المجددون والتجديد في الإسلام 12 الطرق الصوفيَّة... خطاب مغاير

نشر في 06-09-2010 | 00:00
آخر تحديث 06-09-2010 | 00:00
تكمن وراء الاستمرار الظاهري للطرق الصوفية، بوصفها تمثّل تجمعات تقليدية، محاولات دائبة ودائمة للتجدد والتكيف مع التغيرات، ونجاح مستمر في إعادة تعريف الذات والمعايير وأنساق القيم، وتطوير الدور التاريخي التقليدي ليواكب المستجدات والتطورات التي لا تتوقف أبداً.

شمل هذا التحديث الخطاب والممارسة معاً، حيث تبنت الطرق الصوفية مقولات عدة «الإصلاح الديني» من دون أن تتخلى عن خصوصيتها، التي تميزها عن الأشكال الأخرى لجمعنة الدين، أو تحويله إلى ظواهر اجتماعية عبر أنماط محددة من التدين. ويتوازى هذا مع تجديد المتصوفة لمؤشرات القيم وأنماط التصرفات، ما جعل بعض الطرق الصوفية، إن لم تكن غالبيتها، يصبح عنصر جذب للعناصر المحدثة، لا سيما في المجتمعات الحضرية، بعد أن تخلص مريدوها من شوائب وخرافات تصم غيرهم من المنضوين تحت لواء الطرق الصوفية العاجزة عن مواكبة التحديث، وأبدوا وعياً ظاهراً بأهمية الرهانات السياسية، حتى ولو لم يتورطوا فيها بصيغة مباشرة.

ومن هنا يمكن الحديث عن طرق صوفية إصلاحية بطبعها، جنباً إلى جنب مع الطرق التي فُرض الإصلاح عليها، إما بفعل الضغط الاجتماعي أو بحكم ما تفرضه الجماعات والتنظيمات الإسلامية المسيّسة، أو حتى الذي تطلبه السلطة السياسية في إطار حرصها على أن تظل الطرق الصوفية مصدر جذب للباحثين عن الامتلاء الروحي والدفء الاجتماعي، بدلاً من أن ينخرطوا في صفوف جماعات إسلامية تناصب السلطة العداء، وتطرح نفسها بديلاً لها. وثمة عامل مهم في هذا المضمار يتمثل في وجود بعض القيادات أو الرموز الإصلاحية داخل طرق صوفية معينة، يهمه أن يحفظ للتصوف جلاله، بعيداً عن المظاهرة الاحتفالية الفلكلورية التي ينزلق إليها بعض الطرق.

وهذه الكوابح ساعدت بعض الطرق على أن يؤّمن الحد الأدنى أو المقبول من الممارسات والسلوكيات، جنباً إلى جنب مع بناء شبكة من الخدمات الاجتماعية، والأعمال الخيرية. فالعشيرة المحمدية قطعت شوطاً بالغاً على هذا الدرب، والحامدية الشاذلية توغلت إلى حد بعيد فيه بعد أن أقامت بنية تنظيمية متكاملة الأركان، والطريقة العزمية، اتسمت بطابعها الإصلاحي منذ لحظة انطلاقها، حين أظهرت بعض الالتزام القومي والوطني، عبر المشاركة في حركة الكفاح المدني ضد الاحتلال الإنكليزي لمصر، والمساهمة في الحرب ضد إسرائيل عام 1948. وقبل ذلك، انخرط بعض مريدي الطريقة الخلوتية في أعمال الثورة العرابية 1882، وظلّ على حاله من التمرد والثورة حتى بعد هزيمة عرابي واحتلال الإنكليز لمصر. وكانت أشهر مجموعات الخلوتية المشاركة في الثورة العرابية مجموعة «القاياتية» في محافظة المنيا (صعيد مصر) بقيادة محمد عبد المجيد، الذي تمكن الإنكليز من اعتقاله وصدر قرار بنفيه وشقيقه وخمسة من مريديه إلى بيروت.

وفي تركيا مثلاً، عزّزت النقشبندية مواردها الاقتصادية، وجلبت إليها تعاطف بعض السياسيين، وسعيهم في الوقت ذاته إلى توظيف قدراتها الاجتماعية وطاقتها الروحية لخدمة مشروعهم السياسي، لكنها لم تتخل عن قديمها، أو مسلكها التقليدي، ممثلاً في إحياء بعض القيم العثمانية، والعودة إلى ألفة التكايا، مستغلة الأوقاف التي تشكل قاعدة الطرق الصوفية الاقتصادية. وقد استغلت النقشبندية بعض هذه الموارد في تعزيز مشاريع التحديث من خلال دعم أنشطة تتعلق بالأعمال التربوية والتعليمية، مثل دور النشر والمطبوعات، وتقديم بعض المنح الدراسية.

يرى مختار غامبو أن الطرق الصوفية صارت تشكِّل ثقافة شبابية في بلد مثل المغرب، بعد أن استوعبت جميع أفراد المجتمع على اختلاف أعمارهم وأنواعهم ومكانتهم وتوجهاتهم ومشاربهم، وجذبتهم إلى تسامحها وتفسيراتها «المرنة» للدين ونبذها التطرف، وتبنيها للتحديث والحداثة، وإعلائها الاهتمام بمبادئ إنسانية وجمالية، بما يتيح للأفراد أن يعيشوا نمطاً متوازناً يسمح لهم بالاستمتاع بالفنون والموسيقى والحب من دون أن يضطروا إلى التنازل عن التزاماتهم الروحانية والدينية. وعلى التوازي استعار عازفو موسيقى «الراب» و{الهيب هوب»، على رغم حسيتها وماديتها ودنيويتها، بأشعار صوفية في غنائهم. ويظهر أثر الصوفية على الثقافة الشبابية بشكل أكثر وضوحاً في كلمات أناشيد فرقتي شعبيتين هما «ناس الغيوان» ومطربي «الغناوة» الصحراويين، اللتين تكونتا في سبعينيات القرن العشرين.

ثمة حالات عدة طرق صوفية تماهت مع مشاريع الحداثة، إما بالمساهمة في صناعتها، أو مجاراتها، أو الوقوع في فخ قشور التحديث ومظاهره من دون التوغل إلى جوهره العامر بالمعاني والإنجازات.

قشور التحديث

تبدو قشور التحديث في مسلك أتباع الشيخ الأمين عمر الأمين في السودان، وهي مسألة يرصدها حسام تمام في كتابه «مع الحركات الإسلامية في العالم- رموز وتجارب وأفكار»، حيث يقول: «حين نزلت إلى السودان سألت عن الشيوخ الشباب ممن لهم حضور وتأثير في أوساط الشباب، فأجمع الأصدقاء على أنه الشيخ الأمين عمر الأمين، شيخ الزاوية المكاشفية القادرية في أم درمان، والذي وصفه البعض بأنه شيخ مودرن، كلامه جيكسي ومحايته بيبسي».

ويضيف: «حين تزور هذه الزاوية لا بد من أن تراجع الصورة التقليدية عن زوايا الصوفية فهي ليست، كما استقر في وعينا، المكان النائي البعيد الذي يشبه كثيراً أديرة الرهبان، أو المكان الذي يأوي إليه الفقراء المعوزون أو قبلة المنصرفين عن الحياة الهاربين منها بحثاً عن النجاة، بل ثمة صورة مختلفة تماماً إلى النقيض. فالزاوية في حي راق، ملحقة بفيللا واسعة يملكها شيخها، وتطل على ساحة كبيرة، وما تكاد تقترب حتى تفاجئك طوابير لأفخم السيارات تشغل الشارع المؤدي إليها والشوارع الجانبية منه، بل ستجد صعوبة في الوصول إليها بالسيارة بسبب الزحام الشديد الذي يؤدي إلى أزمة مرورية في كل درس أو حضرة. وتزداد الدهشة مع تصفح جمهور الحضور فالغالبية العظمى من الشباب الذين تطل من وجوههم أمارات اليسر والنعيم والانتماء لعائلات وطبقات اجتماعية جد ميسورة ومميزة، تعرفت إلى بعضهم: مهندسون وأطباء ومحامون ورجال أعمال، أحدهم يعمل مهندساً في الحاسب الآلي، هو الذي تولى تعريفي بالزاوية والحضور الذين كانوا قد انتهوا لتوهم من حضرة في الساحة».

وعلى النقيض من ذلك، ثمة صوفية انطلقت إلى جوهر التحديث وساهمت في صنعه، مثل الجماعة التي تحلقت حول الشيخ فتح الله جولان في تركيا، وهو تلميذ الشيخ سعيد النورسي. فالشيخ غولان ليس شيخاً تقليدياً بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا شيخ طريقة صوفية ولا هو بالسياسي الذي يتخذ من الإسلام أيديولوجية له، بل هو مزيج من ذلك كله، وإن كان أظهر ما في شخصيته الوعظ والتربية النابعة من الإسلام. وقد قدم الشيخ نموذجاً فريداً للعمل الإسلامي في ظل ظروف بالغة الصعوبة، وتمكن من المضي في عمله وحركته بعيداً عن المحن والابتلاءات التي واجهتها حركات إسلامية كثيرة في المشرق العربي تحديداً، فتحايل على العلمانية التركية، وانطلق إلى العالمية من خلال تبنيه لفكرة مهمة وهي أن الدعوة إلى الإسلام لا بد من أن تسير مهما قست الظروف أو استعصت. وقد دعا جولان تلامذته إلى الاستفادة من أجواء الانفتاح التي شهدتها تركيا، ففتحوا البنوك الإسلامية، وأنشأوا محطات الإذاعة والتلفزيون والمدارس والجامعات.

وفي المغرب نفسه، وبعيداً عن علاقة الصوفية بالفنون الحديثة، أدّت الطرق الصوفية أدواراً ملموسة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، لا سيما في عهد الدولة العلوية. ومن بين الأدوار الاجتماعية والعمرانية التي قدمتها الطرق الصوفية المغربية، توفير الإيواء لعدد من أبناء السبيل، وإطعام الطعام ولا سيما في أوقات المجاعات، وتأمين الطرق بالهيبة والرهبة، وحماية الناس من العمال الظالمين، وضمان التوازن وتدبيره بين جماعات تحتاج إلى توازن القوى في ما بينها، والإشراف على بعض شؤون الإسكان والتدخل لفض النزاعات التي تنشب حوله، وكسر الحواجز القبلية أو تليينها، والعمل على دمج المهمشين والغرباء في المجتمع. وثمة دور اقتصادي للطرق الصوفية المغربية مثل، استصلاح الأراضي، وغرس الأشجار، وحفر الآبار، وتوفير سياج لحماية الطوائف الحرفية في المدن، والإشراف على أمن الأسواق، والعمل على ربط مناطق كثيرة تجارياً. في المقابل، فإن المتصوفة المغاربة يعملون على ضمان الولاء للإمامة، ولا يتعدى دورهم السياسي الإيجابي حاجز التوسط في الخير بين الحاكم والمحكومين.

ويتحدث أحد مريدي الطريقة العزمية في محافظة كفر الشيخ (دلتا مصر)، وهو يعمل مهندساً مدنياً، عن أن الطريقة تجمع تبرعات شهرية من المنتمين إليها، لتنفقها في خدمات اجتماعية عدة، مثل: مساعدة الأسر الفقيرة، وتقديم مساعدات للتلامذة والطلاب المحتاجين، وإنشاء المستوصفات لعلاج الفقراء، وإنشاء وإصلاح المساجد والمعاهد الدينية، وتأسيس مدراس صوفية لتخريج الدعاة.

الميراث والواقع

يرسم عون قاسم ملامح العلاقة بين الصوفية كميراث روحي وبين تحديث الواقع الاجتماعي المادي بقوله: «الاهتمام الذي توليه الدولة للتراث الروحي لا ينبع من مجرد عاطفة التقديس للقديم، بصرف النظر عن قيمة هذا القديم، ولا ينبع من مجرد الرغبة في معرفة حقائق التاريخ، أو نفض الغبار عن آثار الماضي، مع أهمية ذلك كله، لكنه ينبع من حقيقة موضوعية فحواها أن هذا التراث الروحي هو المكون الحقيقي لشخصية الفرد، والمقوم الأساسي لكيان المجتمع، وكل تخطيط اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو ثقافي لا يأخذ هذا الفهم في الاعتبار يكون قد تجاهل أساس المجتمع الواقعي. وفي حقيقة الأمر فإنه يمكن أن نستثمر القيم الروحية كافة والمواضيع الاجتماعية القائمة عليها في بناء مؤسساتنا الاجتماعية والسياسية والتعليمية وما إليها. فمثلاً، موضوع توقير الصغار للكبار، واحترام الكبار للصغار، الذي تستند إليه علاقاتنا في الأسرة وفي المجتمع، هو أساس الديمقراطية المتسامحة، وهو من هذه الناحية أساس نفسي واجتماعي جاهز لتنظيم مؤسساتنا الدستورية والتنفيذية والشعبية، ومتى استغللنا هذه العاطفة الخيرة في نفوس الناس، استطعنا أن نتفادى في المجال السياسي كثيراً من الأخطاء الناجمة عن استيراد نظم نابعة من تجارب مجتمعات لا تمت إلى حياتنا بصلة، وأن نتفادى في حياتنا الاجتماعية كثيراً من الشرور والجرائم الناجمة عن تمرد الشباب ورفضهم، واستفحال الأمراض النفسية والاجتماعية في أوساطهم».

أما عن الصوفية والحداثة فإن الفلسفة حفلت بالحديث المسهب عن هذه النقطة، وأعلت في هذا الشأن من قدر رموز المتصوفة، وفي مطلعهم محيي الدين بن عربي، الذي عبر عن أعلى درجات الحداثة الفكرية في أبيات شهيرة من الشعر حواها كتابه «ترجمان الأشواق» تقول:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة‏‏

فمرعى لغزلان ودير لرهبان‏‏

وبيت لأوثان وكعبة طائف

‏‏وألواح توراة ومصحف قرآن

‏‏أدين بدين الحب أنى توجهت‏‏

ركائبه فالحب ديني وايماني‏‏

وينطلق ابن عربي من رؤية عامة شاملة للإنسان، تحترم الإنسان بغض النظر عن عرقه ولونه ومذهبه فالانسان لديه يجمع العالم في شخصه فالعالم إنسان كبير والإنسان عالم مختصر.

الشاعر المتصوف في عشقه للحرية، وفي انفلاته من كل القوانين الفقيهة التي تضع قوالب للدين، يكوِّن العشق والفناء المباشر مع الله، ومع الغيب، ومع المطلق. وتأتي النبرة الصوفية في النقد والشعر الحداثيين المعاصرين محاولة من الذات لتأكيد ذاتها الأخرى، لحظة الخروج من ماضيهما، محاولة إثبات الجدارة عبر الانتماء إلى وجود حضاري متميز، ومحاولة لصياغة لغة الثورة على الغرب ومقاومة الإخضاع الاستعماري والوحدة والنضال ضد هذا الإخضاع.

ويجسد أدونيس حالة بارزة لتعالى النبرة الصوفية في شعر حداثي، حيث كان يسعى منذ بداياته إلى الوصول، بالشعر وعبره، إلى أفق آخر من الرفض والتجربة الخاصة، قائم على مفاهيم الحدس والكشف، بلغة مغرقة في غموضها وغرابتها، مدفوعاً باشتغاله التنظيري في قراءة الماضي، من بين أوائل الشعراء العرب الذين حاولوا البحث عن أوجه التشابه بين الصوفية والحداثة، سائراً، لكن بشكل مختلف، على درب حركة الرومنسية العربية، ورائدها جبران خليل جبران، في العودة إلى الصوفية، عبر التركيز على الكلمات المفاتيح المجسدة في الحرية والخيال والطهارة والبراءة والطبيعة والخير والحّب والأحلام والصفاء الروحي والرهان على الذوق بدل العقل.

ويرى أدونيس أن النصّ الشعري العربي المعاصر أحوج ما يكون إلى التعبير الصوفي المغرق في عوالمه الخاصة، المتجاوزة لزمنها بأشواط، وأحوج إلى الممارسة الشعرية البعيدة عن نظرية الممدوح، وبلاغة المشاكلة والمماثلة والإصابة التي بني عليها عمود الشعر في تراثنا قروناً طويلة. ويحاول أدونيس أن يجد مساحة ائتلاف بين الصوفية المتدينة والحداثة كرؤية لادينية، فيؤكد أن الكون بالنسبة إلى الغربي موضوع مجابهة، وهو بالنسبة إلى الصوفية موضوع مؤالفة، أي حين يجابه الغربي الكون مستنداً إلى العقل، فإن الصوفي يتفهمه ويحتضنه بحدسه. ويبدو الكون موضوعاً خارجياً لدى الأول فيما أنه داخلي لدى الثاني، أي شخصي وليس موضوعياً، ذلك أن الوجود ليس مجرد قضية عقلية، وإنما هو رسالة. ومع هذا اصطدم أدونيس وهو يحاول أن يدمج الصوفية في مشروعه الشعري الحداثي بالمرتكزات الدينية للصوفية، التي تتمسك الأخيرة بها بحكم انتمائها ونشأتها وتاريخها ومداراتها ومختلف سياقاتها.

ويشرح عامر عبد زيد هذه المفارقة بقوله: «الملاحظ أن الخطاب الصوفي له بعدان، الأول البعد العالمي سواء في ماضي هذه التجربة أم اتساعها في كل الديانات والثقافات، وهذا يؤكد أن الإنسان يملك حساً عميقاً يكاد يكون من صفاته القريبة، هذا الحس الذي يتوحد فيه الخالق مع المخلوق سواء كان ذلك عبر ذوبان الذات في الخالق أم حلول مقدرة الأخير في المخلوق، وهي حالات أبداً لا يمكن أن تؤخذ على حرفيتها، بل إنها ذات بعد مجازي تخيلي يعبر بها المتصوف عن تجربة ذات أفق لا متناهٍ وغير القابل على أن يترجم إلا عبر اللغة وبالتالي فإن المحاولات تغدو في عقلنة هذه التجربة تمثل حالة تجن مارستها السلطة الفقهية، فحملت الكلمات معاني حرفية، فأسقطت اللامحدود في حدود المحدود وبالتالي أعطيت معنى حرفياً قضى على الاستعارات فاتهم المتصوفة بما لم يقولوه... والأفق العالمي التصوفي لا يعني زوال هويته الإسلامية أو التوحيدية، بل يؤكد عمق التجربة وتجذرها في المخيلة الإنسانية».

التجديد وتحولات الدين إلى أيديولوجيا

في عملية تجديد الفقه والفكر الإسلامي من الضروري أن نعي أمراً مهماً ألا وهو الفروق الواسعة بين الدين والتدين وعلوم الدين من فقه وتفسير وحديث وسيرة. فالأول يتجلى في النص الإلهي لحظة نزوله وإثباته، والثاني ينتج من تفاعل الناس مع النص عبر تأويله والوقوف على معانيه ومراميه، سواء أدى هذا التفاعل إلى الطاعة والاتباع، أم قاد إلى المعصية والابتداع، أو اجتهد في تحويل الابتداع إلى إبداع وتفاعل خلاق مع النص بإنتاج أطر نظرية وممارسات تواكب حركة الحياة التي لا تتوقف، عبر إيجاد ما يلزم من فقه الواقع.

وتحت ظلال التدين الذي يجد تفسيراً له أو تبريراً في علوم الدين، يصير الدين أحياناً مجرد أيديولوجية حين يرتبط بظاهرة السلطة لدى الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الديني، والتي تبدأ بالمؤتلف مع الجماعة الوطنية تماماً والمستظل بأطر وأدوات الدولة الحديثة مثل «الأحزاب السياسية الإسلامية»، وتنتهي بالتنظيمات الموغلة في الخروج والعداء مثل تنظيم «القاعدة».

وأدلجة الدين الإسلامي ليست ظاهرة حديثة، بل تعود إلى زمن الفتنة الكبرى، حين دب الخلاف بين المسلمين وراح كل فريق يبحث عن تأويل للنص القرآني يخدم مصالحه، ثم بدأت مرحلة أخطر تمثلت في الكذب على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بوضع أحاديث منسوبة إليه. وكان هذا الانحراف قد أصاب الأديان السماوية الأخرى، فاليهود صبغوا دينهم بصبغة سياسية منذ «وعد يهوه» إلى «وعد بلفور» وما بعده، ووصل الأمر إلى ذروته بإقامة دولة على أساس ديني وهي «إسرائيل»، ذلك للمرة الأولى والأخيرة، حتى الآن، في تاريخ الإنسانية قاطبة. وجرى الأمر على المسيحية منذ أن احتمت الكنيسة بسيف قسطنطين في القرن الرابع الميلادي، فظهرت نظرية «الحق الإلهي للملوك»، وتحول رجال الدين إلى سلاطين، ما يظهر في البيان الذي أصدره البابا أنوسنت الثالث في سنة 1066 وأعطى نفسه الحق في إصدار القوانين، وأن يقبّل كل ملوك وأمراء الأرض قدميه، وجعل من نفسه شخصاً مقدساً لا يذنب ولا يأثم، ولا يجوز لأحد أن يحاكمه، وكل فرد يحتمي به لا يمكن الحكم عليه أو ملاحقته.

وبلغ الأمر مداه في الحروب التي قامت باسم الأديان، فالإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة أشهرت سيوفها بحثاً عن الأرض والثروة والمجد، وقفزت على دفاعية الحرب وعدالتها حسب ما يفرض القرآن العظيم، وحولتها إلى حروب هجومية، مدعية أنها تنشر دين الله. وأفرطت المسيحية في هذا حين انطلقت جيوش «الفرنجة» إلى بلاد الشرق رافعة شعار «الصليب» وقتلت وشردت في زحفها المتكرر مئات الآلاف من المسيحيين في جنوب أوروبا، ناهيك عن الدماء التي سالت على أرض الشام في المعارك الطويلة بينهم وبين جيوش المسلمين. وارتكبت العصابات الصهيونية أبشع المذابح على أرض فلسطين، ووصل الأمر إلى حد أن قتل جيش الحرب الإسرائيلي الأسرى العرب، في سبيل تحقيق نبوءة دينية مزعومة.

وثمة اتفاق بين بعض علماء الاجتماع والأنثربولوجيا على أن ظهور الأيديولوجيات ما كان ليحدث في ظل المجتمعات الزراعية السابقة على الثورة الصناعية، نظراً إلى أن الدين والتقاليد كانا يقومان بوظيفة مماثلة لما أصبحت الأيديولوجيا تقوم به في ما بعد. لكن ظهور الأيديولوجيات لم ينه تجليات الأديان الاجتماعية، ولم يقض على الوظائف التي يقوم بها الدين في تفسير بعض المواقف التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية، ولم تؤد الدور العقدي للأديان، في جانبه الغيبي.

ويميز فيليب برو بين الأيديولوجيا والدين في كون الأولى لا تقيم علاقة مع المقولات فوق الطبيعية، وبينما تؤسس الأديان وجودها على الوحي، الذي يعني انبثاق المعرقة من مصدر إلهي، تسعى الأيديولوجيات جاهدة إلى إقامة سلطانها على قواعد بشرية.

ولا يمكن للأيديولوجيا أن تغني عن الدين، وليس بوسعها مهما تكاملت أن تحل مكانه، أو تلغيه، أو حتى تحيده. فكل من تصور أن هذا ممكن وقع في خطأ فادح، والتجارب كافة التي طبقت في هذا الاتجاه انتهت إلى فشل ذريع. وإذا كان البعض يحول الدين إلى أيديولوجيا حين يخلطه بالسياسة، مثلما يفعل اليمين المسيحي المتطرف في أميركا وغيرها، وكثير من الأحزاب اليهودية المتشددة، والجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، المعتدل منها والمتطرف، فإن هذا كله لا يعني أن الدين أيديولوجيا محضة، أو أن الأخيرة بوسعها تحقيق الامتلاء الروحي والنفسي الذي تمنحه الأديان، وليس بوسع أي فكرة أو نظرية أو توجه الحلول مكان الذات الإلهية في كمالها وعظمتها وقدرتها وجلالها. فسبحان الحي الذي لا يموت، والقيوم الذي لا ينام، من لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، الأول بلا ابتداء ولا شيء قبله، والآخر بلا انتهاء ولا شيء بعده، لا شيء مثله ولا إله غيره.

وثمة حالة وسطى بين الدين والأيديولوجيا. حالة تلبس ثوب الأسطورة، أو الإيمان بزعيم ديني أو قائد سياسي ذي شخصية ملهمة ساحرة، قادرة على التأثير في أتباعه تأثيراً دفيناً وقوياً، ليصبح الواحد منهم بين يديه كالميت بين يدي مغسله، في استسلام تام، واستلاب كامل، وانبهار بكل ما يصدر عنه من قول أو فعل.

back to top