أم كلثوم... السيرة والأغاني - السيرة الفنية (الحلقة الثالثة والعشرون) كمال الطويل أدخل النحاسـيات في لحن والله زمان يا سلاحي فقالت له: ألا يمكن الاستغناء عن الحلل يا كمال؟! الطويل احتفظ بالصوفية وبليغ حمدي كان تحدياً وسيد مكاوي كان آخر الداخلين إلى عرينها

نشر في 06-09-2010 | 00:00
آخر تحديث 06-09-2010 | 00:00
كمــــــال الطـــويــل

لا أعتقد أن فرص التعاون بين أم كلثوم وكمال الطويل كانت مرشحة موضوعيا لأن تعطي من الثمار أكثر مما أعطت. فمع أن الاحترام المتبادل بين الملحن الناشئ (آنذاك) والمغنية الكبيرة، كان يتجاوز الود الشخصي إلى الإعجاب الفني المتبادل (كل من موقعه)، فأن هذا الإعجاب كان قادرا على أن يثمر تعاونا فنيا بحدود معينة، ولكنه غير قادر على تحويل هذا التعاون إلى شراكة فنية مستديمة لسبب موضوعي (يتجاوز حدود العلاقة الشخصية) يتعلق بفروقات «العقيدة» الفنية لكل من الفنانين.

لقد رويت في القسم الأول من الكتاب عن «الكرم الفني» (إذا جاز التعبير) الذي تعاملت به أم كلثوم، وهي في قمة مجدها الفني، مع كمال الطويل، عندما كان ما يزال في الدرجات الأولى لسلم الشهرة والمجد. وقد بقي كمال الطويل معترفا بهذا الكرم وهذا الفضل (وفقا لعباراته) حتى بعد مرور ربع قرن على رحيل أم كلثوم.

لقد مر التعاون الأول بينهما (رابعة العدوية، 1955) على ما يرام، لأن كمال الطويل قام بتلحين قصيدتين دينيتين (لغيرك ما مددت يدا، وغريب على باب الرجاء) من صميم المزاج الصوفي للإنشاد الديني، الذي لم يكن غريبا على كمال الطويل (على عكس ما قد توحي به ألحانه لعبد الحليم حافظ)، بدليل أن أول لحن سجله كمال الطويل للإذاعة المصرية كان لقصيدة ابتهال ديني (شعر والده) غنتها فايدة كامل، ما زالت إلى الآن من أروع وأعمق ما لحن كمال الطويل في حياته.

إلهي، ليس لي إلاك عونا

فكن عوني على هذا الزمان

والذي حدث أن لحنا واحدا من هذين اللحنين قد اعتمد في البرنامج الإذاعي (لغيرك ما مددت يدا)، بينما اتفق كمال الطويل مع أم كلثوم على استبعاد اللحن الثاني (غريب على باب الرجاء)، لسبب غير معلن بدقة. ومن يحاول اكتشاف السبب، من حلال الاستماع إلى تسجيل «غريب على باب الرجاء»، يستبعد أن يكون ضعف اللحن هو السبب، لأن اللحن ليس ضعيفا، مع أنه لا يصل إلى درجة اللمعان الفني التي تشع من اللحن الآخر. ولا يبقى أمام الباحث من جواب مقنع إلا الاستنتاج بأن سوء تقنية التسجيل هو السبب، وذلك أمر واضح لمن يستمع الآن إلى تسجيل الأغنية.

المهم أن لحن كمال الطويل في رابعة العدوية كان يمكن أن يكون نقطة انطلاق لتعاون طويل ومستمر بينه وبين أم كلثوم، لأن اللحن جاء على خلفية تأثر واضح بمزاج السنباطي في الألحان الدينية، وان كانت ملامح الشخصية المميزة لكمال الطويل ما تلبث أن تطل بوضوح عند انتقال اللحن من القسم المرسل في المطلع، إلى الأقسام الموقعة في المقاطع التالية، خاصة عند ظهور اللوازم الموسيقية التي تبدو فيها ملامح الشخصية الفنية المميزة لكمال الطويل صارخة المعالم.

غير أن موضوع العمل الثاني المشترك بين أم كلثوم وكمال الطويل كان مختلفا. فقد كلفته بتلحين نشيد «والله زمان يا سلاحي»، من أشعار توأمه الفني صلاح جاهين. ويبدو أن كمال الطويل وجد في كلام النشيد، وفي المناسبة القومية الحماسية التي أملت الكلام واللحن (أجواء العدوان على مصر، عقابا لها على تأميم قناة السويس) كل ذلك أطلق العنان في مخيلته الموسيقية، لإخراج كل ما في أعماقه من خلفية التأثر بسيد درويش، وألحانه الوطنية، والتعبير عن ذلك من خلال كتابة للأوركسترا (بوترياتها ونحاسيتها) وليس للتخت الموسيقي، حتى لو كان كبيرا بحجم الأوركسترا.

ولا يخفي كمال الطويل عند الحديث عن هذه التجربة أن أم كلثوم لم تكن مرتاحة إلى النحاسيات المستخدمة في الأوركسترا إضافة إلى الصنوج والطبل السمفوني، حتى أنها عبرت عن ذلك لكمال الطويل بمداعبة ساخرة في أثناء التسجيل، فسألته: «ألا يمكن استكمال اللحن دون هذه «الحلل» (الطناجر)؟ وكانت تتكلم وتشير إلى الآلات المستعارة من الأوركسترا السمفوني كالصنوج والطبل السمفوني وآلات النفخ النحاسية.

ومع أن كمال الطويل لم يستخدم هذه الآلات لغرض استعراضي شكلي، أو تلبية لعقدة نقص، بل تلبية منه لمتطلبات المعنى في الشعر ومتطلبات المناسبة، ومع أنه عبر عن كل ذلك بموهبة فنية عالية، أكدها ذلك الاستقبال العظيم الذي لقيه النشيد بين جماهير الأمة العربية كلها أولا، وفي الدوائر الحاكمة في مصر ثانيا، حتى أصبح نشيدا وطنيا لمصر لغاية توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل (أي قرابة 22 عاما)، فان من الواضح أن هذا اللحن كان يحمل اتجاها فنيا من خارج المزاج السائد لأم كلثوم في تلك المرحلة في حياتها.

إن الاستماع التحليلي لأداء أم كلثوم في ذلك النشيد يدفعنا إلى أن نكتشف فارقا في دقة الأداء وحلاوته والسيطرة على اللحن، بين المقطع الملحن من مقام البياتي (يا مجد يا مجدنا) الذي تبدو فيه سيطرة أم كلثوم على اللحن مطلقة، ونشوتها الداخلية به عارمة، فإذا وصلت إلى المقطع التالي (مصر الحرة مين يحميها) الذي صاغه كمال الطويل من صميم مزاجه الحديث، فان سيطرتها على اللحن تخف نسبيا، خاصة عندما تكرر عبارة «مصر الحرة مين يحميها» للمرة الثانية. مما يدفعنا للاستنتاج بأن فارق الأداء ناجم عن تطابق أو عدم تطابق اللحن مع المزاج الشخصي العميق لأم كلثوم.

صحيح أن أم كلثوم سبق لها أن أدت في العام 1937، في فيلم نشيد الأمل، لحن نشيد الجامعة لرياض السنباطي، الذي يتضمن في أحد مقاطعه لحنا للسنباطي بالغ الحداثة، خاصة عند عبارة «يا شباب النيل هيا للعلا تعاونوا»، وأنها أدته في حينه باقتدار وسيطرة وانسجام لا مثيل لها، غير أن ذلك النشيد تم تسجيله عندما كانت أم كلثوم ما تزال في صميم مرحلتها القصبجية، المشبعة بمثل هذه الألحان الحديثة، أما عندما سجلت «والله زمان يا سلاحي»، بعد ذلك بعقدين من الزمن، فكانت أم كلثوم قد خرجت من المرحلة القصبجية تماما، واستقرت على المرحلة السنباطية الكلثومية التي جاءت أكثر انسجاما مع أعماق مزاجها، الذي بقي مشدودا إلى جذور الإنشاد الديني.

وفي رأيي أن هذه الفوارق الفنية الحساسة، هي التي تفسر تحول «والله زمان يا سلاحي» (ثاني الحان كمال الطويل لأم كلثوم) إلى آخر ألحانه لها، علما بأن نجاحه المدوي، جماهيريا ورسميا، كان يبشر بمزيد من التعاون.

وإذا كان لنا أن نبحث عن أسباب أخرى إضافية، نحاول بها تفسير انقطاع التعاون، مع أن ثماره الأولى كانت في منتهى النجاح، فإننا نضيف احتمالين آخرين:

إن كمال الطويل تخصص بعد ذلك، لتلحين أناشيد عبد الحليم حافظ التي تحولت إلى نتاج موسمي يتكرر مع كل عيد لثورة 23 يوليو، ومع المناسبات الوطنية والقومية الكبرى. وهو نتاج كانت أم كلثوم، على عظمتها، ترى فيه منافسة مزعجة، لأنه يزاحمها في رغبتها بأن تكون النجمة الوحيدة لأعياد الثورة في كل عام، فكان منطقيا أن تبتعد أم كلثوم عن “الملحن الخاص” لأغنيات عبد الحليم حافظ الوطنية.

أن رياض السنباطي، الذي أمضى حتى ذلك الوقت عقدا كاملا من الزمن ملحنا وحيدا لأم كلثوم، أحس ببداية تسلل الملحنين الموهوبين الناشئين إلى ما كان يعتبره مملكة خاصة به، فانطلق فيما بين 1956و1960 (موسم بداية تعاون أم كلثوم مع بليغ حمدي)، يزود صوت أم كلثوم بثماني روائع جديدة (بمعدل لحنين كبيرين في العام الواحد)، جاءت كلها من تحف رياض السنباطي، بينها ثلاث قصائد: أغار من نسمة الجنوب، وقصة الأمس وثورة الشك، وخمس مطولات عاطفية ممتازة هي على التوالي، حسب ظهورها: عودت عيني، أروح لمين، هجرتك، الحب كده، لسه فاكر.

لقد ظهرت هذه التحف السنباطية الثمانية في مدى أربع سنوات، فحققت نجاحا فنيا وجماهيريا كان حريا به أن ينسي أم كلثوم موضوع التعاون مع الموجي والطويل، إلى أن دقت في العام 1960، ساعة التعاون مع بليغ حمدي، كما سنرى.

على أي حال، ومع أن تعاون كمال الطويل مع أم كلثوم ظل مقتصرا على نشيد والله زمان يا سلاحي، وقصيدة لغيرك ما مددت يدا الصوفية، فقد بقي هذان اللحنان أشبه بماستين مشعتين في خزانة مجوهرات أم كلثوم الفنية.

بــــليــــغ حمـدي

ثبت عمليا في مطلع عقد الستينيات، أن الرغبة الدفينة في نفس أم كلثوم للتجديد، في إطار الصيغة الكلثومية الواضحة المعالم كما أرستها بالتعاون مع رياض السنباطي، هذه الرغبة لم تهدأ في نفس أم كلثوم، بل زادت إلحاحا عليها، برغم المواسم الأربعة في النصف الثاني من الخمسينيات التي ملأها السنباطي بروائع لحنية مشهودة، وبرغم التوقف المؤقت لتجربتها الأولى مع محمد الموجي، والتوقف النهائي لتجربتها مع كمال الطويل.

هناك أكثر من رواية عن ظروف ذلك اللقاء المبكر والمفاجئ لأم كلثوم ببليغ حمدي، غير أن أكثر تلك الروايات ترددا تقول أن محمد فوزي هو الذي قدم لها الموهبة الموسيقية الجديدة، بعد أن كان فوزي يحاول صياغة لحن يقدمه لأم كلثوم، فكان بليغ حمدي هو البديل عن ذلك اللحن الذي لم ير النور. ولو صدقت هذه الرواية فأنها تصلح لتسجل بحروف بارزة في تاريخ تلك الحقبة الفنية، عن الأجواء التي كانت تدفع ملحنا شهيرا لأن بتنازل لملحن ناشئ عن فرصته التاريخية بالدخول في فريق ملحني مطربة القرن العشرين أم كلثوم.

ولكني أعتقد أنه لو لم تكن رغبة أم كلثوم بتجديد شباب الينبوع الموسيقي الذي تستقي منه ألحانها رغبة عارمة، لما قدر لمبادرة محمد فوزي النجاح، على جلالها وأهميتها.

بل إن زخم تلك الرغبة عند أم كلثوم كانت الدافع لتقوم، مع بليغ حمدي، بما يمكن تسميته بلا أي مبالغة «أكبر مغامرة فنية في حياة أم كلثوم»، وذلك لأسباب ثلاثة:

أنه عندما قبلت أم كلثوم لحن بليغ حمدي (الملحن الناشئ) لشعر عبد الوهاب محمد (الشاعر الناشئ أيضا)، لم يكن بليغ حمدي قد أتم الثلاثين من عمره، وكان ما يزال في منتصف الطريق إلى شهرته الفنية الكبيرة التي اكتسبها فيما بعد. أي أن أم كلثوم كانت، عند ذلك اللقاء الأول، في ضعف سن بليغ حمدي، وفي أضعاف شهرته الفنية.

أن أم كلثوم لم تفرض على الملحن الشاب المرور بمرحلة تجربية، قبل دخول «حرم» حفلاتها الشهرية، فتبدأ تعاملها بأغنية قصيرة أو نشيد وطني (كما فعلت مع محمد الموجي وكمال الطويل)، بل فتحت له رأسا الباب واسعا أمام الحفلات الشهرية منذ اللحن الأول.

أن بليغ حمدي قد تفرد بين كل الملحنين الشبان الذين تعاملت معهم أم كلثوم في العقدين الأخيرين من حياتها الفنية، بتحوله رأسا، ومنذ اللحن الأول، إلى ملحن موسمي ثابت لأم كلثوم، حتى آخر موسم غنائي في حياتها (وقد تساوى في ذلك مع محمد عبد الوهاب)، بل إن بليغ حمدي قد حظي بشرف تاريخي، أن يكون صاحب آخر لحن سجلته أم كلثوم بصوتها على اسطوانة في حياتها، هو لحن «حكم علينا الهوى» الذي لم يتح لها المرض فرصة غنائه على المسرح في حفلة حية.

ومع أن ارتباط اسم بليغ حمدي باسم أم كلثوم ارتباطا وثيقا ومتواصلا، وهو في تلك السن المبكرة، يعتبر هدية كبرى لبليغ حمدي، فالحقيقة هي أن أم كلثوم قد منحته هدية أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، إن لم تفقها، بالمعايير الفنية البحتة.

ذلك أن الذين يعملون في التلحين والتأليف الموسيقي، يمكن تقسيمهم إلى فئتين، كما في رياضة السباحة :

فئة سباحي المسافات الطويلة، وفئة سباحي المسافات القصيرة. ومعروف أن الانتماء إلى هذه الفئة أو تلك يقتضي توفر مواهب معينة تختلف بين فئة وأخرى، كما أن تمارين الفئة الأولى تختلف تماما عن تمارين الفئة الثانية.

وإذا تفحصنا مجمل رصيد بليغ حمدي الفني (باستثناء ما لحنه لأم كلثوم)، فان بالإمكان أن نكتشف أن قوة بليغ حمدي الفنية تكمن في أعماله القصيرة. حتى أن من أقوى ما لحن لأم كلثوم نفسها، ذلك النشيد الممتاز الذي وضعه لها في أعقاب هزيمة 1967: سقط النقاب عن الوجوه الغادرة، الذي يعتبر تحفة فنية حقيقية في لحنه وفي الأداء الغنائي لأم كلثوم.

لذلك، فإننا سنكتشف أن أم كلثوم لم تمنح الملحن الشاب فقط فرصة اقتران اسمه باسمها، بل منحته (أكثر من ذلك) فرصة أن يجرب من خلال صوتها العظيم، التحول من اختصاصي في الألحان القصيرة القوية، إلى اختصاصي في الألحان ذات النفس الطويل، كما تقضي بذلك التقاليد الراسخة لحفلاتها الشهرية.

فإذا القينا نظرة تحليلية شاملة على مجمل ما لحنه بليغ حمدي لأم كلثوم (باستثناء نشيد «سقط النقاب»)، فان بالإمكان تقسيمه بين مرحلتين: مرحلة ما قبل ظهور إنت عمري، ومرحلة ما بعد ظهور إنت عمري.

فما علاقة لحن إنت عمري لعبد الوهاب، بتقسيم الحان بليغ حمدي الكلثومية إلى مرحلتين؟

العلاقة بسيطة جدا وواضحة جدا، لقد كان بليغ حمدي، عندما بدأ التلحين لأم كلثوم يدخل معتركا فنيا كبيرا أكبر من خبرته المحدودة في ذلك الوقت (والخبرة هنا هي غير الموهبة). لذلك لم يكن أمام بليغ حمدي، وقد اقتحم بجرأة الشباب مجال التحدي الأكبر بالتلحين لأم كلثوم، سوى محاولة النسج على منوال من سبقه، فجاء لحنه الأول والرابع على النسق السنباطي (حب إيه، وكل ليلة وكل يوم) واللحن الثاني (أنساك) على نسق زكريا أحمد، بينما برزت في اللحن الثالث «ظلمنا الحب» بوادر شخصية بليغ حمدي. غير أن كل هذه الأعمال، إذا وضعت الآن على محك التحليل الفني الموضوعي، بعيدا عن النجاح الجماهيري الذي كان صوت أم كلثوم يؤمنه لأي لحن، فان هذه الألحان الأربعة الأولى كانت في أحسن أحوالها متوسطة المستوى، بل أن بالإمكان ملاحظة الضعف في أوصال اللحن الأول «حب إيه» ذي الجمل القصيرة النفس والبنيان الهندسي الضعيف.

هنا نضع يدنا على الفرصة الذهبية التي أتاحت لبليغ حمدي أن يجرب حظه مع صوت أم كلثوم، فيطور نفسه من لحن إلى لحن.

أما بعد ظهور إنت عمري التي أدخلت بعض ملامح النسق الوهابي (وليس كلها ) على أغنيات أم كلثوم، بالتركيز الواضح على المقدمات الموسيقية واللوازم الموسيقية التي تشد أجزاء المقطع الواحد إلى بعضها، كما تشد المقاطع إلى بعضها، كان بليغ حمدي قد أكمل تمارينه التلحينية بصوت أم كلثوم. واكتسب خبرة واضحة، لذلك يمكن أن نكتشف التطور والنضج الذي طرأ على ألحانه التي تلت ظهور إنت عمري، وخاصة الأربعة الأولى منها، التي يمكن اعتبارها أجمل وأقوى ما لحن بليغ حمدي لأم كلثوم، وهي على التوالي: سيرة الحب، بعيد عنك، فات الميعاد، ألف ليلة وليلة.

إن مراجعة سجل الحان بليغ حمدي في حفلات أم كلثوم الشهرية، تؤكد لنا أن الجمهور كان كريما في استقبال بليغ حمدي وتشجيعه، بدرجة توازي حماسة أم كلثوم لذلك الملحن الشاب.

فمن يراجع سجل الموسم الغنائي 1961/1960، يكتشف أولا أن الصدف الغريبة قد جمعت في أول حفلات ذلك الموسم (1960/12/1)، بين الظهور الأول لأول الحان بليغ حمدي لأم كلثوم (حب إيه) والظهور الأول لآخر الحان زكريا أحمد (هو صحيح). ومع أن حب إيه كانت من أضعف أغنيات أم كلثوم المسرحية المطولة، بينما كانت «هو صحيح» من تحف رصيدها الفني الكبير، فان حماسة أم كلثوم تضافرت في ذلك الموسم مع حماسة الجمهور، لتجعل «حب إيه» بندا ثابتا في الحفلات التسع التي قدمتها أم كلثوم في ذلك الموسم، بين ديسمبر ويوليو (بما فيها حفلة اتحاد المحامين العرب في فبراير، وحفلة أعياد الثورة في يوليو) بينما غابت «هو صحيح» عن ثلاث من هذه الحفلات التسع.

وللأمانة الموضوعية لا بد من التأكيد على أن هذا الكرم الحاتمي لأم كلثوم وللجمهور، لم يضيعه بليغ حمدي هدرا، بل استند إليه ليبذل مزيدا من الجهد والاجتهاد في تعامله مع أم كلثوم، فيفيد من هذه الفرصة التاريخية إلى أقصى مدى، ويقدم لمكتبة الموسيقى العربية المعاصرة أنضج ما في جعبته من ثمار فنية. كما أن الأمانة الموضوعية تقتضينا الإشارة إلى أن اندفاع بليغ حمدي في هذا المجال، قد أخذ يعاكسه في السنوات الأخيرة، التراجع الواضح في القدرات الصوتية لأم كلثوم، الأمر الذي انعكس على لحنيه الأخيرين لها: الحب كله، وحكم علينا الهوى، اللذين شكلا انحدارا في الخط البياني الذي كان قد بلغ الذروة في الألحان الأربعة (مرحلة ما بعد إنت عمري) وفي لحن نشيد «سقط النقاب».

لم يكسب بليغ حمدي فقط مزيدا من الشهرة، ومزيدا من الثقة بالنفس، بل كسب إضافة إلى ذلك خبرة ثمينة في صياغة الألحان ذات النفس الطويل آفادته في بعض أعماله لأصوات أخرى، أذكر منها على سبيل المثال أغنية «أنا بستناك» لنجاة الصغيرة، وأغنية موعود لعبد الحليم حافظ.

وإذا كان أبو العلا محمد ومحمد القصبجي هما أستاذا أم كلثوم المفضلين في مطلع حياتها الفنية، فان بليغ حمدي كان تلميذ أم كلثوم المفضل والمدلل في نهاية حياتها الفنية.

سيــــــد مكـــــــاوي

الشيخ سيد مكاوي، توأم صلاح جاهين في «الليلة الكبيرة» وسواها من روائع فنون الموسيقى الكلاسيكية الشعبية، كان آخر المنضمين إلى فريق ملحني أم كلثوم، على كلام لأول وأقدم شعرائها المعتمدين (أحمد رامي)، محققا بذلك حلما قضى عقدين من الزمن في محاولات متكررة لتحقيقه. لقد استقل سيد مكاوي قطار أم كلثوم في رحلته الأخيرة، في المحطات الخمس التي سبقت المحطة النهائية التي توقف عندها القطار.

فقد ظهرت «يا مسهرني» للمرة الأولى في حفلة 1972/4/6، التي لم تقدم بعدها أم كلثوم سوى أربع حفلات، كررت غناء «يا مسهرني» في ثلاث منها، ولم تغنها في حفلتها الأخيرة (1973/1/4) التي قصرتها على لحنين لعبد الوهاب والسنباطي (ليلة حب، والقلب يعشق).

ولم تقتصر سعادة سيد مكاوي على دخول جنة أم كلثوم، على آخر رمق (كما يقال) وقبل رحيلها مباشرة، بل إن أم كلثوم أغدقت عليه مبادرة لم تقم بمثلها مع أي من ملحنيها الجدد، فعمدت في المرة الثانية التي قدمت فيها يا «مسهرني» إلى استقباله على المسرح أمام الجمهور، ليتلقى التحية بنفسه على لحنه الأول والأخير لها.

وقد روى لي صلاح جاهين تفاصيل «معاناة» سيد مكاوي لتحقيق هذا الحلم، ونحن نستمع إلى الحفلة الأولى ل «يا مسهرني» من خلال المذياع، في منزل صلاح جاهين بشارع جامعة الدول العربية بالقاهرة. وخلاصة الحكاية أن سيد مكاوي لم يشذ عمن سبقه وتلاه من الملحنين في مصر، فكان يحلم بالتلحين لأم كلثوم ذات يوم، خاصة بعد أن نال اعترافا جماهيريا بموهبته الفنية بعد الليلة الكبيرة. غير أن صلاح جاهين يؤكد أن هذه الرغبة تحولت عند سيد مكاوي بالذات، إلى هاجس حقيقي، كان يصيبه بالإحباط، كلما بذل محاولة جديدة فاشلة. حتى أن صديق عمره صلاح جاهين أشفق عليه من شدة ضغط هذه المسألة على أعصابه، فحاول معالجة الأمر بسخريته العبقرية، عندما قال لسيد مكاوي: «ولا يهمك، هذا بتهوفن نفسه لم تغن له أم كلثوم، ومع ذلك فألحانه خالدة».

لقد راعى سيد مكاوي عندما أقيمت له فرصة تحقق حلمه بالتلحين لأم كلثوم، أن يوفق بين عناصر متعددة في معادلة متكاملة:

أن يصوغ اللحن وفقا لخطه الفني المتشدد في محافظته حتى ذلك الوقت (خرج سيد مكاوي قليلا عن هذا التشدد في ألحانه الأخيرة لوردة، في مجال المزاج المقامي، وفي مجال الاستعانة ببعض الآلات الغربية). حتى أن صلاح جاهين نشر في يوم الحفلة الأولى لأغنية “يا مسهرني” رسما كاريكاتوريا في جريدة الأهرام، رسم فيه واجهة المسرح الذي ستغني فيه أم كلثوم، وقد رفعت عليها يافطة بتوقيع “الشيخ سيد مكاوي”، كتبت عليها بالبنط العريض عبارة: “ممنوع دخول الآلات الغربية”.

أن يأتي اللحن في كل أجزائه مراعيا للمساحات المحدودة في صوت أم كلثوم، في آخر موسم غنائي لها.

أن يلبي رغبة أم كلثوم في أي تعديل في اللحن تبدي الرغبة فيه. بدليل أن المقطع الأول من الأغنية “اسأل عن اللي يقضي الليل”، في التسجيل الذي نشره سيد مكاوي للأغنية بصوته، بعد رحيل أم كلثوم، يحمل لحنا آخر (على مقام العجم) غير الذي قدمته أم كلثوم بصوتها (على مقام راست، مثل مطلع الأغنية).

وقد ثبت فيما بعد، أن سيد مكاوي كان قد أعد لحنا ثانيا لأم كلثوم، وبدأ بتحفيظها إياه أملا في أن تعود إلى الغناء. وهو ما لم يتحقق. وقد استخدمت المخرجة إنعام محمد علي قسما من التسجيل بصوت أم كلثوم، لمقطع قصير من هذا اللحن بصوت أم كلثوم، في مسلسلها الشهير عنها.

ويبدو أن الشيخ سيد مكاوي كان يعتز كثيرا بهذا اللحن الثاني، ويريد أن يحيطه بالنجاح الذي حققه لحن “يا مسهرني”، فكلفني شخصيا عندما زار بيروت، بالتوسط مع المغنية اللبنانية الكبيرة فيروز لسماع اللحن وأدائه. ولما أبديت رأيي بأن الحان سيد مكاوي (من قبل الاستماع إلى اللحن الجديد) لا تناسب صوت فيروز وأسلوبها في الأداء، أصر على موقفه، مؤكدا أن هذا اللحن يناسب صوتها تماما، في اعتقاده.

ولما لم تؤد تلك المحاولة إلى أي نتيجة، حوّل سيد مكاوي اللحن إلى المطربة وردة، وكانت يومها في عز مواسم حفلاتها الغنائية، بعد الفراغ الكبير الذي تركه رحيل أم كلثوم، فكانت “أوقاتي بتحلو” فاتحة لسلسلة من الألحان الطويلة لسيد مكاوي، حاول أن يعوض بها، من خلال وردة، ما فاته مع أم كلثوم.

لقد قدر لي أن أطلع بنفسي على مدى اعتزاز سيد مكاوي بتحقيق حلم عمره بالتلحين لأم كلثوم، عندما انتقلت، بعد الاستماع إلى الحفلة الأولى في منزل صلاح جاهين، إلى منزل زميل صحفي في مجلة روز اليوسف، كان يكمل فيه سيد مكاوي سهرته بعد انتهاء الحفلة، فإذا به يرفض أي محاولة لإسماعنا مقطعا من اللحن الجديد بصوته وعوده، ويفرض علينا أن نكمل معه السهرة حتى السادسة صباحا، ونحن نستمع وإياه إلى شريط الحفلة مسجلا بصوت أم كلثوم، يعاد ويستعاد حتى ساعة متقدمة من صباح اليوم التالي، وهو في حالة من النشوة التي تقارب حد الغيبوبة.

ألم يحقق الحلم الذي عجز عن تحقيقه عدد من زملائه الكبار الذين سبقوه في المحاولة ؟

إلياس سحاب

back to top