طوفان الرعب من الشرق: مسلمون أمام المغول (12) سقوط بغداد

نشر في 10-09-2010 | 00:00
آخر تحديث 10-09-2010 | 00:00
بعد جلاء الصليبيين عن المنصورة، جلس على عرش مصر الملك المعظم توران شاه خلفاً لوالده الملك الصالح نجم الدين الأيوبي، وقد قال عنه ابن بردي: «كان سيئ التدبير والسلوك ذا هوج وخفة»، وكان مفتقراً إلى المعارف والأنصار من المماليك والمصريين على السواء، لأنه قضى معظم حياته في حصن كيفا منكباً على الملذات، يذكره ندماؤه بأنه مجرد ملك بالاسم فحسب، فأساء معاملة زوجة أبيه السلطانة شجرة الدر، رغم أنها حفظت له مكانته وأخذت له البيعة وهو غائب لا يعرف شيئاً عن أحوال البلاد، واتهمها بإخفاء كنوز أبيه وأمواله.

اتصلت شجرة الدرّ بأنصارها من المماليك المعادين لتوران شاه، وكانوا في الأصل يكرهونه لسوء معاملته لهم، واتفقت معهم على التخلص منه فقتلوه، وبموته انقطع دابر السلالة الأيوبية في مصر، وأصبحت شجرة الدر الملكة الفعلية للبلاد.

اعترض عامة الشعب على هذا الوضع ورفضوا أن تحكمهم امرأة، في وقت كان فيه كبار القادة المماليك يطمعون في حكم مصر، مثل أقطاي مقدم المماليك (يشرف على تعليم المماليك وتدريبهم)، عز الدين أيبك الجاشنكير (يتذوق طعام السلطان قبل أن يتناوله تحسباً لدسّ السم فيه).

شجرة الدرّ سلطانة

انتهى أمراء المماليك إلى حلّ وسط قبلته الأطراف كافة، إذ اتفقوا على أن تبقى شجرة الدرّ سلطانة البلاد ويتولى الأتابكية واحد منهم واختاروا أيبك التركماني لمنصب الأتابك (نائب السلطان).

رفض الخليفة العباسي الاعتراف بها ومساندتها وأرسل كتابه الذي تضمن عبارته الشهيرة: «إذا كان الرجال قد عدموا عندكم أعلمونا حتى نرسل إليكم رجلا».

اقتنع المماليك بخطأ تصرفهم وأدركوا أنهم لا يستطيعون السباحة ضد التيار الذي قد يغرقهم جميعاً، واتفقوا على ضرورة أن تتزوّج الملكة ويتولى زوجها شؤون الحكم، فوقع الاختيار على الأتابك أيبك التركماني فوافقت وتزوجته وخلعت نفسها من السلطنة وتنازلت له عن العرش، وكان ذلك في يوليو (تموز) 1250، بعدما قضت في الحكم ثمانين يوماً.

أصبح المملوك أيبك التركماني سلطان مصر ولقب بـ «الملك المعز»، ولم يكن أكبر أمراء المماليك سناً أو قدراً أو قوة ومكانة ونفوذاً، بل كان أقطاي مقدم المماليك أقوى منه. قال إبن تغري إن الأمراء انتخبوه وهو ضعيف الشوكة ليتمكنوا من عزله وقتما يشاؤون، وقبلت شجرة الدر الزواج منه لضعفه وحكم بصفته زوجاً لها، فكانت هي الحاكم الفعلي للبلاد طوال فترة اقترانه بها.

أثار وصول المملوك أيبك إلى العرش حنق المماليك وبدأت تظهر على الساحة حركات تذمّر واعتراض وطمع أمراء المماليك في المنصب، لا سيما بعدما بدأت أقدامه تترسخ في السلطة، فتغلغل الحقد في داخلهم نحوه وراحوا يدبرون المكائد للانقلاب عليه والتخلص منه.

في المقابل لم يكن أيبك ليأمن شرهم، وكان يتوجس منهم خيفة ويحسب لمكائدهم حسابات، فاحتاط لنفسه وأنشأ فرقة «المماليك المعزية» نسبة إلى لقبه المعز، وكان أقرب المقربين إليه مملوكه قطز، فجعله نائباً للسلطة في مصر، ثم أخرج المماليك البحرية من ثكناتهم في جزيرة الروضة وعزل الطفل موسى الأيوبي، شريكه في الحكم، وانفرد وحده بزمام السلطة في البلاد.

كانت مراكز المماليك المنافسين له تزداد قوة، بحيث يصعب على أيبك التخلص منهم، في مقدمة هؤلاء أقطاي، الذي وصل إلى قمة السلطة والنفوذ، فكان لا يظهر إلا ومعه حرس ضخم من الفرسان المسلحين ويخرج في مواكب كأنه سلطان البلاد، لقبه مماليكه

بـ «الملك الجواد»، ثم كانت الخطوة التي أقلقت أيبك، وهي سعي أقطاي إلى الزواج من ابنة الملك الأيوبي المظفر تقي الدين محمود، ملك حماة، فبدأ أيبك يفكر في التخلص منه ومن خطره عليه.

في السادس من سبتمبر 1255، طلب أيبك من أقطاي الحضور إلى قلعة الجبل لاستشارته في أمر يتعلق بالدولة، فاتجه ومعه حراسه إلى القلعة، وبمجرد دخوله أغلق قلمز ومعه مجموعة من المماليك المعزية الباب عليه ثم قتله ومن معه. عندما شاع خبر قتله في القاهرة هرع خشداشيه (تلاميذه من المماليك) على رأسهم الأمير بيبرس البندقداري والأمير قلاوون إلى القلعة، في ظنهم أنه لم يقتل بل إنما قبض عليه، لكنهم صدموا عندما رأوا رأس أقطاي يتدلى من على سور القلعة.

أثار مقتل أقطاي الخوف والفزع لدى قادة المماليك البحرية وبدأ كل منهم يشعر بأن الدور واصل إليه لا محالة، بخاصة أن أيبك أمر بإغلاق أبواب القاهرة لمنع خروجهم، فراحوا يجهزون الحيل للهرب، بالفعل هرب عدد منهم إلى ملوك البيت الأيوبي في الشام والبعض الآخر إلى سلطان سلاجقة الروم علاء الدين كبقاذ، صاحب قونية في آسيا الصغرى.

مكائد

بعدما تخلص أيبك من المماليك البحرية كانت الخطوة التي أثارت عداوة زوجته شجرة الدر، فقد أرسل إلى بدر الدين لؤلؤ الأتابكي، صاحب الموصل، يطلب منه الزواج بابنته، عندها راحت شجرة الدر تنسج المكائد لأيبك، فأرسلت أحد المماليك إلى الملك الناصر الأيوبي، ألدّ أعداء أيبك، تخبره فيها أنها ستتخلص من زوجها وتعرض عليه أن يتزوجها ويحكم هو مصر، لكن الناصر الأيوبي لم يقبل أن يكون جزءاً من مكيدة نسائية. ما لبث أيبك أن علم بتفاصيل المراسلات بين زوجته والناصر، وراح الزوجان يتسابقان أيهما يتخلص من رفيقه قبل الآخر.

أرسلت شجرة الدر برسالة إلى أيبك تفيض بالمشاعر الرقيقة وطلبت منه مقابلتها في القصر السلطاني في القلعة، فكانت نهايته، حيث تلقفه خمسة من الخصيان بتحريض من شجرة الدر وقتلوه في الحمام، وكان ذلك في أواخر إبريل (نيسان) 1257.

انتفض المماليك المعزية بعد مقتل أستاذهم وكبيرهم واحتشدوا في القلعة وقبضوا على قاتلي السلطان. أرادت زوجة أيبك أن تنتقم من شجرة الدر، وبأوامر مباشرة من قطز أحضر المماليك المعزية شجرة الدر أمام أرملة أيبك وبعدما روت بعضاً من غلها فيها، طلبت من قطز أن يتركها للجواري يضربنها بالقباقيب حتى الموت، فظلت جواري القصر ينهلن عليها ضرباً حتى لفظت أنفاسها، ثم ألقينها من على سور القلعة لا يستر جسدها سوى سروال وقميص، فبقيت جثتها ملقاة أياماً حتى أنتنت، وبعدها حملت في قفة ودفنت بالقرب من مشهد السيدة نفيسة.

بعد مقتل أيبك وشجرة الدر، وقعت خلافات واضطرابات شديدة في البلاد، تعصبت فرقة المعزية

لـ نور الدين علي، ابن سيدها أيبك، وأقاموه سلطاناً على البلاد ولقبوه بالملك المنصور، ولم يكن عمره يتجاوز الخامسة عشرة. لم يعجب هذا الاختيار المماليك الصالحية واتفقوا في ما بينهم على تولي أحدهم الحكم، فنصبوا الأمير علم الدين سنجر الحلبي سلطاناً على مصر وحلفوا له، لكن سرعان ما القى المماليك المعزية القبض عليه وسجنوه ومعه أتباعه، وفرّ الذين نصبوه إلى الشام ولجأوا إلى الملوك الأيوبيين وحرضوهم على غزو مصر، بالفعل حاولوا ذلك، لكن تصدى لهم الأمير قطز وأوقع فيهم الهزائم، هكذا بدأ نجم هذا الأخير في الظهور.

نحو بلاد المسلمين

منذ غزواتهم الأوروبية، لم يقم المغول بأي حملة عسكرية واسعة النطاق، وبعد استقرار الوضع المالي للإمبراطورية وافق قادتهم، خلال جلسات القوريلتاي التي عقدت في قراقورم، على غزو دولة الخلافة الإسلامية ووضع مونكو خان شقيقه هولاكو قائداً عاماً للجيش ومسؤولا عن الشؤون المدنية في بلاد فارس.

عاود المغول زحفهم نحو بلاد المسلمين وهاجم القائد النايماني كيتوبوقا (كاتبغا)  حصون الإسماعليين عام 1253، قبل أن يهاجمهم هولاكو بوحشية عام 1256 ، وبعد عام واحد استسلم الإمام ركن الدين إلى الغزاة فأعدموه وسقطت الحصون الإسماعيلية في بلاد فارس ودُمرت باستثناء حصن واحد بقي صامداً حتى عام 1271.

بعد ذلك بدأت المراسلات بين هولاكو والخليفة المستعصم إلا أنها انتهت إلى طريق مسدود ولم يكن من سبيل سوى أن تلحق بغداد، حاضرة الخلافة الإسلامية، بمدن خوارزم وفارس التي فعل فيها المغول ما لم يفعله الشياطين.

عقد هولاكو النيّة على احتلال بغداد، فأمر بانتقال جيوش جرماجون وبايجو نوبان من معاقلهما في آسيا الصغرى وأن تسير، على ميمنة الجيوش الزاحفة على بغداد، إلى الموصل عن طريق أربيل، ثم تعبر جسر الموصل وتعسكر في الجانب الغربي من بغداد، حتى إذا جاءت الجيوش من المشرق تخرج إليها من هذه الناحية، ويزحف كل من كيتوبوقا وقدسون على رأس الجناح الأيسر، وترك إيلكا، كبار قادة هولاكو، من حدود إيران باتجاه بغداد مباشرة.

تحرّك هولاكو، على رأس قلب الجيش، في 18 يناير 1258 نحو نهر دجلة، ومرّ في طريقه على مدينة كرمان شاه فدمرها على طريقة المغول التقليدية، وألقى الرعب في النفوس وانذر أهالي بغداد بسوء المصير المنتظر.

عسكر قلب الجيش المغولي على شاطئ نهر حلوان ليتمكن جيش كاتبغا من إنجاز مهامه والوصول إلى مواقعه المتفق عليها في الوقت المحدد، كذلك تمكنت فرق أخرى من عبور نهر دجلة في الوقت المقرر.

في الفترة نفسها عسكر مجاهد الدواتدار، القائد العام لجيش الخليفة، بجنوده بين بعقوبة وباجسري، ولما سمعوا بقدوم المغول إلى الضفة الأخرى عبروا نهر دجلة واشتبكوا معهم في قتال شرس في حدود الأنبار على باب قصر المنصور أي على بعد 9 أميال من بغداد، وفتح المغول السدّ الكبير على النهر، فغمرت المياه الصحراء الواقعة خلف جيش الخليفة ودهموا الجيش المحاصر بين مائين وأوقعوا فيه هزيمة منكرة قتل فيها 12 ألف جندي، فضلا عن الجنود الذين غرقوا أو قضوا نحبهم في الوحول.

سقوط بغداد

فرّ قائد جيش الخليفة مع قلّة من جنوده وعادوا إلى بغداد، بينما هرب قسم آخر إلى الحلّة والكوفة وغيرهما، وفي يوم الثلاثاء منتصف المحرّم تقدم قادة الجيش المغولي: بوقا تيمور وبايجو وسونجاق، إلى بغداد واستولوا على الجانب الغربي منها ونزلوا في ضواحي المدينة على شواطئ نهر دجلة، وفي الوقت نفسه وصل بوقا نويان من ناحية صرصر وتحرك هولاكو من خانقين حيث كان معسكراً وسار نحو بغداد ونزل في الجهة الشرقية منها، ثم تدفقت باقي الجيوش كالنمل أو الجراد من كل جهة وناحية، فحاصروها من أطرافها كافة وأصبحوا حولها كسور بشري.

وفي صباح 22 من المحرّم 656هـ الموافق 30 يناير 1258، أعطيت الأوامر لقادة الميدان باقتحام المدينة من الجهات كافة، فشنّ المغول هجوماً كاسحاً على أسوار بغداد، استخدموا فيه المنجانيق على نطاق واسع وأحدث ثقل الحجارة وقوة اندفاعها ثغرات كبيرة في برج العجمي، أحد أكبر الأبراج في سور بغداد، ورافق هذا الهجوم الوحشي قرع الطبول وصراخ المغول المرعب وصيحاتهم الحادة، فانهارت أعصاب الخليفة، عندئذ أرسل إلى هولاكو يبلغه موافقته على شروطه للتسليم، فرد هولاكو على رسل الخليفة: «هذه الشروط طلبتها وأنا على باب همدان، أما الآن فأنا على باب بغداد».

في يوم الجمعة 26 من المحرّم انهار برج العجمي، فانطلق المغول كالإعصار يجرفون كل حي في طريقهم، وفي يوم الاثنين 28 منه تسلق بعضهم السور عنوة، وأخلوه من جند الخليفة، وما إن حلّ المساء حتى تسلم المغول الأسوار الشرقية.

على أثر ذلك أمر هولاكو بإقامة جسر في أعلى بغداد وفي أسفلها وإعداد السفن ونصب المنجانيق، ورابط بوقا تيمور مع 10 آلاف جندي على طريق المدائن والبصرة ليصدّ كل من يحاول الهرب بالسفن، ولما حمي وطيس القتال داخل بغداد وضاق الحال بالمسلمين حاول الدواتدار أن يركب سفينة ويهرب لكن جنود المغول أفشلوا هروبه وأعادوه مهزوماً مكسوراً.

لما وقف الخليفة على هذه الحال ووجد أن المدينة أصبحت تحت رحمة المغول، يئس نهائياً من الاحتفاظ بها، ولم يرَ مهرباً سوى الاستسلام والطاعة، فأرسل إلى هولاكو رسلا محملين بالهدايا والتحف، لكن هولاكو لم يلتفت إلى هداياهم.

في ليلة الثلاثاء 29 من المحرّم، خرج من بغداد أبو الفضل عبد الرحمن بن الخليفة المستعصم للقاء هولاكو، يرافقه جماعة من كبار رجال الدولة وبحوزتهم أموال طائلة وهدايا ثمينة لم تقبل منهم، وفي اليوم التالي خرج ابن الخليفة الأكبر مع جماعة من المقربين للشفاعة فلم يجدوا آذانا صاغية.

أخيرا أرسل هولاكو رسالة قصيرة إلى الخليفة يقول فيها: «إن الرأي للخليفة، فله أن يخرج أو لا يخرج، وسيكون جيش المغول مقيماً على الأسوار إلى أن يخرج سليمان شاه والدواتدار». وفي يوم الخميس خرج الرجلان لمقابلة هولاكو، لكنه أعادهما مرة أخرى ليخرجا أتباعهما وكل ما يخصهما، بحجة أنهم سينفون إلى مصر والشام وخرج معهما جند بغداد ومعظم السكان، آملين أن يجدوا طريقاً للخلاص، بيد أن أملهم خاب، فقد قتلهم المغول بلا رحمة.

الفاجعة الكبرى

ثم حلت الفاجعة الكبرى، في يوم من أكثر الأيام سواداً في تاريخ الأمة الإسلامية، الأحد الرابع من صفر سنة 656 هـ (الموافق 9 فبراير سنة 1258)، إذ خرج الخليفة المستعصم من بغداد ومعه أبناؤه الثلاثة أبو الفضل عبد الرحمن، أبو العباس أحمد، أبو المناقب مبارك، يرافقهم 3 آلاف من السادات والائمة والقضاة والأكابر والأعيان، لتسليم أنفسهم وعاصمة الخلافة الإسلامية بلا قيد أو شرط، ورافق هذا الخروج الجماعي للاستسلام الذليل، صراخ وندب وصياح من النساء وارتفعت أكفّ مئات الآلاف من المسلمين في وقت واحد تتضرع إلى الله أن يرفع عنهم الغمّ، في جو قاتم مشحون بالرعب والدماء ورائحة الموت.

استقبل هولاكو الخليفة استقبالا لا ينمّ عن غضب منه، بل سأله بأسلوب مهذب عن صحته وكلمه بالحسنى وطلب منه أن يأمر بخروج سكان المدينة من منازلهم ومخابئهم بحجة إحصائهم، فانطلت الخدعة على الخليفة وأذعن لطلبه، وخرج المنادون في أحياء بغداد يعلنون للمسلمين أن «كل من يود إنقاذ حياته وصيانة ماله وعرضه فليخرج من المدينة ويسلّم ما في حوزته من سلاح للمغول»... وقع الناس في بلبلة كبيرة، فمنهم من صدق وسلم سلاحه ومنهم من ارتاب من سلامة الأوامر وصحتها فاعتصم في داره وبقي إلى جانب عائلته.

نصب المغول خياماً على امتداد نهر دجلة لاستلام السلاح وجاء المسلمون جماعات يسلمون سلاحهم، وكل من دخل خيمة لتسليم سلاحه خرج من الناحية الأخرى جثة هامدة. أدرك الأهالي الفخ المنصوب لهم، وأن المغول يذبحونهم كقطعان الغنم ويرمون بجثثهم في مجاري مائية متفرعة من نهر دجلة، فانتشر الخبر بسرعة، وراح الناس يختبؤون منهم.

في يوم الأربعاء 7 من صفر 656 هـ (الموافق 13 فبراير 1258)، أعطيت الأوامر بإباحة المدينة بالكامل وتوزع قادة المغول والضباط وفرق الجيش على أحياء بغداد ودروبها يفعلون فيها ما يشاؤون، فاجتاحوا المدينة بلا أي ضوابط وقتلوا الرجال والأطفال وهتكوا أعراض النساء وبقروا بطون الحوامل وقتلوا كل حي رأوه ولم يسلم منهم إلا من اختفى في باطن الأرض أو تصنّع الموت ونام بين الجثث.

لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل خرب المغول مباني المدينة وهدموا جامع الخليفة ومشهد الإمام موسى الكاظم، ونبشوا قبور الخلفاء في الرصافة ودمروا المساجد ليستولوا على الذهب المزينة به قبابها وهدموا القصور بعدما استولوا على التحف النادرة والمجوهرات، ثم أضرموا النار في المدينة لتأتي على الأخضر واليابس فيها.

في يوم الجمعة 9 صفر أصدر هولاكو أوامره بإحصاء نساء الخليفة، فعدوا سبعمائة زوجة وسرية وألف خادمة، ولما علم الخليفة بتعداد نسائه تضرع إلى هولاكو قائلا: «مُنّ عليَ بأهلي وحرمي اللاتي لم تطلع عليهن الشمس والقمر»، فأخرج الخليفة مائة امرأة من أقاربه والمحببات إليه وألحق هولاكو النساء اللواتي استرعين نظره بحريمه، ثم وزع الباقي على أمراء وقادة جيشه.

أوبئة وأمراض

بعدما قتل حوالى 800 ألف شخص في بغداد وتخريب آلاف المباني والقصور صدرت الأوامر بالكف عن القتل، فخرج السكان الذين كانوا مختبئين تحت الأرض كأنهم موتى، حتى أنكر بعضهم بعضاً، ووجدوا أرض بغداد مخضّبة بالدم، تفوح منها رائحة العفن من الجثث المتحللة ولم تجد من يدفنها، فانتشرت الأوبئة والأمراض من جراء ذلك، حتى هولاكو نفسه غادر بغداد هرباً من رائحتها إلى قرية وقف، وهناك استدعي الخليفة العباسي الذي يئس من إنقاذ حياته فاستأذن هولاكو في الذهاب إلى الحمام ليجدد اغتساله، فأمر هذا الأخير بأن يرافقه 5 من المغول، لكن الخليفة رفض قائلا: «لا أريد أن أذهب برفقة 5 من الزبانية».

وفي مساء اليوم نفسه 14 صفر 656 هـ الموافق 19 فبراير 1258، قتل الخليفة (46 سنة) وابنه الأكبر أبو العباس أحمد (25 سنة) وابنه الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن (23 سنة)، وأسر ولده الأصغر مبارك وأخواته الثلاث: فاطمة وخديجة ومريم، وقتل 5 من الخدم كانوا في معية الخليفة، وأسر ما يقرب من ألف بكر من نساء دار الخلافة... يوم الجمعة 23 من ربيع الأول رحل هولاكو عن بغداد قاصداً معسكره في خانقين وأرسل لأخيه منكوخان غنائم وأموال نهبت من بغداد.

يقول ابن كثير في البداية والنهاية: «اختلف الناس في عدد من قتل في بغداد من المسلمين في هذه الواقعة، فمنهم من قال ثمانمائة ألف، ومنهم من قال ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغ القتلى ألفي ألف نفس»، يضيف: «كانت جثث القتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليها المطر، فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع من بقي على الوباء والغلاء والفناء، والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون».

back to top