خلاصة تسريبات «ويكيليكس»: الخداع ركيزة الدبلوماسية في الشرق الأوسط
يدرك الجميع أن الأنظمة العربية الهشة سياسياً، التي تهددها الحماسة الشعبية لموقف المواجهة الإيراني، ترغب في رؤية إيران متعثرة، بيد أن هذه الرغبة لن تبدل على الأرجح الحسابات الأميركية، إذ ترفض وزارة الدفاع الأميركية قصف إيران لأن هذه العملية لن توقف برنامجها النووي، بل ستؤخره سنة أو اثنتين، حسبما أفاد وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس.
تحمل الدفعة الأخيرة من تسريبات "ويكيليكس" الدبلوماسية ما يدحض صحتها، ويرد ذلك في عنوان برقية 09DOHA728 التي أُرسلت من السفارة الأميركية في الدوحة، عاصمة قطر، ففي أعلى هذه البرقية كُتب: رئيس الوزراء القطري بشأن إيران: "يكذبون علينا ونكذب عليهم"، وهذا مؤكد، ففن إخفاء المواقف والنوايا الحقيقية وادعاء التحدث بصراحة قديم قدم الدبلوماسية بحد ذاتها، ولا شك أنه لا يقتصر على اللقاءات الإيرانية-القطرية... فمن السذاجة الاعتقاد أن هذا المبدأ عينه لم يُطبَّق في حوارات الولايات المتحدة مع حلفائها في الشرق الأوسط.لا تحتوي الوثائق المسرّبة حتى اليوم مفاجآت كثيرة، إلا أنها تورد فيضاً من المواد التي قد تحرج عدداً كبيراً من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بنشرها علانية أموراً تُقال عادة في السر. ركزت عناوين الأخبار الأولى، التي تناولت انعكاس هذه التسريبات على الشرق الأوسط، على أن بعض أبرز حلفاء الولايات المتحدة العرب المعتدلين حضوا واشنطن على قصف منشآت إيران النووية. سيُسر الإسرائيليون والأميركيون، الذين يُطالبون بالخطوة عينها، باستغلال هذه الأخبار. إلا أنها ستتسبب بإحراج شديد للأنظمة العربية المعنية، فلا تعكس مواقف حكام هذه المنطقة الموالين للولايات المتحدة آراء مواطنيهم، على العكس، أظهر استطلاع للرأي العام العربي عالي المصداقية أجرته جامعة ميريلاند هذه السنة أن 57% ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون أن تطوير إيران أسلحة نووية سينعكس إيجاباً على المنطقة. نتيجة لذلك، سيواجه هؤلاء الحكام مأزقاً كبيراً في أوطانهم وفي تعاملهم مع جيرانهم، بعد الكشف عن أن حكوماتهم حثت الولايات المتحدة على شن حرب ثالثة ضد بلد إسلامي.يدرك الجميع أن الأنظمة العربية الهشة سياسياً، التي تهددها الحماسة الشعبية لموقف المواجهة الإيراني، ترغب في رؤية إيران متعثرة، بيد أن هذه الرغبة لن تبدل على الأرجح الحسابات الأميركية، إذ ترفض وزارة الدفاع الأميركية قصف إيران لأن هذه العملية لن توقف برنامجها النووي، بل ستؤخره سنة أو اثنتين، حسبما أفاد وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس الأسبوع الماضي. وبالإضافة إلى رد الفعل الخطير الذي قد ينجم عن هذه الضربة ويهدد المصالح الأميركية في أرجاء المنطقة المختلفة، ذكر غيتس أن العملية العسكرية ستقوي نظام طهران وتضمن مضيه قدماً وبناءه أسلحة الردع الأقصى، قرار تُجمِع أجهزة الاستخبارات الأميركية على أن إيران لم تتخذه بعد.بما أن هذه الأنظمة خاطرت بتشجيعها خطوات لم تبدِ الولايات المتحدة أي ميل إلى القبول بها، فقد تجد نفسها في الأشهر المقبلة مرغمة على إنكار هذا الموقف بمبالغتها في الإعراب عن تقرّبها الرمزي من إيران، التي تتمتع بقدرة كبيرة على زعزعة استقرار هذه الأنظمة ومصالحها، فتسعى عادةً الأنظمة الضعيفة في المناطق الكثيرة الاضطرابات إلى التقليل من خسائرها. على سبيل المثال، في اليوم عينه الذي سُرّبت فيه وثائق "ويكيليكس"، كان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الذي يحظى بدعم المملكة العربية السعودية، في طهران، حيث عبر عن دعمه الحقوق النووية الإيرانية وعمل على تفادي أي مواجهة قد تنشب بسبب قرار سيصدر قريباً عن الأمم المتحدة ويُقال إنه سيتهم "حزب الله"، الذي يتمتع بدعم إيران، بالتورط في جريمة اغتيال والد الحريري، رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، عام 2005.لكن الإحراج الذي سببته تسريبات "ويكيليكس" الأخيرة لا يقتصر على الدول العربية التي طالبت بشن هجوم على إيران، فيُظهر الكثير من الوثائق التنافس الإقليمي بين قطر والمملكة العربية السعودية ومصر على تأدية دور وسيط السلام في المنطقة. فقد شدد القطريون على التقرب من أمثال إيران وحركة "حماس" الفلسطينية، ما حدا بخصومهم العرب إلى وصفهم بالأضحوكة الإيرانية في محادثاتهم السرية مع الدبلوماسيين الأميركيين. أضف إلى ذلك ما كشفه المسؤولون الإسرائيليون عن أن عدداً من حلفاء الولايات المتحدة في الخليج العربي يشعرون أن واشنطن تتجاهل باستمرار وجهات نظرهم. نتيجة لذلك، عمدوا إلى إيصال رسائلهم إلى الولايات المتحدة عبر إسرائيل، التي يصغي إليها من يمسكون بزمام السلطة في واشنطن. لكن أي حميمية استراتيجية بين إسرائيل وتلك الأنظمة العربية الأكثر تحفظاً تختفي مع إظهار بعض البرقيات أن المسؤولين الإسرائيليين لطالما نظروا بعين الريبة إلى بعض البضائع التي شملتها صفقات بيع الأسلحة بين الولايات المتحدة وتلك الأنظمة. فقد أوضح الإسرائيليون أنهم يخشون من أن توجَّه هذه الأسلحة ذات يوم ضد إسرائيل. علاوة على ذلك، يلحق بحلفاء الولايات المتحدة العرب الكثير من الإحراج في مسألة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. على سبيل المثال، أخبر وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك المسؤولين الأميركيين أن حكومته تشاورت مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والحكومة المصرية قبل تنفيذها عملية "الرصاص المصبوب"، الاعتداء الإسرائيلي على غزة الذي أودى في شتاء عام 2009-2008 بحياة نحو 1300 فلسطيني. (نفى عباس يوم الاثنين هذه الأخبار. وادعى أيضاً في دفاعه أنه رفض، وفق رواية باراك، الاقتراح الإسرائيلي بدخول غزة على دبابة إسرائيلية وبسط سيطرته عليها، شأنه في ذلك شأن المصريين). كذلك، حذر المسؤولون الإسرائيليون الأميركيين من أن عباس، الذي يحاولون التفاوض معه، ضعيف سياسياً ومن المستبعد أن يبقى في السلطة بعد عام 2011.حتى الإسرائيليون ظهروا في بعض البرقيات في صورة لا يحسدون عليها، فقد قدموا مراراً للمسؤولين الأميركيين قراءة قاتمة عن قدرات إيران النووية. على سبيل المثال، حذروا عام 2005 من أن الجمهورية الإسلامية "ستجتاز نقطة اللاعودة" في قدراتها النووية حين تتقن عملية تخصيب اليورانيوم. (تخطت إيران بالتأكيد هذه العتبة في مطلع عام 2006). وفي ربيع عام 2009، نبّه رئيس الوزراء الإسرائيلي عدداً من المسؤولين الأميركيين، الذين أتوا لزيارة بلده، إلى أن الخبراء الإسرائيليين يعتقدون أن إيران ستتمكن في غضون سنة أو اثنتين من تطوير أسلحة نووية. ولكن بحلول الصيف، كان رئيس الموساد مائير داغان يحذر من أن إيران ستصبح قادرة على إنتاج أول سلاح نووي لها بحلول عام 2014. نتيجة لذلك، بدأ بعض المسؤولين الأميركيين يُلاحظون أن الدفق المتواصل من التحاليل المتشائمة، التي يقدمها الإسرائيليون في اجتماعاتهم مع نظرائهم الأميركيين، ربما يخفي وراءه نية سياسية.جاء في إحدى البرقيات التي أُرسلت من السفارة الأميركية في تل أبيب بشأن اجتماع عُقد السنة الماضية بين مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية وجنرالات إسرائيليين ما يلي:"يؤكد الجنرال بايدتس أن إيران تحتاج إلى سنة كي تحصل على سلاح نووي وإلى سنتين ونصف السنة كي تبني ترسانة من ثلاثة أسلحة. وبحلول عام 2012، ستتمكن إيران من بناء سلاح في غضون أسبوع وترسانة خلال ستة أشهر. (تعليق: لم يتضح بعد ما إذا كان الإسرائيليون يعتقدون ذلك حقاً أو يستخدمون هذه التقديرات القاتمة ليعززوا شعور الإلحاح في الولايات المتحدة)".في الختام، يجب ألا ننسى أن اختيار الكلمات بدقة للحصول على رد الفعل المطلوب من المحاور هو في الواقع اللغة المتعارف عليها في الدبلوماسية.