ماذا ستخسر الولايات المتحدة إذا رحل مبارك؟
شعرت إسرائيل من جهتها بالصدمة لدى رؤية اقتراب سقوط أحد أهم حلفائها في المنطقة، لاسيما أن الولايات المتحدة لا تبذل الكثير لإنقاذه، فيوم الأحد، اتصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بواشنطن والعواصم الأوروبية لحثها على تخفيف انتقاداتها بحق الرئيس المصري، بما أن سقوطه سيؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها.تشكّل الثورة التي أدت على ما يبدو إلى إضعاف فرص الرئيس حسني مبارك بالبقاء في السلطة مسألة محلية، فقد نزل المصريون إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير بسبب يأسهم من الوضع الاقتصادي والاستبداد السياسي، لا بسبب علاقات النظام الوثيقة بإسرائيل والولايات المتحدة. لطالما حظي حكم مبارك القمعي بالدعم الأميركي طوال ثلاثة عقود، نظراً إلى منفعته بالنسبة إلى الاستراتيجية الأميركية في قضايا عدة، بدءاً من إسرائيل ووصولاً إلى إيران، لذا قد يؤدي سقوط مبارك إلى حرمان واشنطن من حليف عربي رئيسي.
وصفت وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس القنابل التي قصفت بيروت، عام 2006، حين تبادلت إسرائيل و»حزب الله» الضربات في حرب مفتوحة، بعبارة «المخاض لولادة الشرق الأوسط الجديد». لكن تتماشى هذه العبارة أكثر لوصف الاضطرابات التي تهزّ مصر اليوم. لقد تبين أن رؤية رايس بنشوء تحالف بين إسرائيل والحكام الاستبداديين العرب، من شأنه سحق إيران وسورية و»حماس» و»حزب الله»، هو مجرد وهم بعيد المنال، غير أن تنحية مبارك قد تُغير النظام الإقليمي بطريقة تتعارض تماماً مع رؤية رايس.لايزال الوضع في مصر متقلباً على نحوٍ خطير، لذا يصعب توقّع النتيجة النهائية لما يحصل، لكن حتى لو بقيت مدة المرحلة الانتقالية الحتمية وشروطها مجهولة، لا شك أن التظاهرات الشعبية الهائلة التي تشهدها البلاد منذ خمسة أيام أعلنت انتهاء أيام الرئيس النافذ الذي حكم طوال 30 عاماً، وحتى إدارة أوباما تُبعد نفسها على ما يبدو عن قائدٍ لطالما اعتبرته واشنطن إحدى ركائز الاستقرار في المنطقة. امتنع البيت الأبيض عن المطالبة باستقالة مبارك، لكنه دعا إلى حصول انتقال مُنظَّم للسلطة نحو «حكومة توافقية ديمقراطية»، وطالب القوى الأمنية المصرية المموّلة من الولايات المتحدة بالامتناع عن استعمال العنف ضد المحتجّين. سيؤدي تنفيذ تلك الدعوات حتماً إلى إنهاء مبارك سياسياً، وحتى لو حاول هذا الأخير الخروج من الأزمة الراهنة بطريقته الخاصة، فستضعف قدرته على أداء دور حامي الاستقرار حتماً، وخلال أقل من أسبوع، تحوّلت إحدى الشخصيات المحورية بالنسبة إلى الاستراتيجية الأميركية إلى مجرد حاكم ضعيف،ويبدو أن محمد البرادعي هو أبرز المرشحين للحلول مكانه في حال أصبحت العملية السياسية مفتوحة على جميع الخيارات، علماً أن البرادعي هو مفتش نووي سابق حائز على جائزة «نوبل» للسلام ويحظى بدعم الأحزاب العلمانية الأصغر حجماً كمرشح للرئاسة، وعلى دعم «الإخوان المسلمين»، أكبر حزب معارِض في البلاد. البرادعي رجل معتدل وديمقراطي، ولكنه لا يشارك واشنطن مخاوفها تجاه الأحزاب الإسلامية، وقد شكك علناً باستراتيجية إدارة أوباما بشأن برنامج إيران النووي.ما يثير الفضول هو أن واشنطن، قبل سنوات من الاضطرابات الراهنة، كانت قد تلقت تحذيراً من احتمال مواجهة صعوبة في المرحلة الانتقالية لما بعد عهد مبارك، حتى لو كان خلفه من داخل النظام عينه. ذكرت إحدى الوثائق السرية التي تعود إلى السفارة الأميركية في القاهرة، بتاريخ مايو 2007، وقد سربها موقع «ويكيليكس» في أواخر السنة الماضية، ما يلي: «بغض النظر عن هوية الرئيس المصري المقبل، فهو سيكون حتماً أضعف من مبارك سياسياً، وسيكون تعزيز موقعه وكسب الدعم الشعبي من أبرز أولوياته. يمكننا أن نتوقع إذن أن يتبنى الرئيس الجديد لهجة مُعادية للولايات المتحدة في خطاباته العلنية، في محاولةٍ لإثبات حُسن نواياه الوطنية أمام الشارع المصري». تحذر تلك الوثيقة أيضاً من أن أي رئيس جديد سيضطر إلى التصالح مع «الإخوان المسلمين» لتعزيز قاعدة الدعم الذي يحظى به، فإذا صحت هذه المعطيات عندما كانت التقديرات تشير إلى مرحلة انتقالية ضمن النظام نفسه، فقد تثبت هذه التوقعات أكثر بعد أن قال الشعب كلمته في هذا المجال الآن. لا يعني ذلك أن الثورة مبنية على المشاعر المعادية للولايات المتحدة والنزعة الإسلامية المتطرفة، بل على العكس من ذلك، فقد بدأ هذا الاحتجاج انطلاقاً من حاجات المصريين الخاصة على المستويين الاقتصادي والسياسي. لكن المتظاهرين يكنون عدائية واضحة تجاه الولايات المتحدة أولاً وأخيراً بسبب دعمها القديم لنظام استبدادي.قد يكون «الإخوان المسلمون» ضمن خانة «المتطرفين» بحسب تقديرات كوندوليزا رايس، غير أن الحركة الديمقراطية في مصر لا ترى الأمور بهذه الطريقة. في هذا السياق، قال البرادعي في نهاية الأسبوع الماضي: «لا علاقة للإخوان المسلمين بالحركة الإيرانية ولا بالتطرف الذي شاهدناه في أفغانستان وأماكن أخرى». لذا اعتبر «الإخوان المسلمين» جماعة محافظة تؤيد الديمقراطية العلمانية وحقوق الإنسان، وقال إنهم سيحصلون على مكانة مناسبة في أي عملية سياسية شاملة بصفتهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع المصري.شعرت إسرائيل من جهتها بالصدمة لدى رؤية اقتراب سقوط أحد أهم حلفائها في المنطقة، لاسيما أن الولايات المتحدة لا تبذل الكثير لإنقاذه، فيوم الأحد، اتصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بواشنطن والعواصم الأوروبية لحثها على تخفيف انتقاداتها بحق الرئيس المصري، بما أن سقوطه سيؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها. من المستبعد طبعاً أن تُقدم أي حكومة مصرية جديدة على خوض حرب ضد إسرائيل، غير أن وصول أي إدارة تكون أكثر استجابة لمطالب المواطنين من مبارك سيؤدي حتماً إلى حصول برودة في العلاقات. على الأرجح، لن يقوم أي خلف لمبارك بتأدية الدور الذي لعبه هذا الأخير حين كان الرجل الذي يقصده الجميع عندما تريد الولايات المتحدة وإسرائيل الضغط على الفلسطينيين لإجراء محادثات جديدة مثلاً. ولا تستطيع إسرائيل أيضاً الاعتماد على استمرار التعاون المصري لفرض حصار اقتصادي على غزة، بهدف الإطاحة بقادة «حماس» الذين يحكمونها.لا تشعر إسرائيل وحدها بالقلق، فقد اتصل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، يوم السبت، بمبارك للتعبير عن تضامنه معه، وقد منعت قواه الأمنية التظاهرات الداعمة للمحتجين المصريين المطالبين بالديمقراطية. لطالما كان مبارك غطاء سياسياً مهماً لعباس في تعاملاته مع إسرائيل والولايات المتحدة، وقد دأب على الضغط على «حماس» في غزة. كما أن الزعيم الفلسطيني الذي يرأس إدارة غير ديمقراطية بمعنى الكلمة لن يروق له أن يتخذ شعبه من المثال المصري نموذجاً يُثبت مدى قوة الاحتجاجات الحاشدة.لن يطمئن أيٌّ من الحكام الاستبداديين في المنطقة تجاه تصميم إدارة أوباما على توديع حاكم مصري خدم الأجندة الإقليمية الأميركية طوال 30 عاماً لدرجة أن أمثال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أشاد، في الأسبوع الماضي، بمدى أهمية مساهمته طوال هذه الفترة.في المقابل، لا شك أن سورية وإيران تحتفلان بالوضع الذي يواجهه أحد أشرس خصومهما العرب، مع أن الثورة الشعبية التي هزّت عرش مبارك قد تصل، في مرحلةٍ ما، إلى شوارع دمشق وطهران. في الواقع، قد تلغي الثورة المصرية مقاربة «المعتدلين ضد المتطرفين» التي وضعتها إدارة بوش في هذه المنطقة: قد يكون رحيل مبارك خسارة بالنسبة إلى المعسكر المعتدل، لكن لا يشكّل هذا الحدث بالضرورة مكسباً لمصلحة المتطرفين. بل إنه يشير إلى وعي جديد في صفوف الشعب العربي الذي يتوق إلى تولي شؤونه الخاصة بنفسه بدل أن تقرر صراعات القوى الدولية مصيره. لكن حتى هذا الواقع ينذر باستمرار الاضطرابات في الفترة المقبلة على مستوى السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، علماً أنها لا تحظى بتأييد واسع في الشارع المصري.