فخ التضخم في آسيا

نشر في 09-02-2011
آخر تحديث 09-02-2011 | 00:00
 ستيفن س. روتش إن آسيا تعاني مشكلة التضخم، وكلما بكَّرَت في التعامل مع مشكلتها كان ذلك أفضل، ولكن من المؤسف أن حس الإلحاح مفقود في آسيا، ويبدو أن الاستعداد لمعالجة التضخم يعيقه إفراط آسيا في الاعتماد على الصادرات والطلب الخارجي، وبسبب خوفهم من انتكاسة الطلب في أسواق المستهلكين في عالم ما بعد الأزمة الذي لايزال هشاً، كان صناع القرار السياسي في آسيا عازفين عن اتخاذ موقف عدواني فيما يتصل بتثبيت استقرار الأسعار، وهذا لابد أن يتغير قبل فوات الأوان.

وباستثناء اليابان التي تظل غارقة في انكماش مزمن، فقد ارتفعت معدلات التضخم في آسيا إلى 5.3% في غضون عام واحد انتهي في نوفمبر 2010، بعد أن كان المعدل 3.5% قبل عام من تلك الفترة، والاتجاهات مقلقة بشكل خاص في البلدين العملاقين في المنطقة، حيث اخترق التضخم عتبة الـ5% في الصين وتجاوز نسبة الـ8% في الهند. ونمو الأسعار مقلق في إندونيسيا أيضا (7%)، وفي سنغافورة (3.8%)، وفي كوريا (3.5%)، وفي تايلاند (3%).

صحيح أن الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية يشكل عاملاً مهماً في زيادة التضخم الإجمالي في آسيا، ولكن هذا لا يُعَد تطوراً تافهاً بالنسبة للأسر المنخفضة الدخل في العالم النامي، حيث تشكل حصة المواد الغذائية في ميزانيات الأسر- 46% في الهند و33% في الصين- ما يقرب من ثلاثة أضعاف نظيراتها في البلدان المتقدمة.

وفي الوقت نفسه، كان هناك تدهور ملحوظ في التضخم «الأساسي»، الذي يستبعد أسعار المواد الغذائية والطاقة، ففي أواخر 2010 كان التضخم الأساسي السنوي في آسيا (باستثناء اليابان) عند مستوى 4%، أي أنه ارتفع بمقدار نقطة مئوية واحدة منذ أواخر عام 2009.

من بين الدروس الرئيسة المستفادة من التضخم الأعظم في سبعينيات القرن العشرين أن البنوك المركزية غير قادرة على توفير شعور زائف بالارتياح من خلال الفصل بين التضخم الإجمالي والتضخم الأساسي، والتأثيرات الجانبية لا مفر منها هنا، وبمجرد الزيادة في توقعات التضخم، يصبح التصحيح أكثر إيلاما، والنبأ الطيب هنا بالنسبة لآسيا هو أن أغلب السلطات النقدية في المنطقة تعمل في واقع الأمر على إحكام سياساتها، أما النبأ السيئ فهو أن هذه السلطات كانت بطيئة بوجه عام في التحرك في هذا الاتجاه. ويبدو أن الأسواق المالية تتوقع أكثر مما ينبغي من عملية إحكام السياسات النقدية في آسيا، أو على الأقل هذه هي الرسالة التي يمكن استخلاصها من الارتفاع الحاد الذي سجلته أسعار العملات الآسيوية، والتي يبدو الأمر وكأنها تستجيب للتحركات المتوقعة في أسعار الفائدة، وفي مقابل الدولار الأميركي، فإن سلة بنفس الوزن من عشر عملات رئيسة آسيوية (باستثناء عملة اليابان) أعادت إلى الأذهان التشوهات المرتبطة بالأزمة في الفترة 2008-2009، والآن عادت إلى مستويات ما قبل الأزمة.

لا شك أن البلدان التي يعتمد اقتصادها على التصدير ليس من الممكن أن تستخف بارتفاع قيمة العملة، فهذا من شأنه أن يقوض قدرتها التنافسية ويهدد بتآكل حصة البلاد في السوق العالمية، ويساعد في اجتذاب تدفقات رأس المال المسببة لزعزعة الاستقرار. وعلى خلفية المناخ الهش السائد في مرحلة ما بعد الأزمة، ومع توقعات الطلب غير المؤكدة في الأسواق الرئيسة في بلدان العالم المتقدم، فإن آسيا تجد نفسها في فخ سياسي كلاسيكي، فتجرجر قدميها فيما يتصل بإحكام السياسة النقدية، في حين تجازف بالتعرض للتأثير السلبي الناتج عن ارتفاع قيمة العملات.

هناك وسيلة واحدة تستطيع بها آسيا الخروج من هذه المعضلة: الزيادة الكبيرة في أسعار الفائدة الحقيقية أو المعدلة وفقاً للتضخم، والواقع أن أسعار الفائدة القياسية في الوقت الحالي أدنى من التضخم الإجمالي في الهند، وكوريا الجنوبية، وهونغ كونغ، وسنغافورة، وتايلاند، وإندونيسيا، أما في الصين وتايوان وماليزيا فهي إيجابية بدرجة طفيفة.

إن الدروس المستفادة من المعارك السابقة ضد التضخم واضحة فيما يتصل بنقطة أساسية واحدة: فمن غير الممكن احتواء الضغوط التضخمية بالاستعانة بأسعار فائدة حقيقية إيجابية، أو إيجابية بشكل طفيف، في الأمد القريب. والاستراتيجية الوحيدة الفعالة في مواجهة التضخم تستلزم تشديد السياسة النقدية بشكل عنيف وعلى النحو الذي يدفع أسعار الفائدة الأساسية إلى منطقة تقييدية. وطالما تأخرت هذه الخطوة، فإن تعديل السياسات النهائي سيكون أكثر إيلاماً، ويصدق نفس القول على العواقب المتصلة بالنمو وتشغيل العمالة. فبعد أن أصبحت معدلات التضخم- الإجمالية والأساسية- على مسار متسارع الآن، أصبحت البنوك المركزية الآسيوية غير قادرة على تحمل المزيد من الانزلاق إلى ما وراء المنحنى.

إن الأجندة الاستراتيجية الآسيوية تحمل العديد من البنود المهمة ومن غير الممكن أن تظل عالقة في فخ السياسات، ويصدق هذا بشكل خاص في حالة الصين، التي تركز حكومتها على ضرورات إعادة التوازن على نحو مؤيد للاستهلاك في خطتها الخمسية الثانية عشرة التي يفترض أن يبدأ العمل بها قريبا. وحتى الآن كانت القيادة الصينية تتبنى توجهاً محسوباً في التعامل مع التضخم، إذ تركز جهودها في الأساس على زيادة نسب الاحتياطي الإلزامي لدى البنوك في حين تقدم تدابير إدارة جديدة في التعامل مع الضغوط التي تفرضها أسعار المواد الغذائية، وتوافق على بضعة ارتفاعات رمزية في أسعار الفائدة، وتعمل على إدارة تعديل صاعد متواضع في قيمة العملة.

بيد أن هذا المزيج من تدابير إحكام السياسة الصينية لابد أن يتحول على نحو أكثر حسماً في اتجاه رفع أسعار الفائدة، ومع استمرار الاقتصاد الصيني في النمو بمعدل قريب من 10% سنوياً فإن الحكومة قادرة على خوض المزيد من المجازفة في الأمد القريب من أجل تمهيد الطريق أمام أجندة الإصلاح البنيوي.

الواقع أن معضلة الصين تشكل رمزاً لواحد من أعظم التحديات التي تواجه آسيا النامية: الحاجة إلى توجيه نموذج النمو بعيداً عن الطلب الخارجي وفي اتجاه الطلب الداخلي. ومن غير الممكن أن تتحقق هذه الغاية من دون زيادة أجور العمال وقوتهم الشرائية، ولكن في بيئة تضخمية متزايدة، فإن مثل هذه الجهود قد تغذي دوامة ارتفاع الأسعار والأجور، وهو نفس التفاعل القاتل الذي عاث فساداً في الولايات المتحدة في سبعينيات القرن العشرين. ولن يتسنى لآسيا أن تتجنب هذه المشكلة وأن تلتفت إلى المهمة الثقيلة المتمثلة في إعادة التوازن من خلال دعم الاستهلاك إلا من خلال وأد التضخم في مهده.

إن الدول السريعة النمو في آسيا، وعلى رأسها الصين، أصبحت تُعَد على نحو متزايد باعتبارها محركات قوية جديدة لعالم متعدد السرعات، وفي حين تعتزل هيئة المحلفين للتداول حول ما إذا كان العالم قد يشهد حقاً انتقالا سلسا للزعامة الاقتصادية العالمية، فيتعين على آسيا أن تواجه التحديات الحرجة التي قد تأتي بصحبة هذا الدور الجديد. وإذا لم يتم التعامل بفعالية مع التضخم الآن فقد يضر على نحو خطير بقدرة المنطقة على مواجهة هذه التحديات.

* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، والرئيس غير التنفيذي لشركة «مورغان ستانلي» في آسيا، ومؤلف «آسيا التالية».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top