أم كلثوم... السيرة والأغاني - السيرة الشخصية (الحلقة الخامسة) الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخ الأزهر كان دعامتها وحمايتها الضغوط التي واجهتها في القاهرة كادت تدفعها إلى الفرار والعودة إلى الريف
أم كلــثوم فـي القــاهرة:تثبيت الموقع في مواجهة العواصف
إن الكتابة في سيرة أم كلثوم الشخصية والفنية، بعد انقضاء ربع قرن ونيف على رحيلها، تغري كثيرا بالاستنتاج السهل الذي يؤكد أن ما حصدته أم كلثوم في القاهرة، من مجد فني كان نتيجة منطقية (بل ربما حتمية) لما بذلته وبذله والدها من جهود في مرحلة الاستعداد الطويل في الريف، صلّبت عودها الفني بإتقان فنون الإنشاد الديني، كما صلّبت عودها الإنساني بتحمل صعاب ومشقات هائلة، لتأمين انتشار فني مستحق إلى درجة وصول أصدائه إلى القاهرة. وهذا الاستنتاج السهل في المجال الفني يمهد لاستنتاج سهل آخر في المجال الإنساني، مفاده أن المجد الفني كان لا بد له من أن يقود أم كلثوم إلى صعود سلم الارتقاء الاجتماعي.هذا كلام شديد السهولة، لأنه يبدو متطابقا مع تسلسل أحداث الحياة الفنية والحياة الشخصية لأم كلثوم، ونحن ننظر إليها بعد ربع قرن ونيف على رحيل صاحبتها، وهو كلام شديد الإغراء أيضا، بدليل أن هذا الإغراء قد أوقع في فخه معظم الكتابات السريعة التي تتحدث عن ظاهرة أم كلثوم بعد رحيلها، وحتى قبل ذلك، عندما كان رسوخ قدمها على قمة الفن وقمة المجتمع في العقود الثلاثة الأخيرة من حياتها، قد أصبح من المسلمات التي لا جدال فيها.غير أن الغوص في الوقائع الموضوعية لحياة أم كلثوم في السنوات الأولى لمرحلتها القاهرية، والاستقراء الموضوعي لهذه الوقائع، سرعان ما ينبهنا إلى أن المجد الفني والارتقاء الاجتماعي الذي صنعته أم كلثوم في القاهرة، لم يكن ثمرة حتمية ولا نتيجة مؤكدة مضمونة وآلية، لمجرد انتقالها من الريف إلى العاصمة، مسلّحة بمزايا الصلابة الشخصية والمراس الفني للأصول الصعبة والراسخة للإنشاد الديني. بل على العكس من ذلك تماما، فقد حفلت سنوات أم كلثوم الأولى في القاهرة (بعد الانتقال الكبير في العام 1923) بأحداث ومواجهات على الصعيدين الفني والشخصي، كان كل حدث منها كافيا لترجيح كفة قرار «الفرار» من القاهرة، والعودة السالمة إلى الريف، خاصة في ذهن الشيخ إبراهيم البلتاجي، الذي بقى في تلك السنوات القاهرية الأولى صاحب القرار الحاسم في تحديد وجهة سير أم كلثوم، ومصيرها.كذلك، فإن رجحان كفة فكرة البقاء في القاهرة على فكرة العودة إلى الريف، لم تكن كافية لدفع سيرة أم كلثوم في طريق الاحتراف الفني الكامل الذي لا عودة عنه. فوقائع بدايات المرحلة القاهرية لأم كلثوم، تشير إلى وجود احتمال قوي (طيلة العام القاهري الأول، وربما العامين الأولين) بأن يستمر استقرار أم كلثوم وأسرتها (بالذات والدها الشيخ إبراهيم وشقيقها خالد) في القاهرة، ولكن من خلال مواصلة التخصص الفني الذي كانوا يمارسونه في الريف، أي إحياء حفلات الإنشاد الديني. وتثبت وقائع بدايات أم كلثوم الأولى في القاهرة، أن هذا الاحتمال كان في لحظات معينة، احتمالا جديا، ذلك أن انتقال أم كلثوم من إنشاد الابتهالات الدينية، إلى احتراف الغناء (بالمعنى الكامل والمواصفات الكاملة للاحتراف)، كان يوازي، بل من المؤكد أنه كان يتجاوز في قائمة القرارات المصيرية التي حددت مسيرة حياة أم كلثوم الشخصية والفنية، قرار الانتقال السكني من طماي الزهايرة إلى القاهرة.حتى أن بإمكاننا أن نستنتج (كما سنرى عند الدخول في التفاصيل الكاملة) أنه لولا رجحان كفة الانتقال التاريخي من ممارسة الإنشاد الديني، إلى ممارسة الغناء (بكامل مواصفاته وتقاليده)، لما طالت إقامة الشيخ إبراهيم البلتاجي وأسرته (بمن فيها ابنته الموهوبة أم كلثوم) في القاهرة، ولكانت العودة إلى طماي الزهيارة (أو إلى السنبلاوين، او المنصورة في أحسن الأحوال) هي النتيجة النهائية لتلك الرحلة التاريخية إلى القاهرة في العام 1923.ولكن دعونا لا نستبق الأحداث، ونعود إلى استقراء ملامح تلك المرحلة الانتقالية الأشد أهمية في تحديد مسيرة ومصير الظاهرة الفنية الاستثنائية التي تحمل اسم كلثوم.فمع أن كل بذور النهضة الغنائية والموسيقية الجادة قد زرعت في القاهرة بفعل التحولات الاجتماعية والفنية التي تحدثنا عنها مليا في الصفحات السابقة، ومع أن العام 1923، بل عقد العشرينيات كله، سيبدو لنا الآن (لدى نظرنا إليه في إطار القرن العشرين المنصرم) مائلا بكل أسباب التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الكبرى، التي كانت القاهرة مسرحا لها في العقود التالية ما بين الثلاثينيات والسستينيات، فإننا لو عدنا إلى واقع الحال الفني في تلك السنوات (بعيدا عن «الاحتمالات» التي كان مفعولها ما يزال مخبأ في علم الغيب)، فأن الفن الغنائي والموسيقي السائد عند انتقال أم كلثوم إلى القاهرة (باستثناء سيد درويش وثورته التي كانت ظاهرة «ناتئة» وسط الإطار السائد)، كان موقع السيادة فيه محجوزا لفن الترفيه.فعملاقا الفن الكلاسيكي الذي ازدهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (عبده الحامولي ومحمد عثمان) كانا قد رحلا في مطلع القرن العشرين. وتلاميذ هذين العملاقين من حفظة فنهما، انصرفوا إلى تسجيل تراث القرن التاسع عشر بواسطة ذلك الاختراع العجيب الجديد (الاسطوانة والفونوغراف). وهكذا بقي هذا التراث، سواء في الاسطوانات أو في الحفلات التي كان يحييها المنيلاوي والصفتي وعبد الحي حلمي وسواهم، أسير البيوت الموسرة، القادرة على اقتناء الفونوغراف، أو إحياء حفلات السمع لكبار مطربي مطلع القرن العشرين.لذلك، فقد نما إلى جانب ذلك الفن الكلاسيكي، وإلى جانب الفن المسرحي الذي بقي محافظا على تقديمه سلامة حجازي حتى رحيله في العام 1917، ثم أورثه لسيد درويش الذي ما لبث أن رحل بعده بست سنوات، نما وازدهر، إلى جانب تلك الفنون الكلاسيكية الراقية، ذلك الغناء الترفيهي البعيد كل البعد، في ينابيعه وفي أساليبه وفي توجهه، عن ينابيع وأساليب وتوجه الفنون الموسيقية والغنائية الكلاسيكية. فهو نوع من الغناء والموسيقى الذي تحفزه وتحركه دوافع الكسب المادي والارتزاق، أما أساليبه وأهدافه فتلتزم بمهمة أساسية هي الترفيه السريع العابر، في علب الليل. وبديهي أن يكون لهذا الفن تقاليد وقيم أخلاقية وأساليب معيشية تلزم كل أو معظم العاملين في حقله. ومن المؤكد أن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المضطربة التي مرت بمصر في بدايات القرن العشرين، كانت تجسيدا للآثار المضطربة لمشروع محمد في الاستقلال المجهض، ثم مشروع الخديوي إسماعيل الجامح المستحيل لتحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، ثم مواجهة النفوذ الانجليزي الاحتلالي، كل ذلك داخل إطار التبعية القانونية والدستورية المصرية للسلطنة العثمانية (بكل ما لهذا الإطار من مفاعيل سياسية وثقافية)، وصولا إلى ظروف الحرب العالمية الأولى وما رافقها من عزل لخديوي مصر عباس حلمي، مع بداية انهيار الإمبراطورية العثمانية، وإحلال السلطان حسين كامل محله، ثم السلطان فؤاد (تحول اسمه إلى الملك فؤاد الأول بعد ذلك)لقد كانت مصر وسط كل هذه التحولات السياسية الصاخبة على أرضها، تبحث عن شخصيتها المعاصرة، وسط فسيفساء من التيارات الثقافية المتنوعة التي كان كل واحد منها يجسد على أرض الواقع مفهوما من المفاهيم المتضاربة، التي يعبر كل منها عن تيار من تلك التيارات الصاخبة المتضاربة.وسط هذا المخاض، ومع انحسار الفن الكلاسيكي بنماذجه ورجاله عن الساحة الفنية الأساسية مع بدايات القرن العشرين، كان طبيعيا أن يزحف الفن الترفيهي، بقيمه وأساليبه وتقاليده ونجومه، ليملأ الفراغ، ويتسيّد الساحة.ومع أن هذا الجو لم يكن ذا آثار سلبية مطلقة، إذ يكفي أنه انتج فن الطقطوقة الغنائية التي أنشأها الفنان المغمور محمد علي لعبة(19) ثم طورها وارتقى بها سيد درويش وزكريا وعبد الوهاب والقصبجي والسنباطي وسواهم ، فأن الطبيعة الترفيهية الخفيفة لذلك النمط الفني السائد، قد أدت إلى انحطاط في الكلمة واللحن والأداء، في ذلك العصر، فكانت الحدود مائعة رجراجة بين المغنية و»العالمة» (وهو لفظ بالعامية المصرية جمعه اللغوي عوالم، يطلق على نوع من الفنانات يمتهنّ المزج بين الغناء والرقص والترفيه).غناء العوالمإن طغيان هذا اللون من «الفن» على الساحة العامة، وتخصص النساء به، قد أدى إلى ولادة نمط من أسلوب الأداء الغنائي (النسائي بالذات)، الذي يمكن أن نطلق عليه مجازا تعبير «غناء العوالم»، كما أدى إلى درجة تحوله إلى ما يشبه «الوباء الفني» الذي أصابت العدوى به حتى المغنيات اللواتي لا يمكن تصنيفهن (فنيا واجتماعيا) في فئة «العوالم».ولم تنتج من هذه العدوى حتى كبيرة المغنيات في العصر ما قبل الكلثومي «سلطانة الطرب» منيرة المهدية. وهذا ما سنتناوله بمزيد من التفصيل في صفحات تالية. هذا الجو العام للغناء السائد في القاهرة عند انتقال أم كلثوم إليها من الريف، وهو جو وصل إلى حد السيادة الكاملة في تقاليده وأساليبه لدى المغنيات المحترفات، وهكذا فإن كل ما في هذا الجو كان مناقضا تماما لكل مكونات الشخصية الإنسانية والفنية التي جاءت بها أم كلثوم من الريف إلى القاهرة، وهو تناقض حاد إلى درجة أنه كان مرشحا لأن يشكل لأم كلثوم (ووالدها الشيخ إبراهيم) صدمة كاملة تثـنيهم عن المقارعة التي تتطلب جهودا هائلة وطاقة هائلة على التحمل، مع فرص ضئيلة لاحتمالات النجاح.إن الصمود في وجه النفوذ الطاغي لذلك النمط الغنائي النسائي السائد في تلك الأيام، كان لا بد له من الاعتماد على نوعين من العناصر:عنصر امتلاك قوة الشخصية التي تساعد على مقاومة إغراءات الأجواء التي يفرضها امتهان الغناء بالنسبة لمغنية موهوبة. ولا شك بأن قوة الشخصية هذه تستند إلى التربية العائلية والبيئة العائلية من جهة، كما تستند من جهة ثانية إلى مستوى التربية الفنية الممهدة لاحتراف الغناء.كان واضحا منذ البداية أن هذه العناصر المتعلقة بقوة الشخصية ومتانة التربية الفنية التأسيسية، كانت متوفرة بدرجة عالية لأم كلثوم القادمة من الريف إلى القاهرة.● عنصر امتلاك ما يكفي من المواهب الفنية، التي تسمح للفنانة التي تريد احتراف فن الغناء، بأن ترفض الانتماء إلى الأجواء السائدة التي تغلب عليها تقاليد وأساليب الفن الترفيهي الرخيص. وكان واضحا أن أم كلثوم القادمة من الريف إلى القاهرة، تمتلك عنصرا واحدا من المواهب الفنية المطلوبة، هو عنصر الموهبة الصوتية، وهو عنصر ضروري ولكنه غير كاف لأداء مهمة مقارعة الفن الترفيهي السائد والمسيطر، بنمط آخر في الفن الكلاسيكي الجديد. فمثل هذه المهمة كانت تتطلب ظهور وتعاون مجموعة من المواهب المتميزة والجادة في الغناء وكتابة الشعر الغنائي، والتلحين.إذن، كان مصير أم كلثوم العملي عندما انتقلت إلى القاهرة مع والدها، يمكن أن يتحدد عبر مسارات عديدة:إما أن تستقر في القاهرة، وتحتفظ بلونها الفني الذي اشتهرت به في الأرياف، لون الإنشاد الديني. على أن يكون تميزها في هذا اللون محصورا في كونها صوتا نسائيا متميزا، يؤدي لونا بقي حتى ذلك الوقت محصورا بالأصوات الرجالية لكبار المشايخ.أو أن تصدمها أجواء الغناء النسائي الترفيهي السائدة في القاهرة فتقرر الانكفاء، والعودة إلى الأرياف، تتابع فيها ممارسة لون الإنشاد الديني الذي تميزت به واشتهرت. خاصة بعد أن تزامن انتقالها إلى القاهرة مع الرحيل المفاجئ لسيد درويش. مما قضى على الاحتمال النظري بإمكانية اكتشاف سيد درويش لصوت أم كلثوم، وضمها إلى فرقته المسرحية بديلة لحياة صبري، التي شاركته الغناء في معظم أغنياته المسرحية.أما المسار الثالث الذي صعدت أم كلثوم سلمه درجة درجة،وصولا إلى قمة المجد الفني وقمة الارتقاء الاجتماعي، فقد كان يلزمه، إضافة إلى الأدوات الشخصية والفنية التي حملتها أم كلثوم من الريف إلى القاهرة، إلى أن يكمل الحظ لعبته مع أم كلثوم، فتتيح لها العثور على بيئة اجتماعية وفنية قاهرية تستطيع من جهة أن تبعث الاطمئنان والسكينة في أعماق هذه الفتاة القادمة من الأجواء الريفية المحافظة، إلى أجواء الفن الصاخبة في العاصمة، كما تستطيع من جهة ثانية أن توجد لهذه الموهبة الاستثنائية الإطار الفني الصالح لتستقر فيه استقرارا نهائيا في عاصمة الفن المصري والعربي، وتتصرف بالكامل إلى بذل الجهد المطلوب لشق طريق جديد لفن الغناء العربي الكلاسيكي الجاد، بعد الفراغ الذي خلّفه اكتمال دورة نهضة القرن التاسع عشر، ورحيل مبدعيها الكبار.طبعا، بالإمكان متابعة تفاصيل الحياة الشخصية والفنية لأم كلثوم، في سنواتها القاهرية الأولى، بما يملأ كتابا مستقلا ضخما (ولعل ذلك يكون مهمة يتصدى لها أحد المؤرخين في يوم من الأيام). غير أننا إذا توخينا التركيز على الخلاصات النهائية المفيدة، أمكننا القول أن ثلاث شخصيات قاهرية وضعها القدر في طريق أم كلثوم، لتلعب أدوارا متكاملة، ساهمت كل شخصية منها بنسبة في إيجاد القاعدة الصلبة التي انطلقت منها أم كلثوم، في طريق التحول من منشدة ابتهالات دينية في أرياف الوجه البحري، إلى سيدة الغناء العربي النسائي الكلاسيكي على امتداد القرن العشرين. هذه الشخصيات الثلاث، هي على التوالي: الشيخ مصطفى عبد الرازق، الشيخ أبو العلا محمد، والشاعر ِأحمد رامي.لم تكن الحماية من حملات التشهير الشرسة التي تعرضت لها أم كلثوم عندما بدأت الأوساط الفنية القاهرية تلتفت إلى موهبتها الغنائية، هي المهمة الوحيدة التي تكاملت جهود هؤلاء الثلاثة في أدائها، بل إن إحاطتهم بأم كلثوم (خاصة في سنواتها القاهرية الأولى) كانت لها مهمة أهم وأخطر هي إيجاد الظروف التي تشعر معها أم كلثوم (ووالدها) وتقتنع بأن هناك طريقا ثالثا يمكن لموهبتها أن تسلكه، غير الانغماس في الغناء الترفيهي الرخيص السائد خاصة بين المغنيات في تلك الأيام، وغير الانكفاء في دائرة الإنشاد الديني، الذي كانت التقاليد – وما زالت – تجعله مقتصرا على المنشدين الرجال. وسنتعرف فيما يلي إلى ملامح كل من الأدوار التي قامت بها هذه الشخصيات عند ذلك المنعطف الحاسم في حياة أم كلثوم، كما سنضع يدنا على مدى التكامل بين كل من هذه الأدوار.مصطفــى عبــد الرازق شيخ الأزهر المولع بالثقافة والفنـون ولد الشيخ مصطفى عبد الرازق سنة 1885، وحصل على العالمية من الأزهر سنة 1908، وسافر إلى باريس سنة 1909، وبقي في فرنسا حتى سنة 1914، وحصل على الدكتوراه من جامعة السوريون عن رسالة بعنوان «الأمام الشافعي، أكبر المشرعين في الإسلام». وعاد إلى مصر بعد ذلك ليعمل أستاذا للفلسفة الإسلامية، وعندما وصلت أم كلثوم إلى القاهرة سنة 1923، كان الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذا للفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول في ذلك الوقت) ثم أصبح وزيرا للأوقاف في العام 1938، وتولى هذا المنصب ثماني مرات بين 1938 و1945,حصل في تلك الفترة على لقب «باشا»، فأصبح لقبه الرسمي «الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا». وعندما توفي شيخ الأزهر مصطفى المراغي في العام 1945، حل محله الشيخ مصطفى عبد الرازق، وشغل هذا المنصب حتى يوم وفاته في العام 1947. ولكنه رأى عند توليه المنصب، أن منصب شيخ الأزهر لا يجوز أن يجاوره لقب آخر، فتنازل عن لقب الباشوية.غير أن هذه السيرة الموجزة، لم تعرض كل ملامح ذلك الشيخ الذي كان له دور بارز في تأسيس القاعدة الصلبة التي انطلق منها فن أم كلثوم. فقد كان الشيخ مصطفى (وهو بالمناسبة شقيق الشيخ علي عبد الرازق، صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، الذي أثار ضجة كبرى عند صدوره سنة 1926) كان الشيخ مصطفى، إلى جانب ثقافته الدينية العالية، أديبا وفنانا وصاحب ذوق رفيع. فقد بدأ حياته شاعرا ينشر قصائده وهو طالب في الأزهر في بدايات القرن العشرين. وله كتاب يروي فيه ذكرياته الباريسية من 1909 حتى 1914، عنوانه «مذكرات مسافر»، وكتاب آخر عنوانه «صفحات من سفر الحياة» (كلمة سفر تقرأ بكسر السين وتسكين الفاء). ومن يقرأ هذين الكتابين، يكتشف الملامح الفنية في شخصية الشيخ مصطفى عبد الرازق .شيخ الأزهرولعل من المفيد والمهم، قبل الحديث عن الدور المباشر الذي لعبه الشيخ مصطفى عبد الرازق في توجيه دفة حياة أم كلثوم، عند ذلك المنعطف الحاسم، استكمال ملامح شخصية ذلك الشيخ المتفرد في ذلك العصر المليء بالمخاض الحضاري الثقافي والفني، الذي كانت تصطرع فيه وتتفاعل تيارات ثقافية وفنية متناقضة حينا، ومتفاعلة أو متكاملة حينا آخر.ففي مقال نشرته مجلة «العربي» الكويتية في عدد يناير (كانون الثاني) سنة 1965، كتب الدكتور عثمان أمين (أحد تلامذة الشيخ مصطفى النابغين، ورئيس قسم الفلسفة في جامعة القاهرة) شهادة جوهرية هامة يضع فيها إصبعه بدقة على ما كان يميز الشيخ مصطفى عبد الرازق عن أقرانه المشايخ في ذلك العصر بالذات:«من المفيد أن نشير إلى جانب في حياة مصطفى عبد الرازق غير مألوف عند شيوخ المسلمين والشيوخ الأزهريين بصفة خاصة، ذلك هو الجانب الجمالي في نظرته إلى العالم. وليس عجيبا أن يهمل كتاب سيرته هذا الجانب من جوانب حياة الشيخ، لأن آخر مناصبه الدينية كان منصب شيخ الأزهر. وقد جرت الأحكام العامة على أن تضع حواجز بين الدين والحياة، ودفعت الأوهام هذه الأحكام إلى أن تتخيل تعارضا بين الفن والدين، وهو زعم خاطئ ناشئ عن انحراف في فهم كل من الفن والدين. وقد كانت للشيخ مصطفى عبد الرازق روح جمالية واضحة، فهو بالرغم من تحفظه وحذره الطبيعي، كان دائما شغوفا بتوسيع خبرته في الحياة، عاملا على تفسيره الجمالي لها. وكان تفسيره، خلافا للكثيرين ممن كانت لهم مثل تجاربه، بعيدا عن نوازع الاستهتار ، لأن ما في طبعه من رقة ولطافة، وفهم وتعاطف، قد جعله يرى الجمال الذي لا تكشفه عيون المستهترين. وقد عبر مصطفى عبد الرازق عن تجاربه تعبيرا شائقا. ففي بعض رسائله الأولى غير المنشورة، وصف باريس وصفا تحدث فيه عن الرسم والموسيقى والنحت والرقص والحدائق الغنّاء، التي تمتزج فيها الابتسامات بالدموع، وهذه الرسائل وحدها كافيه لتخليد المفكّر الأديب الفنان، أكثر مما خلّدته محاضراته الجامعية عن الفلسفة والفقه وعلم الكلام» .إن دقة وعمق ملامح هذه الصورة لشخصية وفكر الشيخ مصطفى عبد الرازق، تفسر لنا بوضوح كامل أن وقوف الشيخ مصطفى إلى جانب أم كلثوم، وهي تجتاز المنعطف الخطير بين الانكفاء إلى الريف، أو خوض غمار المغامرة الفنية الكبرى المحفوفة بالمخاطر في القاهرة، لم يصدر فقط عن شهامة وخلق نبيل، ورغبة إنسانية عامة بمساعدة من يحتاج إلى المساعدة، بل كانت، أبعد وأعمق من ذلك بكثير، تعبيرا عن موقف حضاري واضح من العلاقة بين الدين من جهة، والحياة والفن من جهة ثانية، موقف ينحاز بوضوح إلى الاستنارة الرصينة الأصيلة، في مواجهة تيار الانغلاق المدمر من جهة، والتهتك الرخيص من جهة ثانية.أما بالنسبة لعلاقة الشيخ مصطفى عبد الرازق المباشرة بالبدايات القاهرية لأم كلثوم، فقد كانت مقتصرة في بادئ الأمر على الإعجاب الفني الذي لم يكن غريبا على متذوقي الفنون كالشيخ مصطفى عبد الرازق، وإن كان هذا الإعجاب من شيخ جليل، شهادة مبكرة على رصانة الفن الذي كانت تقدمه أم كلثوم منذ البداية، ورفعة مستواه. وقد كان من أمر ذلك الإعجاب المبكر للشيخ مصطفى عبد الرازق بفن المطربة الناشئة أم كلثوم، أن قررت (ووالدها) اختيار العيش على مقربة منه التماسا لرعايته وحمايته، ليس فقط لما أبداه من حماس للصوت الجديد وإعجاب به، بل لأنه (إضافة إلى ذلك) ينتمي إلى منطقة ريفية بعيدة عن طماي الزهايرة، فأسرته من قرية «أبو جرج» في محافظة المنيا، وهذا مصدر اطمئنان كاف لوالد أم كلثوم. والحقيقة أن أم كلثوم، لم تثر في سنتيها الأوليين غيرة المطربات اللامعات في القاهرة في ذلك العصر، ذلك أنها كانت ما تزال (إلى جانب حداثة سنها وحداثة تجربتها) تحصر ممارستها الفنية بأداء الإنشاد الديني (من غير أي مصاحبة موسيقية)، وتلتزم الظهور على المسرح بالملابس الذكورية، إضافة إلى اعتمار الكوفية والعقال على رأسها. الأمر الذي لم يكن يستثير – حتى ذلك الوقت المبكر – غيرة أو اهتمام أو انتباه أي من شهيرات الطرب في القاهرة، برغم بداية التفات البعض، إلى ظهور فتاة ريفية جديدة، ذات صوت جميل.ولعل المشهد النموذجي الذي يشير إلى عدم اكتراث الوسط الفني النسائي في القاهرة بأم كلثوم، في سنواتها الأولى، وعدم تخوفه منها، هو مشهد اللقاء المبكر بين أم كلثوم، وإحدى شهيرات الغناء في ذلك الزمن “فاطمة قدري”، ويبدو أن زمن هذا المشهد كان في أيام تردد أم كلثوم إلى القاهرة وضواحيها، قبل استقرارها النهائي فيها. ويروى أن مجلس المطربة فاطمة قدري كان مفعما بالحديث الساخر عن تلك الفتاة الريفية (أم كلثوم) صاحبة الصوت الذي “لا بأس به”، والتي “لا تغني كما يغني الناس، بل “تولّد النبي” عليه الصلاة والسلام، وتنشد الأناشيد في موالد الريف، وتلبس العقال”.حسد منيرة المهديةغير أن بداية انتقال أم كلثوم من الإنشاد الديني، إلى الغناء الدنيوي، في النماذج الأولى من الحان الشيخ أبو العلا محمد، وأحمد صبري النجريدي، فجّرت كل دواعي الحسد والغيرة الفنية، ليس لدى منيرة المهدية وحدها، كما توحي معظم الكتابات في هذا الموضوع، بل لدى مجموعة المطربات اللواتي كن يتصدرن ساحة الغناء في عقد العشرينيات من القرن العشرين، واللواتي أحسسن – وإن بدرجات متفاوتة – بأهمية ذلك الصوت النسائي الجديد، الذي دخل معهن في منافسة جدية، ليس فقط بحلاوة وقوة صوت المطربة الجديدة، بل بملامح فنية مختلفة ولون جديد في التلحين والغناء، جعل مطربات تلك الأيام يشعرن بأن ذوقا فنيا جديدا بدأ يغز الساحة، وأن عصرا فنيا جديدا يوشك أن يبدأ.وبما أن كل واحدة من شهيرات الطرب في تلك الأيام، كانت محاطة بمجموعة من المعجبين في الأوساط الاجتماعية صاحبة النفوذ، وبشلّة من الصحافيين، فأن بإمكاننا أن نتخيل اتساع الجبهة التي استنفرتها منيرة المهدية وفتحية أحمد وسواهن، لمهاجمة أم كلثوم، عندما بدأ يلوح في فنها خطر المنافسة الجادة.غير أن الحلقة الأقوى في هذه الحملة الشرسة التي اندفعت للقضاء على “خطر” أم كلثوم وهو في المهد، كانت الحملة التي شنتها عليها مجلة “المسرح”. وهذا منعطف هام في حياة أم كلثوم يستحق التوقف عنده، ليس فقط لعلاقته بمصاعب النشأة في حياتها، بل أيضا لما مثله كصورة من صور الحياة الفنية والثقافية والاجتماعية في الثلث الأول من القرن العشرين، في عاصمة الفن العربي القاهرة.اكتسبت مجلة المسرح في العشرينيات شهرة سريعة كأبرز مجلة فنية في القاهرة، وكان يملكها ويرأس تحريرها أكبر ناقد فني في مصر في ذلك العصر، وأحد أكبر النقاد في تاريخ المسرح العربي مع أنه مات وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وهو محمد عبد المجيد حلمي (1903 –1927)، أما عمره في الكتابة الصحافية والنقد المسرحي فلم يتجاوز السنوات الخمس. فقد بدأ الكتابة في جريدة “كوكب الشرق”، ثم أنشأ مجلة المسرح في العام 1925، وظل يصدرها أسبوعيا حتى يوم وفاته في 27 أغسطس (آب) 1927.ويبدو أن صراحة ذلك الناقد وجرأته منحتاه موقفا مميزا بين نقاد عصره، ولكن التاريخ سجل سقطته الكبرى بتحوله إلى رأس حربة للحملة الصحافية التي حركتها منيرة المهدية ضد أم كلثوم. أما وجه “السقوط” في تلك الحملة، فلم يكن عدم الإعجاب بصوت المطربة الجديدة أم كلثوم، بل تحويل الحملة من الالتزام بحدود النقد الفني، إلى حملة تشهير شخصي عنيف، يترك الفن وشؤونه، ويخوض في الحياة الشخصية والأعراض، ولا يكتفي بذلك بل يعمد إلى اختلاق التهم الكاذبة وتحويلها إلى مادة لحملة التشهير.وبوسع القارئ طبعا أن يتخيل قوة هذا “السلاح” في ذلك الوقت المبكر في مطلع القرن العشرين، في مجتمع محافظ، وخاصة عندما يوجه هذا السلاح إلى فتاة ريفية، حديثة العهد بالقاهرة، وفي العشرينيات من عمرها، ومتخصصة أصلا بالإنشاد الديني.خلاصة الإشاعة التي بنى عليها محمد عبد المجيد حلمي حملة التشهير بأم كلثوم (لحساب منيرة المهدية) في العام 1926، أن أم كلثوم رفعت دعوى قضائية على شاب في قريتها غرر بها ورفض أن يتزوجها. ووعدت المجلة بأن توافي القراء بالتفاصيل الكاملة للقصة في أعدادها القادمة، غير أنها لم تفعل.لقد كانت هذه الحملة من القسوة والشراسة في السنة الرابعة لإقامة أم كلثوم بالقاهرة، ما دفع بوالدها الشيخ إبراهيم إلى اتخاذ قرار بإلغاء كل المشاريع الفنية لأم كلثوم، المؤسسة على فكرة الإقامة الدائمة في القاهرة، والعودة سريعا إلى الريف.هنا، برز الدور التاريخي للشيخ مصطفى عبد الرازق، رجل الدين وابن العائلة الريفية الأرستقراطية، ومحب الفنون، فلم يكتف بأن يفتح لها ولوالدها المستهدف بالحملة الصحافية، أبواب قصره، بل أغدق عليهما رعايته المادية والمعنوية، وتوج كل ذلك بكتابة سلسلة من المقالات في جريدة “السياسة” دفاعا عن أم كلثوم، وصدّا للحملات التي قامت ضدها. وإن كانت هذه المقالات لم تحمل اسمه الصريح، لأسباب تتعلق طبعا بمركزه الديني، بل اكتفى بتذييلها بثلاث نقاط.ولا شك بأن الوزن الديني والثقافي والاجتماعي للشيخ مصطفى عبد الرازق وإشهاره سيف الدفاع عنها، لم يؤديا فقط إلى وقف حملات مجلة المسرح (التي توفي صاحبها على أي حال في العام التالي كما رأينا) بل أقام سدا منيعا في وجه سائر الحملات الصحافية على أم كلثوم، التي كانت تطلقها جهات أخرى بطلب من مطربات أخريات، غير منيرة المهدية. ولا شك أيضا بأن هذا الدور الحاسم في حياة أم كلثوم، في تلك المرحلة الحاسمة المبكرة، قد أوجد علاقة حميمة بين تلك الفنانة الصغيرة الناشئة، وذلك المرجع الديني والفكري والثقافي الكبير، كان له أبرز الأثر في رفع المستوى الثقافي والاجتماعي، لتلك الفتاة القادمة من الريف، بشخصية قوية، ويقظة لا حدود لها.إلياس سحابغــــــــــــــــــــــــــداًابو العلا محمد تلميذ الحامولي واحمد رامي العائد من باريس أكملا مشوار الدعم والحماية