بين حمم الكلمات الهابطة و لهب الكلمات الراقية الأغنية تشقّ طريقها بصعوبة

نشر في 12-01-2011 | 00:00
آخر تحديث 12-01-2011 | 00:00
هي مرآة تعكس الواقع حيناً وتحاكي الخيال حيناً آخر، من خلالها قد يتحوّل الكاتب الى عاشق ولهان أو عشيق ثائر أو بطل من أبطال التاريخ أو شخصية خيالية أو ثعلب ماكر أو مراهق في ربيع العمر، ومعها قد تصبح المرأة ملكة أو خادمة، مسالمة أو خطيرة... هي القاعدة التي تُبنى عليها الأغنية، هي «الكلمة» التي تمسّ آلامنا وتعبّر عن جراحنا الدفينة وحبنا الصادق وعذاب القلب المتألم بنبضاته من غياب الحبيب أو الحبيبة.

حول أهمية الكلمات في نجاح الأغنية ومدى صعوبة إيجادها وتأثيرها في المتلقّي، وأين أصبحت الأغنية الراقية إزاء الأغاني السطحية والتافهة وغيرها من المواضيع... يتمحور اللقاء التالي مع الشعراء نزار فرنسيس، منير أبو عساف، سمير نخلة، سليم عساف، هنري زغيب وفارس اسكندر.

كلمات جميلة، معبِّرة، تطرب الآذان وتنعش القلوب عند سماعها، كلمات ينحني معها الواقع ويرتقي الفن، «لو حبنا غلطة، تركنا غلطانين ما زال عشقانين مع بعض مرتاحين، مين اللي قلك مين عن حبنا غلطة... بدي حبك أكتر بعد بدي أعطي عيونك وعد رح نبقى دايماً لبعض، لولا بكرا تركنا بعض، هي أكبر غلطة...»، وكلمات تتسلّل إلى مسامعنا فتخدشها، مكررة فارغة من المعنى وخالية من بصمات الإبداع، تساهم في انحدار الفن إلى مستويات أقل ما يمكن القول عنها إنها هابطة جداً... {بدي بوسة وين البوسة؟ عطيني بوسة هلق هلق... داب داب قلبي داب عليك شاف شاف كل اللهفة بعينيك ما تقوليلي لأ لأ بدّي بوسة...».

هنري زغيب

يرى الشاعر هنري زغيب، رئيس مجلس المؤلفين والملحنين في لبنان، أن الأغنية تقوم على ركائز ثلاث: الكلمة واللحن والصوت، معتبراً أن ما نسمعه اليوم من كلمات دون المستوى هو «قرف»، يقول: «هذا ليس هبوطاً، هذا «قرف» وهذه كلمات يأباها المجتمع العربي، يبغي أصحابها من ورائها الإدعاء بأنهم يكتبون كلاماً مغايراً».

يضيف زغيب: « أتلقى في مجلس المؤلفين والملحنين ألحاناً مسروقة من ألحان تركية أو يونانية... هذا أيضاً قرف، ويدلّ على أن أصحابها لا يتمتعون بموهبة التلحين، فليبيعوا الفواكه والخضار ويبتعدوا عنا وعن التلحين لأنهم يسيئون إلى المستوى الفني في لبنان. أنا أرفض كل هذه الأعمال كلاماً ولحناً».

تعليقاً على أداء بعض الفنانين يقول زغيب: « معظم الذين يؤدّون الأغاني يتمتعون بصوت مقبول لكنهم يسقطون في سخافة اللحن والكلمات. كذلك تركز الفنانات على الشكل والإغراء الذي يقمن به على المسرح، والشباب على «اللوك» كما يسمونه وهذا سخف. كل هذه الموجة لا بد من أن تزول في وقت ليس ببعيد».

حول الحلّ الأنجع للحدّ من هذه الظاهرة المسيئة إلى الفن يوضح زغيب: «الحل الوحيد هو رفض الناس لها، ومن لا يرفضها يعادل سخفه سخافة هذه الأعمال. أصبحت الأغنية الراقية نادرة إنما هي الأبقى، فثمة أغنيات جميلة ذات معنى تستمر خالدة في الأذهان أما الأغنيات الرائجة فهي كرغوة الصابون تزول لدى وصول أول نقطة ماء عليها».

نزار فرنسيس

منذ وُجد الفن وُجدت أغنيات جميلة وأخرى دون المستوى، في رأي الشاعر نزار فرنسيس، إذاً ليست هذه الظاهرة جديدة، لكن الفارق الوحيد اليوم هو انتشار الفضائيات والوسائل الإعلامية التي تسلّط الضوء أكثر فأكثر على الأعمال السيئة.

يضيف فرنسيس أن على الإعلام ممارسة رقابة ذاتية وتشجيع الفن الأصيل وعدم الاشتراط على الفنان المبدع دفع الأموال للظهور على الشاشات وحصر هذا الأمر بمنتجي الأغاني الهابطة، عندها يجبر هؤلاء على إعادة حساباتهم وتقديم أغنيات أفضل في المستقبل.

يوضح فرنسيس أن الأغنية عبارة عن عمل متكامل متوازٍ في الجودة سواء من ناحية الكلمات أو الألحان أو الصوت الجميل أو الأداء السليم، بالإضافة إلى التقنية أي التنفيذ الموسيقي وطريقة التسويق، وإذا سقط أي عامل من العوامل المذكورة تسقط معه الأغنية بأكملها.

يشدّد فرنسيس على أن العمل، إن لم يكن هادفاً ويحمل في طياته رسالة معينة تصل إلى الناس، يصبح بلا قيمة. رداً على سؤال حول مدى الصعوبة في إيجاد كلمات تتمتع بمستوى راقٍ يجيب: «الشاعر ابن بيئته ويستوحي منها كلماته، فإما أن ترسم للناس أحلاماً يعيشونها أو أن تترجم لهم أحلامهم».

حول رؤيته للحلّ الأنجع للحفاظ على الأغاني الراقية في ظل وجود فقاعة تحتوي على أطنان من الكلمات الهابطة، يقول فرنسيس: «نحن شعب يتغنى بثقافته وحضارته ونمط حياته الجميل، ومجتمعنا ليس بـ «كباريه» بل هو أرقى من ذلك بكثير، لذا علينا ممارسة رقابة ذاتية على أنفسنا عندما نقدّم أعمالاً فنية لأنها كالطير الذي يجوب أصقاع الدنيا».

يتابع فرنسيس: «على الشاعر عدم المسّ بالحرمات إنما احترام مشاعر الناس وعدم خدش آذانهم، وأن يكون ضيفاً محبباً عليهم، فجمال الكلمة بإحساسها ورسالتها».

تعليقاً على أغنية محمد اسكندر «جمهورية قلبي» واللغط الذي أثارته يقول فرنسيس إنها «تليق بالبيئة والمناطق التي استوحى منها محمد اسكندر أغنيته، لا شك في أنها ناحجة لكنها لا تناسب المثقفين وخريجي الجامعات».

سمير نخلة

يعزو الشاعر سمير نخلة، نائب رئيس مجلس المؤلفين والملحنين في لبنان، الانحدار الفني إلى «التجارة» القائمة على الساحتين الفنية والإعلامية، مشدداً على أهمية تكاتف الشعراء والملحنين للحفاظ على مستوى الأغنية اللبنانية لتبقى السبّاقة.

يرى نخلة أن استمرار إنتاج أغانٍ دون المستوى، قد يؤدي، على المدى الطويل، إلى تشويه الذوق الفني لدى الناس ولدى الأطفال خصوصاً، لأن هؤلاء سيعتقدون، عندما يصبحون راشدين، بأن الأغاني الرديئة التي سمعوها هي الفن بعينه وهذا أمر خاطئ، مؤكداً أن مجلس المؤلفين والملحنين يعمل للحدّ من هذه الموجة.

عن أهمية الكلمة وتأثيرها في المتلقّي، يقول نخلة: «الكلمة هي الحجر الأساس، والأغنية من دون كلمة هي مجرد معزوفة، ففي البدء كانت الكلمة». يضيف نخلة: «طبعاً، للكلمات تأثير في المستمع فإن كانت تمسّ مشاعره وأحزانه وأوجاعه فسيعشق الأغنية وإن لم تكن مرتبطة بقصة من قصص حياته فلن تصيبه سهامها وستمّر مرور الكرام».

يوضح نخلة أن ليس لدى الشاعر وقت محدد للكتابة، حين تأتيه الفكرة يسقطها على الورق، «قد تأتي وهو نائم أو في السيارة أو على الطريق وهذا ما يحصل معي في بعض الأوقات».

يتمنى نخلة على وسائل الإعلام أن تساهم في حفظ حقوق الملحن والمؤلف وعدم التعتيم على أصحاب العمل الأساسيين، «في النهاية لا يصحّ إلا الصحيح والأغنية الراقية، مهما طال الزمن، لن تتلاشى بل تزداد قيمتها، أما بالنسبة إلى الأغاني الهابطة فسيخفّ وهجها وتزول مع مرور الزمن».

فارس إسكندر

يؤكد الشاعر فارس اسكندر أن الكلمات الجميلة المعبرة تبقى في الأذهان بينما الكلمات دون المستوى توصل الفنان إلى الفشل. وحول الانتقادات الكثيفة التي تعرّضت لها أغنية «جمهورية قلبي» للفنان محمد اسكندر (من كلمات فارس اسكندر) يجيب: «الحرب المعلنة موجهة بشكل مباشر إلى شخصي، لأنني أقدم أعمالاً ذات مستوى ولقيت القبول والاستحسان».

يتابع اسكندر: «نحن لسنا ضد عمل المرأة أو نيلها الشهادات لكننا ضد التجوازات التي تقع في بعض المؤسسات والأعمال والتي من شأنها المسّ بكرامة المرأة». من هنا يعتبر أن أغنياته تعكس الواقع اللبناني. وحول أغنية الفنان ملحم زين « بدك هنيكِ بهَيدا» يقول: «هيدا آتية من كلمة «هذا»، وتستخدم باللغة العامية اللبنانية، إرتأيت استعمالها لأنها أشد وأقوى وطأة من «هذا» في الأغنية».

عن أهمية الكلمة وتأثيرها في المتلقّي، يقول: «الكلمة هي الأساس التي يبنى عليها اللحن والتوزيع والأداء وفي حال سقوط أي عنصر من العناصر المذكورة تسقط الأغنية بأكملها».

رداً على سؤال حول تضاؤل حضور الأغاني الطويلة؟ يجيب: «لأن الوسائل الحديثة ابتكرت الكليب الذي يتطلب موازنات ضخمة بالإضافة إلى إمكان تحميل الأغاني عن الانترنت، ما يفرض بالتالي أغنيات قصيرة، غير أنّ هذا الأمر لا يعني أن الأغنية الطويلة غائبة كلياً، ذلك أن اشخاصاً كثراً ما زالوا يحبذون الاستماع إليها». يشدد اسكندر على أن « الأغنية الراقية ما زالت محافظة على استمراريتها وقيمتها».

سليم عساف

يعتبر الشاعر والملحن سليم عساف أن «الأغنية تنطلق من الكلمة»، واليوم تكمن الصعوبة في إيجاد الكلمات لافتقادنا إلى مواضيع جديدة. رداً على سؤال من أين يستوحي الشاعر الكلمات؟ يجيب: «من بيئته، محيطه، قصص تُروى أمامه...». وعما إذا كانت الأغنية الراقية ما زالت محافظة على قيمتها، يرى عساف أننا على أبواب عصر ذهبي في الأغنية.

منير أبو عساف

يرى الشاعر منير أبو عساف أن التطرّف في الكلمات من شأنه تشويه وجه البلد الحضاري وهدم مسيرة سنوات من العمل الدؤوب للارتقاء بالفن اللبناني، يقول: «باستطاعتنا أن نخالف لكن ليس بطريقة تؤذي الأذن»، معتبراً أن كل شيء ينطلق من رقابة ذاتية وأن ثمة انحداراً لافتاً في بعض الأغاني.

عن أهمية الكلمات في الأغنية يؤكد أبو عساف أنها الأساس ولها الدور الأهم وتكون عادة مستوحاة من حالات شخصية ومن البيئة المحيطة، أو قد تكون من وحي الخيال.

يلفت أبو عساف إلى أن «الأغنية الراقية موجودة وتحقق استمرارية، على رغم أن الأغاني الشاذة عن القاعدة سيطرت في مرحلة من المراحل إلا أنها في طور التلاشي». يكمن الحل الأمثل، في رأيه، في تأليف لجنة متخصصة تضع معايير محددة للأغنيات وتفصل بين الجيد والسيئ.

عما إذا كان يأخذ حقه كشاعر، يقول أبو عساف: «الحصول على جائزة الـ{موركس دور» لثلاث سنوات على التوالي هو تقدير معنوي وتأكيد على أن الأعمال الفنية التي أقدِّمها ذات مستوى، أما من الناحية المادية، فما نتقاضاه قليل نسبياً لكننا نعمل لأننا نعشق الكتابة».

تعليقاً على كلمات أغنية «بدي بوسك في التابوت»، يقول أبو عساف: «الصورة مقززة، تمنيت لو لم يبلغ الشاعر فارس اسكندر هذا التطرّف»، مشدداً على أن «الموت والدين من المحرمات التي لا يجب المسّ بها».

back to top