مزامير الطفولة


نشر في 12-01-2011
آخر تحديث 12-01-2011 | 00:01
 زاهر الغافري ربما افتقدنا ليلاً واحداً، ربما افتقدنا أرض الكلام، لتنقل هذه الريح أصداف فمنا إلى البرية، ربما لأن عزلتنا تفيض عن الليل لذلك تركنا الباب مفتوحاً فلم ندخل ثم سمعنا صرخاتنا من بعيد، أو ربما لأن ذنوبنا أزهرت في مزامير الطفولة. رعاة بلا بوصلة يهرّبون جرار الآلهة ويشربون الظل مقطراً من الأشجار. لعلنا سنزداد جمالاً بعد الموت، فنسمع من يقول: انظُر كيف تقفز الأسماك من عيونهم. ولكي يبدو الحنين أكبر قليلاً من أعمارنا نتأمل دائماً لمعة السكين فوق السرير أو على حافة القبر.

كنا نحمل فوق أكتافنا آبار النسيان ولم نكن نشعر بالهواء وهو يجرح نومنا. لم نكن نشعر بماء العالم ولا بمرآة الرماد. نغمة تلد نفسها باستمرار تشم جذورها من بعيد.

نحلم بصدف غامضة تمنحنا غفرانها، نحلم بصحراء نلدها ثانية أمام الرب. بحقيقة نُغريها بكلمة وفي طريقها إلينا نبكي من أجلها– من أجلها نبكي كالنسر الذي من فرط الندم اغتسل من دموع آدم.

ظل الغياب على العتبة ونفاجأ عندما لا نسمع في عظامنا خرير الماء. هكذا ننحني لغصن الموت تاركين نبيذنا منسياً تحت النجوم.

نقف كالأيتام باحثين ربما عن الأنهار عن الطين وعن سلم المغارة عن طفولتنا التي أعرناها للخريف. قبل أن نسرق من الضوء خيوط منتصف الليل. نملأ آلامنا بأعشاب كثيرة تحت نوافذ أكثر صدأ من أصابعنا.

ولا ننظر إلا إلى ثقوب النوم فوق السقف أو بين زوايا الذاكرة.

لم نهرب حتى نرى عودتنا مهجورة إلى قرى ليست سوى أشباح وأَذكرُ عندما فتحنا الأبواب خفنا أن يطير الضوء من القصيدة. وأذكر الأروقة التي ذرفنا في مداخلها دموعاً جافة معبرا للطيور.

ثم لا نعود نعرف أين كنا ولا كيف بخفة أعدنا الجدران إلى ظلالها. لم نسجد لينبوع فوق ظهورنا ولا مرت فوق ألسنة الموتى غيمة نرعاها بأيدينا، ثم إننا أول من بكى تحت الشجرة مرثية هي صلاة دائمة. ورغم العاصفة توشك عيوننا أن تسمع الأحجار في عظامنا ونحن نجفف الفجر من مائه القديم.

ونعيد الأفق إلى إخوته وتحطم ركبة الضوء. لم يهجر الشتاء أقدامنا بعد ولا رفرف الحطام فوق قبورنا ولا أمل لهذه المرآة أن تغزوها فأس أو أن تطلع منها نافورة ماء. لذلك لم نكن نعتز في الوديان سوى على النظرة الأولى. مفاتيح أحلامنا وربما قبلة فوق جذع يابس. لعل المياه ستفيض غدا من الأسرّة لعل أزهارنا ستيأس في ممر النور.

لعل الأبدية بيتنا يرث أسرار الصبر فلا نفتح الأبواب.

التي أضعنا تحتها ريشة الألم.

قد ننسى- في مدن بعيدة- أن نعيد الدمع إلى أفواهنا قد لا نكترث لأعداء، نلدهم بلا خوف وربما ربَتنا على أكتافهم كي يهدأوا وشربنا من عيونهم ضباب السخرية. حياتنا بلا قزح ولا قوس ولكن السهام حين تطير من صدورنا.نعود إلى الأودية كأنما نعود إلى رحم الكلام. يكفي أن ننقل البرق إلى حافة الغابة وأن نعيد الدخان إلى بئرنا الأولى.لا بد لهذا الهواء أن يرضع من سهراتنا وان أبى غطيناه بالندم ولم نترك في عرشه عينا.

ندفن شمسنا تحت اللسان وننظر في مرآتنا إلى جرح السماء والى هذا الجمال الهارب من تاج السحابة وإن متنا لن نضع التوابيت في أجسادنا.

مكتفين ربما بأن يفوح من ظلالنا خشب العمر أو ليل الرجاء وإنْ أعدنا النوافذ إلى ستائرها نكون قد نسينا المنزل وأخوة الصباح ولا نعد نعرف كيف نعيد للحديقة خوفها الأليف ولا للمطر بذور اليابسة.

وربما أوشك الزمن أن يسقط من بين أصابعنا. فلا نعد نرى في أجفاننا أنهاراً كثيرة. ولا الفجر وهو يزحف إلى صحرائنا. ولا اللمسة التي هي جمرة في فم الإله.

لم تهبنا القسوة فرصادة بعد. لم نحلب الثمرة كما ينبغي. غيابنا أثقل من الخطيئة. وجنوننا أكبر من أن يولد من عيون النسر. الخريف سلاح الأعزل وكاتم أسرارنا حين ننزل الأدراج لكي نبارك السهرة. ونعيد أغنية قديمة إلى نومنا. حين يبحث صوت أضاعه الليل عن أرض عارية بين العواصف. هكذا لن تصل الرغبة إلى مرآتها ولا الحجر إلى عين الملاك.

back to top