التي استعاضت عن القياس والرأي بعلم الإمام، الذي هو في نظرهم علم لدني يقوم على التأويل وقراءة الباطن وما في الآفاق والأنفس، ما يرشّح الإمام، في نظرهم، للولاية، التي تعني سياسة الدنيا، بتفويض إلهي لا يجعل الإمام مستقلاً تماماً، لكنه معصوم من الخطأ.

يتمثّل التحول الذي أسسته الحركة الشعرية في التمرد على «النموذج الأخلاقي»، والخروج على نموذجَي المعاني والتعبير، ومعارضة السلطة الحاكمة. ويعطي أدونيس أمثلة لشعراء مثّلوا هذا الاتجاه، مثل أمرؤ القيس، الذي تمرد على نظام القبيلة وقيمها السائدة، وخرج عن أساليب المعاني والتعبير التي كان يعرفها الشعر الجاهلي، وثمة عروة بن الورد الذي تمرد على القرابة الدموية أو القبلية وأكد الاحتفاء بالإنسان، بغض النظر عن لونه أو جنسه أو فقره وغناه. ويوجد كذلك شعراء الخوارج، الذين أعطوا الشعر مضموناً أيديولوجياً حيال الدين والسياسة، مثل عمرو بن الحصين، وحبيب بن خدرة الهلالي، وزياد الأعسم. وهناك من تمرد بشعره على النظرة التقليدية الى المرأة مثل عمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر.

في تصوّره لتأصيل الاتباع أو الثبات، يتّخذ أدونيس من الشافعي، في الفقه، والأصمعي والجاحظ في الأدب، مثالاً على ذلك. فالشافعي، في نظره، كان يتعامل مع كل تفكير لا يكون اتباعاً للسنة النبوية على أنه «هذيان» وكل بحث عقلي على أنه «تردٍّ» وكان يمقت ممارسة علم الكلام، بدعوى أنها دليل على التجرد من الدين، وينظر إلى الإنسان على أنه شخص مكلف ووجوده في الدنيا اختبار له، لذا يجب أن يكون مطيعاً على الدوام، الأمر الذي يعني أن الحرية بمثابة عصيان وتفلّت. أما الأصمعي والجاحظ، فقد تصوّرا أن كل جديد هو تنويع على القديم، أو ترميم له، أو إعادة إنتاج له، بشكل أو بآخر. ومن هنا صار لديهم الفكر هو تأمل الذات لنفسها، وبدا العرب لا يعرفون من الفكر إلا بعده الغيبي، أي الدين، ومظهره البياني، أي اللغة. وهذا الاتجاه يعبر عن ثقافة سلفية، ويكرس النظام السياسي والاجتماعي القائم.

أما تأصيل الإبداع أو التحوّل، فيرى أدونيس أنه يتمثل في ثورة الزنج (255 هـ ـ 270 هـ ) والحركة القرمطية (بدأت سنة 264 هـ)، فالأولى كانت، في تقديره، ثورة عبيد على أسياد، ووعدت هؤلاء العبيد بحياة كريمة يمتلكون فيها ملك أسيادهم. والثانية، التي انتشرت في البحرين واليمن ومصر والمغرب، كانت نوعاً من العمل الجماعي لتوليد الشروط المادية الملائمة لحياة الإنسان، وهي شروط كانت تبدو عارضة أو كانت لا تتعدى كونها هبة من الخلافة العباسية. وقد دعا القرامطة إلى خلع الخليفة الجائر، ونادوا بإسلامية العروبة وليس عروبة الإسلام، ووحدوا بين النظر والممارسة، من خلال اتخاذهم الطبقات المسحوقة قاعدة اجتماعية ومادة أساسية للعمل السياسي - الديني، وانتهاجهم أسلوب الملكية الجماعية «الإلفة»، وأعطوا الدين بعداً مادياً اقتصادياً، فكانوا بذلك في رأي بعض المستشرقين، أول من وضع بذرة العمل النقابي في العالم الإسلامي.

ابن المقفع

يتجلّى التحول، من وجهة نظر أدونيس، في ما أسماه «المنهج التجريبي وإبطال النبوة»، ويجد هذا المنهج في أعمال ابن المقفع، التي خلت من أي عنصر للتدين، وركزت على الأدب الخالص، وآراء ابن الراوندي، الذي قال بأن العقل أصل العلم والعمل، وبذلك قدم العقل على النبوة، وكذلك آراء محمد بن زكريا الرازي، الذي اعتبر، هو الآخر، أن العقل أصل المعرفة، ما يفرض ضرورة أن يكون متبوعاً وليس تابعاً. كذلك، وجد أدونيس في المنهج التجريبي العلمي لجابر بن حيان، الذي يقيس الغائب على الشاهد، ويقوم بإحلال النسب الكمية محل الخواص الكيفية في تفسير أي مظهر من مظاهر الوجود، دليلاً على التحول والإبداع، في التاريخ الفكري العربي. وعلى العكس من الأصمعي والجاحظ، اعتبر أدونيس أن أبا نواس وأبا تمام أقاما أسس الجديد في الشعر العربي، إذ لم تكن الكتابة بالنسبة إليهما تنويعاً على القديم أو ترميماً له، إنما إبداع ذو طابع مغاير، ومثلت بالنسبة إليه «الصوفية» بتأكيدها على الحقيقة في مقابل الشريعة، وتركيزها على طوية الإنسان وحريته في إقامة علاقة خاصة مع ربّه، مصدراً من مصادر التحول.

ولا يكتفي أدونيس بتحديد الثابت والمتحول في التراث العربي - الإسلامي القديم، بل ينتقل إلى عصر النهضة العربي، ليدرس استمرار هذه المسألة لدى كل من نحمد بن عبد الوهاب، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وعبد الرحم الكواكبي. وفي رأيه فإن آراء ابن عبد الوهاب ليست سوى استعادة لما قاله الفقه الإسلامي القديم بشروحه وتفاسيره، وأن ما فعله لا يعدو كونه تبويب أو تصنيف هذا القديم، وأن عرض ابن عبد الوهاب للتوحيد، الذي يمثل الفكرة المركزية لديه، أظهر أنه يقلل من شأن الإنسان في هذا العالم. أما الإمام محمد عبده، فهو في نظر أدونيس، صاحب رؤية إسلامية متجددة وتوفيقية. ويتجلى التجدد عموماً في أنها تستند إلى القرآن مفسراً بمقتضى حالة العصر، وخصوصاً في نفي محمد عبده أن تكون في الإسلام سلطة دينية، وأن الحاكم في المجتمع الإسلامي هو حاكم مدني من جميع الوجوه، إذ إن الأمة هي التي تنصِّبه وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وأنه إذا تعارض العقل مع النقل أخذ بما يدل عليه العقل. أما التوفيقية فتظهر في تأكيد الإمام أن مدنية السلطة في الإسلام لا تتنافى مع وجود الشرع.

وفي رؤيته التفسيرية التي تقوم على نقد الجاهلية السائدة اليوم في فهم الدين، وتفسيره القرآن بما يلائم ارتقاء المجتمع، أي التوفيق بين الوحي والتاريخ، بهدف السيطرة على التقدم المادي وتوجيهه لخدمة الإنسان في روحانيته خصوصاً.

أما رشيد رضا، فإن خير ما يعبّر عن توجهه، في رأي أدونيس، هو ما وصف به هو نفسه تفسيره للقرآن الكريم، حين قال إن هذا التفسير (سلفي، أثري، مدني، عصري، إرشادي، اجتماعي، سياسي). من هنا ينطلق رشيد رضا من أصل الإسلام وحياً وسنة ليتفقّه في المشكلات المعاصرة، التي ولّدتها غالباً مجابهة العالم الإسلامي للغرب. ولا ينادي رضا بتجديد الإسلام إنما فهم المشكلات في ضوئه، بما هو وكما هو، وبذلك يكون الوصول إلى النهضة أمراً يسيراً وهو العودة إلى الإسلام الصحيح. من هنا تكون هذه الرؤية الفقهية امتداداً للسلفية التي أرسى دعائمها الإمام أبو حامد الغزالي، ووضعها ابن تيمية في منظومة محكمة ومغلقة.

back to top