واشنطن تضيّع الوقت فيما تحترق باكستان في حرب أهلية
لا شك أن المؤسسة الأمنية الباكستانية لن تعرض بلدها لخطر أكبر، إلا أنها سترى في الانسحاب الأميركي وعودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، وإن بشكل جزئي، فرصة للبدء بدفع الوضع الحرج في باكستان نحو الاستقرار.
لا شك أن العلاقة بين المؤسسة الأمنية الباكستانية وحركة طالبان في أفغانستان، التي يُفترض أن تسريبات ويكيليكس "كشفتها"، لم تشكّل أخباراً جديدة، إلا أنها أثارت دفقاً مألوفاً من الكتابات في واشنطن عن "مشكلة باكستان" الأميركية.اشتكى الخبراء من أن باكستان تتلاعب بطرفي النزاع في أفغانستان، وسأل أعضاء الكونغرس: متى ستعي باكستان أن أعداء الولايات المتحدة هم أعداؤها هي أيضاً؟ ولمَ لا يحاول البيت الأبيض الضغط عليها؟كما هو متوقع في خطاب سياسي يدير أذناً صماء إلى تأثير عقوبات الولايات المتحدة في الخارج، لم يتطرق أحد إلى "مشكلة الولايات المتحدة" الباكستانية، مع أن ذلك قد يكون مفتاح فهم هذه المسألة.أعادت ملحمة ويكيليكس ببساطة تأكيد ما هو مسلّم به بين مراقبي الوضع الأفغاني، ففي كل جلسة استماع عُقدت في الكونغرس عن أفغانستان منذ عام 2004، طُرحت فكرة أن ملاجئ طالبان في باكستان تعزز حركة التمرد وأن قيادة طالبان تعمل انطلاقاً من مدينة كويتا، وخلال الفترة عينها، تحدث فيض متواصل من التقارير الإعلامية عن عمليات باكستانية متواصلة تمدّ المتمردين الأفغان بالأسلحة والمؤن، كذلك عقد الجيش الباكستاني دورياً اتفاقات عدم اعتداء مع المتمردين في المناطق القبلية تركت لهم حرية العمل في أفغانستان، ما داموا يمتنعون عن شن اعتداءات داخل الأراضي الباكستانية.شكّل حض باكستان على "فعل المزيد" ضد طالبان نقطة روتينية تطرق إليها المبعوثون الأميركيون إلى باكستان خلال الجزء الأكبر من العقد الماضي. وقد حدثت مواجهات دورية بين الطرفين، خصوصاً عندما قدّم مسؤولون في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عام 2008 إلى الاستخبارات الباكستانية أدلة تربطها بتفجير نفذته شبكة حقاني في كابول.وفي الشهر الماضي، نشر ماثيو والدمان، باحث في هارفارد، دراسة ارتكزت على شهادات عدد من القادة المتمردين، ففصل هؤلاء القادة الدور الرئيس الذي لعبته الاستخبارات الباكستانية في إدارة وحدات طالبان الأفغانية وشبكة حقاني.رغم كل ذلك، أدت باكستان دوراً بارزاً في الحملة الأميركية ضد القاعدة، ونتيجة لذلك، عانت أكثر من أي حليف آخر للولايات المتحدة، فقد وافق الرئيس السابق، الجنرال برويز مشرف، تحت ضغط مهول عقب الاعتداءات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، على دعم الرد الأميركي على هذه الاعتداءات في أفغانستان، لكن شعبه كان يعارض بأغلبيته التعاون مع الولايات المتحدة، وأظهرت استفتاءات الرأي حينذاك أن ما يزيد على 80% من الباكستانيين كانوا يتعاطفون مع طالبان.كانت حركة طالبان تتمتع بحماية المؤسسة العسكرية الباكستانية، التي أوصلتها إلى السلطة في عام 1996 بغية فرض الاستقرار في أفغانستان بعد الحقبة السوفياتية من خلال نظام حكم يكون موالياً لها. لطالما كان هدف باكستان في أفغانستان تفادي أن تحيط بها الهند استراتيجياً، مع العلم أن الهند تسعى للهدف عينه، محاولة منع باكستان من الإحاطة بها، فقد شكّلت نيودلهي دوماً راعياً إقليمياً للتحالف الشمالي المناهض لطالبان، الذي أوصل حميد كرزاي إلى السلطة.دفعت باكستان ثمناً باهظاً لقاء تعاونها مع واشنطن، ويعارض بعض الأميركيين اليوم إنهاء الحرب في أفغانستان لأن هذه الخطوة ستمنح حركة طالبان الباكستانية جرأة إضافية، وقد تؤدي إلى سقوط دولة مسلحة نووياً في أيدي المتطرفين، لكن المؤسسة الأمنية الباكستانية تعتبر الوجود الأميركي في أفغانستان سبب التمرد المحلي الباكستاني، لا وسيلة لحله، فقد بدأ التمرد عندما أرسل الجنرال مشرف، بطلب من الولايات المتحدة، الجيش إلى المناطق القبلية للبحث عن مقاتلين أجانب، مما أشعل حرباً خرجت عن السيطرة منذ ذلك الحين.ومن الأصوات القليلة في واشنطن التي يبدو أنها "فهمت" وجهة النظر الباكستانية الأسبوع الماضي مايكل شوير، الرئيس السابق لمحطة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية المسؤولة عن اعتقال بن لادن. فقد كتب شوير في The Diplomat: "أشعلت عمليات الجيش حرباً مدنية بين إسلام آباد ورجال القبائل. وطوال سنوات، اقتصر هذا الصراع على الأراضي القبلية. ولكن منذ عام 2008، اقتحمت أعمال القتال الأراضي الباكستانية، متسببة بعدد كبير من التفجيرات والكمائن والاغتيالات والغارات وفق أسلوب الكوماندوز".بدل "فعل المزيد" للولايات المتحدة قبيل مغادرتها، يقترح شوير: "من الواضح أن الوقت قد حان ليتوقف [الجنرال أشفق] كياني و[الرئيس آصف علي] زرداري عن تنفيذ أوامر الولايات المتحدة والتركيز على وقف انجراف باكستان نحو التحوّل إلى دولة فاشلة. وبما أن واشنطن لا تعي أن الخدمات التي قدمها لها مشرف وزرداري تسببت بالحرب الأهلية المستعرة اليوم في باكستان، يجب ألا يتوقع كياني وزرداري من إدارة أوباما غير طلب خطوات على الأرض ستؤدي في النهاية إلى تقويض الاستقرار الباكستاني".عوضاً عن ذلك، فيما تستعد الولايات المتحدة للرحيل وتبحث عن حلّ سياسي، سيرى الجنرالات الباكستانيون أن استراتيجيتهم، التي تهدف إلى الحفاظ على طالبان كوسيلة لإعادة إرساء النفوذ الباكستاني في كابول، مبررة بالتأكيد. حتى كرزاي لجأ اليوم إلى إسلام آباد، طالباً مساعدة باكستان في التوصل إلى تسوية مع طالبان، أمر أخاف تحالف الشمال وداعميه الإقليميين. لا شك أن المؤسسة الأمنية الباكستانية لن تعرض بلدها لخطر أكبر، إلا أنها سترى في الانسحاب الأميركي وعودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، وإن بشكل جزئي، فرصة للبدء بدفع الوضع الحرج في باكستان نحو الاستقرار.* محلل مقرهفي نيويورك له مدونة www.tonykaron.com.