محمد بيومي... الرائد الأول
رائد السينما المصرية الكبير محمد بيومي ابن جيل وُصف في مصر بأنه «جيل التنوير»، وكان جديراً الاحتفاء بمئوية رموزه المضيئة في المجالات كافة: الأدب والفكر: طه حسين، عباس العقاد، توفيق الحكيم وبيرم التونسي. العلوم: علي مشرفة. الموسيقى: سيد درويش. التشكيل: محمود مختار، محمود سعيد، يوسف كامل، محمد ناجي، راغب عياد وغيرهم. السينما: محمد بيومي رائد الفن السابع في مصر والشاعر والفنان التشكيلي الذي كان له إسهامه الفذ فيه كإسهام القادة الوجدانيين العظام في المجالات المختلفة. وقد صدرت منذ أيام الطبعة الجديدة لكتاب «محمد بيومي الرائد الأول للسينما المصرية» (أحد أهم الكتب السينمائية)، تأليف الدكتور محمد كامل القليوبي. أخرج القليوبي سابقاً فيلماً تسجيلياً طويلاً، بالغ التميّز بعنوان «محمد بيومي ووقائع الزمن الضائع»، وله الفضل الكبير في اكتشاف أفلام بيومي المفقودة... يقول في كتابه: «إن أفلام محمد بيومي تعدّ الأساس الذي قامت عليه السينما المصرية، فهي لا تعطي إجابة عن طبيعة البداية فحسب، لكنها تعبّر عن النموذج الذي حاول أول سينمائي مصري تقديمه على المستويين الفكري والفني».
وتوضح «فيلموغرافيا» محمد بيومي التي ينفرد بها هذا الكتاب وأعدّها المؤلف بجهد ملحوظ، أمرين مهمين:تنوّع ممارسة بيومي السينمائية بين الفيلم التسجيلي والفيلم الروائي والجريدة السينمائية، وأهمية الموضوعات التي تعرّض لها وطبيعة الفهم المتقدّم على مستوى العالم للسينما... يعكس حرص بيومي على المواكبة الدقيقة للأحداث الوطنية الكبرى التي صوّرها في أفلامه التسجيلية ورصدها، رؤية صاحبها لوطنه وللعالم، فلم يرَ مصر السياحية بعينين أجنبيتين مغتربتين، إنما رأى الجانب الوطني الخالص في تاريخ بلاده، وكانت الكاميرا بالنسبة إليه العين - الذاكرة والشاهدة على الأحداث، على حدّ تعبير القليوبي. وذلك يتجلّى في أفلامه التي تسجّل: استقبال سعد زغلول لدى عودته من المنفى، افتتاح مقبرة توت عنخ آمون، إطلالة سعد على مهنئيه بالوزارة، خروج عبد الرحمن فهمي من السجن، جنازة سعد زغلول، استقبال النحاس باشا ووفد المفاوضة ووداعهم، نقل أعمدة مسجد المرسي أبو العباس، عودة المحمل الشريف مردوداً بسبب الخلاف مع ملك الحجاز... وهنا نؤكد نقاطاً أو أبعاداً، اشتمل عليها الكتاب وتميزت برؤية تتسم بالموضوعية مع روح الحماسة المشروعة والمنطقية لسينما الرائد الأول.أولاً: لم تكن أفلام بيومي التسجيلية مجرد تسجيلات نادرة لأحداث مهمة، إنما شكلت رؤية كاملة وموقفاً يتضمن فهماً لطبيعة الأداة (الوسيط) المستخدمة، وهي السينما، وفهماً لدورها ولدوره هو كشخصية وطنية فاعلة.لم تعرف السينما، التي بدأت كاختراع سحري ثم تحوّلت تدريجاً إلى فن قائم بذاته، رائداً في أي مكان من العالم مثل محمد بيومي، ولم يحدث أن بدأت السينما في أي بلد أولى خطواتها على يد أول سينمائي من مواطنيها في تسجيل استقبال بطلها القومي وسط الحشود الشعبية عائداً من المنفى الذي أرسلته إليه قوات الاحتلال.ثانياً: تبرز أفلام بيومي الروائية مثل «برسوم يبحث عن وظيفة»، «الباشكاتب»، «خطيب نمرة 13» (1933) أطول هذه الأفلام الذي عثر عليه القليوبي كاملاً، تأثيرات كبيرة من السينما العالمية آنذاك واستيعاباً نظرياً وفكرياً عالياً يتجاوز القدرات الحرفية، وعلى نحو مدهش نجد تمازجاً بين التعبيرية الألمانية في السينما وفواصل شارلي شابلن الكوميدية الساخرة في أعماله المبكرة في الفترة نفسها... ويقدم فيلم «برسوم يبحث عن وظيفة» صياغة نادرة ومزيجاً لأمور واتجاهات يفترض أنها لا تلتقي على الأقل نظرياً... مع ذلك التقت في هذه الكوميديا المريرة ذات الأبعاد التي تتجاوز الاسكتشات والفواصل التقليدية التي كانت سائدة آنذاك وما زالت تشكّل، لغاية اليوم، صياغة الأعمال الكوميدية في السينما المصرية.ثالثاً: أبطال أفلام بيومي الروائية في معظمهم من الفقراء والمتسكّعين، بدءاً ببرسوم والشيخ متولي، مروراً بالباشكاتب ثم زعزوع وزعتر في «الخطيب نمرة 13»، إلى الفلاحين كما في فيلمه الروائي الأخير «ليلة في العمر». يجمع بين تلك الشخصيات عاملان مشتركان: الوضعية الطبقية على أسفل السلّم الاجتماعي، الرغبة والشهوة الجامحة للحياة التي يفكّ الإسار عنها محمد بيومي، هذا العاشق الولهان للحياة والمفعم بها، لتنطلق في كل مسار وإلى أقصى درجاتها، من دون عوائق أو محاذير، وقد برهن بيومي عن عشقه هذا في السينما والفن التشكيلي والشعر الذي كان ملاذاً خاصاً، إلى جانب عشقه للوطن الذي كان قضية حياته وملاذه الأول والأخير.