30 عاماً على رحيله أحمد رامي... شاعر الذل العالي
تمرّ هذه السنة الذكرى الثلاثين لرحيل «شاعر الشباب» المصري أحمد رامي (1892- 1981 ) ولا تزال أشعاره تشغل النقاد، خصوصاً تلك التي كتبها للسيدة أم كلثوم، فالأمر تخطى أن تغني «ثومة» من كلماته الى حديث عن حب مستحيل كان يجمعهما ويتجلى ذلك من خلال مسيرتهما... فأم كلثوم كانت تغني «الحب المتعالي» والسرمدي، ورامي كان يلمّح إلى «ذلّه» العالي في مسيرة الحب.القصة بين أم كلثوم ورامي شائكة وطويلة، كقصة «كوكب الشرق» مع معظم الفنانين من أبناء جيلها، سواء أسمهان التي قُتلت في ريعان شبابها أو محمد عبد الوهاب الذي تدخّل عبد الناصر ليجمعهما في أغنية «إنت عمري» أو القصبجي أو نور الهدى... على أن علاقة أم كلثوم برامي كانت أكثر درامية ووضوحاً، وقد بدأت وهما في سن الشباب (التقيا عام 1924 وكانت أم كلثوم في السادسة والعشرين وكان رامي في الثانية والثلاثين)، فلماذا لم يتزوجا؟
لا يُنكر أحد أن رامي كان مولعاً بأم كلثوم، فالروايات كافة تُجمع على أنه كانت لها في قلبه مكانة خاصة. وإذا تركنا هذه الروايات جانباً، وجئنا الى الأشعار العاطفية التي غنتها أم كلثوم له، وهي كمّ هائل، إذ تبلغ 137 قصيدة من 283 قصيدة هي أغاني أم كلثوم كافة، تأكدت لنا هذه المكانة الخاصة. فالواقع أن رامي كان ينظم أو كثيراً ما نظم مشاعره وأحاسيسه تجاهها، وليس تجاه أي معشوقة أخرى. رامي في قصائده هذه، وبحسب المطلعين، كان عاشقاً فعلاً. لكن هل بادلته أم كلثوم عشقاً بعشق؟ الراجح أنها لم تكن تحب إلا نفسها، وحتى حين تزوجت لم يشعر أحد بزوجها، إذ لم يكن الزوج بالنسبة إليها أكثر من مجرد ظل، حضوره وغيابه لا يؤثران على حياتها وعواطفها ومسيرتها.يلاحظ الناقد الراحل رجاء النقاش أن صالح جودت يثير قضية مهمة جداً تناولها كثر من الباحثين والنقاد والدارسين لأشعار أحمد رامي في الحب، وقد غرق الأخير في تصوير هذه العاطفة إلى الحد الذي جعله يقول في أغنية معروفة له: عزة جمالك فين/ من غير ذليل يهواك. وبحسب النقاش، فإن الذين يفهمون رامي على حقيقته، يعرفون أن فيه نزعة «صوفية» عميقة، لذلك فإن كلمة الذل هنا تحمل معنى التواضع والرفق والحنان وهي أشبه بلغة أهل التصوّف، ذلك لأن الأخير قد تجرّد من كل شيء ليكون خالصاً لعاطفة الحب الإلهي، وقد أثارت قصيدة رامي حملة عليه اتهمته بأنه شاعر الضعف والتخاذل والهوان في الحب. وثمة نقاد اعتبروا رامي في منطقة ما بين «الصوفية» و{المازوشية». وقد ذاق الحب فعرف وتوحّد مع المحبوب، ما وضعه في أعلى مراتب الصوفية. لكنه في الوقت نفسه وضع نفسه ربما مرغماً وغالباً راضياً في بؤرة الحرمان، فصار يستعذب الهجر والصد، بل ويستعذب العذاب ذاته، ما جعله أحياناً في صورة «المازوشي» الذي يستعذب الألم ويقتاته.من دون شك، أخذت أغنية «من غير ذليل يهواك» نقاشاً مستفيضاً في الوسط الثقافي والفني، وصارت عنواناً عريضاً في حياة «شاعر الشباب»، خصوصاً بعد رفض أم كلثوم الزواج منه. ومع ذلك بقي يكتب لها ويعيش «حباً مستحيلاً»، نلاحظ فيضه من خلال أشعاره الرومنسية، هذا ما تبيّنه أيضاً رواية «كان صرحاً من خيال» للروائي اللبناني الأصل سليم نصيب الذي كتب قصة حب رامي لـ{ثومة». ومن دون شك أيضاً، تختلف الآراء في تفسير العلاقة بين الشاعر وصاحبة الصوت، فيعتبر الكاتب مصطفى أمين (أحد أقرب المقربين من أم كلثوم) أن رفضها الزواج من رامي أجّج عواطفه. ولو كان هو الذي رفض الزواج لما استطاع أن يكتب كلمة واحدة مما كتب، إذ أين هي دوافعه وعذاباته ما دام الرفض جاء من جانبه هو؟ كيف يمكنه أن يكتب مثلاً: «ما بين بعدك وشوقي إليك، وبين قربك وخوفي عليك دليلي احتار وحيّرني. تغيب عني وليلي يطول، وفكري في هواك مشغول، أقول انني وأنت حَ نتقابل مع الأيام. ولما القرب يجمعنا، أفكر في زمان بعدك. وأخاف يرجع يفرّقنا واقاسي الوجد من بعدك... وبين بعدك وشوقي اليك وبين قربك وخوفي عليك دليلي احتار وحيّرني»؟ ويضيف أمين (بحسب كتاب «55 شخصية في قلب مصر» لسناء البيسي): «من أين هذه العاطفة الجياشة والحيرة والعذاب الذي يعبّر عنه إذا كان رفض الزواج قد جاء منه؟ من غير المنطقي أن يكون رفضه نابعاً من خوفه على إلهامه لأن إلهام الشعر ما كان يأتيه إذا كان يصطنع العذاب والمعاناة؟ من أين له أن يقول في أغنية أخرى: يا قاسي بصّ في عينيّ، وشوف إيه انكتب فيها، دي نظرة شوق وحنيّة، ودي دمعة باداريها، وده خيال بين الأجفان فضل معايا الليل كلو، سهرني بين فكر وأشجان، وفات جوّه العين ظله، وبين شوقي وحرماني، وحيرتي ويّا كتماني، بدّي اشكيلك من نار حبيّ، بدّي احكيلك عا اللي في قلبي... هل يمكن أن يقول الشاعر هذا الكلام، ويعبّر عن ذلك العذاب الذي يعانيه ويعاتب حبيبته بهذه العاطفة والأشواق إذا كان الرفض جاء من جانبه هو؟».لكن الصحافية سناء البيسي لا تقتنع بوجهة النظر هذه، فترد على مصطفى أمين: «أني لمست من عذابات رامي أنها كانت موضة العصر والموروث في الشعر العاطفي في العالم كله: الحبيب الذليل عندما يبكي عند قدمي حبيبته التي تتأبى عليه اعتزازاً بجمالها ورغبة في فرض سلطانها: عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك. هو النموذج السائد، والقالب الذي يصوّر الحبيب جمرة من نار شديدة الاشتعال، ويقدّم الحبيبة بوصفها كتلة ثلج لا يذوب ولا يعطف ولا ينعم بالوصال، والحبيب الغلبان راض بناره، سعيد بألمه، غير قابل لأي نصح من صديق أو عذول، وحتى من الحبيب نفسه». رامي من هذا المنطلق، أي بأخذه قالب الذل، كان يتخذه لقول الشعر ليتماشى مع الموضة فحسب، وإلا لما كتب أغاني لأسمهان المنافسة لأم كلثوم، وليلى مراد الصوت الجميل، ولا لمحمد عبد الوهاب المنافس آنذاك الذي له كل الثقل ليغنيّ ويردد الجميع من ورائه: «الميّة تروي العطشان، وانسَ الدنيا وريح بالك، ومشغول بغيري وحبيته». الناقد رجاء النقاش ذكر في كتابه «لغز أم كلثوم» أن «كوكب الشرق» كانت «تدير» قصة الحب العجيبة بينها وبين رامي. لقد أدركت بعبقريتها، ومنذ البداية، أن رامي «نبع صاف» من الفن الرقيق العذب، وأدركت أن اشتعال عواطفه هو «المحرك» الأساسي لفنه، فأشعلتها، لكن من دون أن تحترق هي. كانت أم كلثوم لا مجرد مغنية ذات صوت ساحر، بل صاحبة مؤسسة فنية تملك فرقة موسيقية اسمها «فرقة أم كلثوم»، وكانت لهذه المؤسسة علاقات فنية تجارية مع ملحنين وشعراء وعمال فنيين آخرين. كان رامي أحد المتعاملين مع هذه المؤسسة. ولا شك في أنه كان متعاملاً كريماً له مقامه الخاص. فهو شاعر، أي أنه كان واحداً من النخبة المثقفة في هذه المؤسسة. وكانت لهذا الشاعر «علاقة خاصة» مع السيدة صاحبة المؤسسة. كانت له زيارة أسبوعية الى منزلها يتحدثان خلالها في الأدب والشعر وفي أمور أخرى. وكان يزودها بالكتب الأدبية ودواوين الشعراء القدامى والمحدثين. وكان يشرح لها ما ينغلق عليها من نصوص، أو يشاركها في اختيار بعضها. ولا شك في أنه احتفظ لها على الدوام بمقام عالٍ في قلبه، وأنه رغب في عدم مفارقتها، وقنع بحظه ونصيبه معها، وأنه كان سعيداً بذلك، مثله مثل الملحن محمد القصبجي الذي، على رغم معاملتها الفظة له في الأربعين سنة الأخيرة من حياتها، لم يتركها أبداً.العمود الفقريأجمع الذين كتبوا عن رامي على أن الحرمان كان العمود الفقري لتجربته. كتب الشاعر صالح جودت، وكان أكثر الناس قرباً والتصاقاً برامي: «رامي ضد المتعة... ضد اللوكس... أوضة نوم في بيته ما زالت بعفشها الذي تزوج به - مكتب قديم مكسور الرجل... والفونوغراف أبو بوق. والسرير يئن ويزوم تحت جسد رامي النحيل وينذر بالانهيار. كلها يحتفظ بها بمعزة لأنها تذكره بأيام متعته: أيام الحرمان». الصادم أن البدايات كافة لم تكن تنبئ أو تؤدي إلى أي نوع من أنواع الحرمان في حياة أحمد رامي المتحدّر من أصول تركية: فجدّه لوالده الأميرالاي التركي حسين بك عثمان، ووالده الطبيب رامي حسين عثمان الكريتلي وأمه سيدة مصرية من عائلة عريقة. لكن «جينات الإبداع» في خلايا رامي كان لا بد من أن تحمل معها (قدر المبدعين) من جينات الحرمان. فقد ذاق اليتم وله أبوان... إذ ولد في أغسطس (آب) 1892 في بيت عريق في حي الناصرية على مقربة من حي السيدة زينب في القاهرة، وكان أبوه آنذاك طالباً في مدرسة الطب وشغوفاً بالفن والأدب، فكانت تجتمع في بيته كوكبة من أهل الفن والأدب، وبعد تخرجه في كلية الطب أصبح مطارداً باضطهاد رؤسائه الإنكليز فأنفق عمره مشرداً بوظيفته. إذ عينه الخديوي عباس الثاني طبيباً لجزيرة «طاشيوز»، وهي جزيرة صغيرة تابعة لليونان عاش فيها شعراء الإغريق العظام مثل هوميروس وهيرودوس، وكانت ملكاً خاصاً لعباس الثاني قبل أن تستردها اليونان بعد ذلك.ذهب رامي إلى تلك الجزيرة وعمره سبعة أعوام، وأمضى فيها سنتين لتتفتّح مسام خياله على غابات اللوز والفاكهة والبحر واللعب بين مروج النرجس وليعيش حيث عاش شعراء اليونان الأقدمين. خلال هذين العامين تعلم رامي التركية واليونانية، ثم رجع إلى مصر وحيداً بعدما ترك أبويه في «طاشيوز» ليلتحق بالمدرسة. وأقام عند بعض أقاربه في بيت يقع في أحضان مقابر الإمام الشافعي، فامتلأت نفسه بالحزن والهم والحرمان. عاد الأب من طاشيوز وانتقلت الأسرة إلى بيتها القديم في حي الناصرية، لكن سرعان ما أجبر الأب على الالتحاق بالجيش وسافر إلى مدينة «واو» على بحر الغزال في جنوب السودان. وانتقل أحمد رامي ليقيم عند زوج عمته الذي كان يعمل معاون المدافن الخديوية ويسكن في حوش الباشا المطل على مسجد السلطان الحنفي، ليجد رامي نفسه ممزقاً بين السلوى والحرمان. اعترف رامي بأثر هذه الأيام على حياته قائلاً: «حرمان هذه الأيام البعيدة من صباي هو سر المسحة الحزينة في كل معاني أشعاري». كان رامي يحرص في كل أغنية على التركيز على معنى معين من معاني الحب يتناوله بالعرض والتحليل، إذ رأى أن الأغنية مثل الصورة لا بد لها من إطار محدد، وطالما كان يؤكد أن كل أغانيه تعبير عن مواقف عاشها سواء في الفراق أو لقاء الحبيب. بل كان يؤكد أنه يبكي وهو يغني كي يهيج مشاعره ليعبّر بصدق عن اللحظة التي عاشها.تقديسلم يتزوج رامي إلا في سن الثانية والأربعين، والمفاجأة أن أم كلثوم غنت له في حفلة زفافه «اللي حبك يا هناه». وعلى رغم زواجه كان يردد دوماً: «علاقتي بأم كلثوم لم تكن حباً. إنما كانت تقديساً. ما كان بيننا كان أكثر من الحب». وكان يؤكد أن الحرمان هو أجمل ما في الحب العذري. وقد ارتضى أن يصبح درويشاً يدور في فلك أم كلثوم الصوت والحبيبة. فعندما كان يسمع صوت أم كلثوم كان يصاب بحالة «دروشة»، ووصف نفسه قائلاً: «أبقى مذهولاً ومذهوباً بي...».وإذا كانت أم كلثوم المطربة قد انتصرت على أم كلثوم الإنسانة، فرفضت رامي الحبيب لتحتفظ برامي الشاعر ولتجعل من حبه وقوداً يدفعه إلى كتابة أغانيه العظيمة. إلا أن عطايا أم كلثوم لرامي لم تكن بالشيء الهين، فقد جعلت منه مستشارها الأول، فكانت تأخذ رأيه في كل أمر يخصها وتعرض عليه الأغاني التي يكتبها الآخرون.وإذا كان رامي قد كتب ما يقرب من نصف أغاني أم كلثوم، فقد كتب لها بقية أغانيها 52 شاعراً. كذلك، جعلت «كوكب الشرق» من رامي المستمع رقم واحد لها. فكانت تحرص حتى رحيلها على أن يجلس في حفلاتها كافة في المقعد رقم 8 في الصف الأول. كذلك، صممت على أن يصحبها في رحلاتها داخل مصر وخارجها بعد حرب 67 عندما أحيت مجموعة كبيرة من الحفلات لصالح المجهود الحربي. وفي المقابل لم يكن رامي يغضب من أي تعديلات تجريها أم كلثوم على كلمات أغانيه طالما أنها لا تغيّر في الموضوع، وطالما أنها تتم بالاتفاق معه، خصوصاً وأنه كان على يقين بأنها هي «ديوانه المسموع».عندما رحلت أم كلثوم أصيب رامي بصدمة عنيفة هزت كيانه وأدخلته في حالة انعدام الوزن واعتزل الناس وعاش وحيداً في حجرته التي كان يطلق عليها دوماً «الصومعة»، وعاش في دوامة من التصوف والاكتئاب زادت قسوتها إصابته بتصلّب الشرايين والتهاب في الكلى ورحيل أولاده إلى خارج مصر. إذ سافر ابنه محمد إلى إنكلترا وابنه توحيد إلى أميركا وابنته إلهام إلى ألمانيا. ولم يكن يفرج عنه إلا بعض الأبيات الشعرية التي يكتبها ويناجي فيها ربه مثل:يا إلهي يا خالقي سبحانكإن في طاهر القلوب مكانكجئت أسعى إلى رحابك أدعوولساني مرتل قرآنكلم يتحدث رامي إلى الصحافة بعد رحيل أم كلثوم إلا مرات قليلة جداً، انتقد فيها بعنف حال الأغنية موضحاً: «موسيقانا الآن كرجل صعيدي بجلباب بلدي، لكنه يرتدي برنيطة أمريكاني والأغنية الآن كالبطيخة الماوي فيها مياه وكبيرة الحجم وليس لها طعم». قال أيضاً: «الأغنية فقدت الكلمة الحلوة والمعنى الجميل وأصبحت ألفاظها سوقية مكشوفة ومعانيها مبتذلة تافهة وخرجت عن إطار الروحانية وسقطت في أوحال المادية الحسية».