لكي لا تفقد البورصة دورها الحيوي في تمويل النشاط الاقتصادي على الجهات الحكومية أن تتحرك

نشر في 08-07-2010
آخر تحديث 08-07-2010 | 00:01
أن يأتي اجتماع المسؤولين عن الشأن الاقتصادي متأخراً خير من ألا يأتي
 د. عباس المجرن الاجتماع الذي ترأسه نائب رئيس الوزراء وزير الإسكان وزير الدولة للتنمية بحضور وزير المالية، ووزير التجارة، والعضو المنتدب لهيئة الاستثمار، ومدير عام البورصة، لمناقشة حزمة من الإجراءات الاقتصادية ذات الأثر الإيجابي المحتمل على الوضع الاقتصادي المحلي، قد يكون جاء متأخراً، ولكن أن يأتي مثل هذا اللقاء ولو متأخراً خير من ألا يأتي. فمسلسل التآكل اليومي في قيمة أصول الشركات ومدخرات الأفراد في سوق الأوراق المالية على مدى الأشهر الماضية وصل إلى حد لا يحتمل المزيد من الانتظار. فلقد خرج التدهور في مستويات الأسعار عن معدلات التصحيح الطبيعية المعتادة في حركة أسواق المال، وبات يهدد الدور الحيوي للبورصة كنافذة من نوافذ تمويل الاستثمار. وهذا أمر يتطلب تفعيلاً لدور الدولة في المعالجة، وهو دور بات مستحقاً، بل ولا يحتمل التباطؤ أو التأخير.

لقد كان هذا التحرك الحكومي مطلوباً منذ زمن، فهذا التداعي المتواصل في قيم الأصول المالية لا يحدث في جزر نائية أو أصقاع بعيدة أو بلدان أخرى، بل يحدث في قلب الكويت، ويمس بالتالي موجودات الاقتصاد الكويتي، ويؤثر سلباً على دورة النشاط في مختلف قطاعاته. ولكن تدخل الجهات الحكومية لمعالجة أوضاع غير طبيعية في أسواق المال هو بين الأمور التي يدور بشأنها جدل نظري، فهناك مَن ينفي مسؤولية هذه الجهات عما يحدث في سوق الأوراق المالية، ومن ثم لا يجد مبرراًَ منطقياً لتدخلها في آلية العرض والطلب في هذا السوق؟ كما أن هناك مَن يشكك في قدرة هذه الجهات أصلاً على القيام بشيء جوهري من شأنه وقف هذا النزيف المستمر في الأصول والمدخرات.

مسوغات تدخل الدولة

لكنّ أحداً لا يمكن أن يجادل في حقيقة قيام الجهات الحكومية المكلفة الإشرافَ على نشاط الشركات في الكويت بالسماح للعشرات من الشركات المساهمة العامة، وعلى مدى عدة سنوات، بالتوسع الهائل في عملية إنشاء وتأسيس شركات زميلة وتابعة ومحافظ وصناديق اتضح لاحقا أن نسبة كبيرة منها كانت مجرد شركات ومحافظ ورقية. كما أن أحداً لا يمكن أن ينفي حقيقة قيام الجهات الحكومية بالترخيص خلال فترة وجيزة من الزمن لتأسيس العشرات تلو العشرات من الشركات الاستثمارية في سوق تشبعت بهذا النوع من الشركات، واستنفدت كل مخزونها من الكفاءات الإدارية والفنية القادرة على إدارة تلك الشركات.    

كما أن أحداً لا يمكنه أن يجادل أيضا في أن الترخيص لمثل هذا العدد الهائل من الشركات، ثم السماح لمؤسسيها بإغراء المواطنين للاكتتاب بها واستقطاب أموالهم ومدخراتهم على مدى سنوات الرواج السابقة هو أمر لا يختلف في الكثير من جوانبه مع ما حدث قبل ثلاثين عاما في "سوق المناخ" - سيئ الذكر- عندما استقطبت أموال الناس لشراء أوراق شركات وهمية لا تساوي قيمة أصولها ثمن الحبر الذي استخدم في طباعة تلك الأوراق. والمفارقة التي تستحق الانتباه هي أن "سوق المناخ" لم يكن سوقا مرخصا أو قانونيا، بينما سوق الكويت للأوراق المالية هو سوق رسمي ومنظم تديره لجنة متخصصة يرأسها وزير التجارة وفي عضويتها وزارتا التجارة والمالية إضافة إلى البنك المركزي، وعدد من الخبراء وذوي الاختصاص من القطاع الخاص ويخضع "لإشراف ورقابة تامة من قبل الجهة المكلفة تنظيمَ نشاطه أي وزارة التجارة والصناعة" - من نص المرسوم الصادر بتنظيم سوق الكويت للأوراق المالية.  

أما المفارقة الأخرى التي تسترعي الانتباه أيضاً فهي أن كلاً من السلطتين التشريعية والتنفيذية كانت قد بذلت كل ما في وسعها من جهد أبان أزمة المناخ بحثاً عن مخارج ممكنة من الأزمة وإنقاذ المتداولين في سوق لم يكن لا رسميا ولا منظما، بينما تنصرف السلطتان اليوم للبحث في كل شيء، ما عدا البحث عن حل لمشكلة تدهور الأصول المالية في سوق الكويت للأوراق المالية الذي يُفتَرض أن يكون مرآة عاكسة لحال الاقتصاد الوطني وآفاقه الواعدة التي تبشر بها الخطة الخمسية للتنمية. ولإنعاش الذاكرة لا بأس من التذكير بأن أربعة قوانين كانت قد صدرت لمعالجة أزمة سوق المناخ (القانون 57 والقانون 59 لسنة 1982 والقانون 100 لسنة 1983 والقانون 42 لسنة 1988)، وذلك "نظراً لما عكسته تلك الأزمة من آثار خطيرة على الاقتصاد القومي في الكويت مما اقتضى الأمر سرعة وضع حلول استثنائية عاجلة لتلافي هذه الآثار"، وهذا نص حرفي من المذكرة الإيضاحية لأحد تلك القوانين، فكيف يكون لانهيار السوق آنذاك وما ترتب عليه من تداعيات آثار خطيرة على الاقتصاد تقتضي سرعة التدخل، بينما لا تحظى آثار الانهيار الراهن في السوق على الاقتصاد الوطني باهتمام موازٍ لذلك.

مبدأ حماية مدخرات وأموال المجتمع

ولبيان الدور المنوط بالدولة في حالة مثل هذا التداعي المريع في قيم الأصول المالية، لنتذكر جميعا أن الضرورات التي تقتضي تدخل الدولة في كل أرجاء العالم في عملية تنظيم ومراقبة النشاط المصرفي والتدقيق في أعمال البنوك إنما ترتكز بشكل أساسي على أهمية حماية أموال ومدخرات المجتمع المودعة في هذه البنوك التي لا تتعامل بأموالها الخاصة بل بالأموال غير المودعة لديها، ومن ثم فإن الأمر يستلزم حماية هذه الأموال تحسباً من احتمالات تعرض بعض البنوك إلى الإعسار أو الإفلاس.

هذا هو الأساس الذي بني عليه مبدأ ضمان الدولة للودائع المصرفية، ولا يعني هذا الضمان وجود تعهد حكومي مباشر بتعويض المودعين كليا أو جزئيا عن ودائعهم في حال تعرضها للخطر كما كان عليه الحال في الكويت، ولا حتى وجود مؤسسة وطنية لضمان الودائع كتلك التي أنشئت في لبنان بعد أزمة "بنك انترا" في عام 1967 على سبيل المثال، ولا حتى وجود نظام للتأمين على الودائع كما هو الحال في البلدان المتقدمة، ولكن حماية الودائع وضمانها يمكن أن يتحقق عمليا وبطريقة غير مباشرة من خلال تفعيل أنظمة التوجيه والإشراف والرقابة والتدقيق على أعمال المؤسسات المصرفية لضمان حسن إدارتها لأموال الغير. ولا تختلف الشركات المساهمة العامة من حيث المبدأ عن البنوك عند قيامها بعملية استقطاب أموال الأفراد والشركات، فهي مثلها مثل البنوك لا تدير أموالها الخاصة بل أموال الغير من الأفراد والشركات، والتي هي بالتالي أموال ومدخرات المجتمع التي يحرص المشرع على حمايتها وضمان حسن استثمارها. وبدون ذلك تفقد أسواق الأوراق المالية وأدواتها أي الأسهم والسندات دورها الحيوي في الاقتصاد كقناة من قنوات تمويل المشروعات. ولا شك في أن صون هذا الدور الحيوي لأسواق المال وحماية أموال المجتمع أفراداً ومؤسسات يشكلان مسوغا قويا يبرر هذه الدعوة إلى تحرك سريع من قبل الأجهزة المعنية في الدولة لوقف هذا التدهور المتواصل في قيم الأصول والموجودات.  

مخارج أزمة السوق

لا شك في أن إطلاق الدولة لحزمة من المشاريع التنموية الكبرى التي تبشر بها خطة التنمية يشكل أهم المخارج المتاحة من حالة الانهيار التي يعانيها السوق، ولكنه ليس المخرج الوحيد. كما أن درجة فعالية مثل هذه الحزمة من المشروعات في التأثير الإيجابي على السوق تعتمد بشكل أساسي على التوزيع العادل لعوائدها بين الشركات المدرجة في البورصة والشركات التابعة أو الزميلة.

كما يشكل قيام مؤسسات عامة مثل الهيئة العامة للاستثمار بالمشاركة في شراء السندات والصكوك التي تصدرها الشركات المساهمة حلاً رديفاً. وأخص بالذكر هنا سندات وصكوك الشركات التي تزمع استخدام حصيلة تلك السندات والصكوك في تمويل التزامات تنموية أو استكمال مشروعات متوقفة ذات جدوى، أو التي تملك أصولاً محلية أو خارجية مدرة للدخل أو ذات مكاسب رأسمالية واعدة. أما استمرار شح السيولة الحالي وعزوف البنوك عن منح الائتمان بسبب القيود التي فرضت عليها اثر الأزمة المالية، فلن ينتج عنه سوى المزيد من تآكل قيمة الأصول وتعاظم المديونيات.

أما المخرج الثالث فيتمثل في توفير أدوات تمويلية طويلة الأجل، تحل محل القروض قصيرة الأجل المستحقة على الشركات، عبر عملية إعادة هيكلة وجدولة مرنة وواسعة، تدعمها الدولة من خلال توفير السيولة اللازمة للمؤسسات التمويلية مقابل ضمانات تتمثل في أصول الاستثمارات طويلة الأجل التي التزمت بها أعداد كبيرة من الشركات المساهمة العامة والتابعة والزميلة. إن هذه المعالجة كفيلة بإعادة التوازن بين المطلوبات المتداولة والموجودات المتداولة في موازنات الشركات، وخاصة منها الشركات الاستثمارية والعقارية التي تشكل حصة الأسد من بين عدد الشركات المدرجة في البورصة إذ تصل نسبتها إلى نحو 45 في المئة من الشركات المساهمة العامة المدرجة (89 شركة من أصل نحو 200 شركة).

أما المدخل الرابع فيتمثل في إيجاد حل سريع لتجاوز عقبة اختيار رئيس مفوضي هيئة أسواق المال، وحسن اختياره من بين ذوي الخبرة الطويلة والقدرة على الإسهام في إعادة الثقة والاستقرار إلى السوق. أما المفتاح الخامس و"الجوهري" لحل المشكلة فيتمثل في إعادة الثقة إلى نفوس ليس المستثمرين والمتداولين فحسب، بل وحتى مَن هم لا ناقة لهم ولا جمل في السوق، وذلك من خلال تعزيز دولة المؤسسات، واحترام المبادئ الدستورية وفي مقدمتها مبدأ الفصل بين السلطات، وتفعيل العمل بالتشريعات والقوانين، وإعمال مبدأ الثواب والعقاب، وأن "لا أحد فوق القانون"، وبدون ذلك لن يقيض لهذه البلاد أن تقضي على داء الفساد الإداري والمالي أو داء الوساطة والمحسوبيات التي عاثت في البلاد خراباً، فلم تبق ولم تذر.  

* أستاذ الاقتصاد بجامعة الكويت

back to top