تياترو بيروت لحنان الحاج علي... ذاكرة مكان وواجهة مدينة

نشر في 15-04-2010 | 00:00
آخر تحديث 15-04-2010 | 00:00
{تياتر بيروت} (دار {أمار}) ، كتاب أنجزته اللبنانية حنان الحاج علي كرسالة أعدّتها لنيل المجسيتر في الدراسات المسرحيّة من {جامعة القديس يوسف}. هذا العمل الجامع بين التأريخي والتوثيقي والنقدي، خلاصة اشتغال امتد لأربع سنوات، في محاولة لتعقب تاريخ {تياتر بيروت} وأطوار تجارب هذا المسرح، بوصفه {قراءة} في تاريخ المدينة نفسها وفضائها وحراكها وبحرها ورواد مسرحها الذي يوصف بالوهن في هذا المرحلة.

ارتأت حنان الحاج علي أن تطلق كتابها {تياتر بيروت} في يوم يستذكر فيه اللبنانيون اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانية، 13 أبريل (نيسان) 1974، واضعة إياه تحت شعار {نختتم عاصمة، نفتح مسرحاً، نتذكر حرباً، نوقّع كتاباً}، وقبل أيام من اختتام بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009، التي قُدِّمت في خلالها مئات المشاريع والإصدارات، ومع ذلك يبدو أن الفراغ الثقافي أقوى من المشاريع، خصوصاً في ظل غياب مناخ يحتضن هذه المشاريع.

{مسرح بيروت} الذي تكرمه الحاج علي، آخر شاهد حي متبق من مرحلة الستينات الذهبية التي شكلت ولادة المسرح اللبناني الحديث، وقد طبع المدينة بدوره، من خلال ما احتضنه من أعمال إبداعيّة، وتجارب طليعيّة (من تونس ومصر وسورية والعراق...)، ومبادرات فكريّة وثقافيّة وسياسيّة، خلال حيواته المتعاقبة بين 1965 تاريخ إنشائه، و2005 تاريخ إقفاله الموقت (أعادت افتتاحه، قبل أشهر، مجموعة فنانين شبان، بعدما فرغت حنان من بحثها). وبعد قفله الموقت انضم الى لائحة الأمكنة العابقة بالحنين والذكريات مثل المقاهي والحانات والمكتبات، بل والأبنية التراثية.

تحيّة

أرادت الحاج علي كتابها تحيّة وسيرةً لهذا المسرح {الذي يقف بين بيروت وبحرها} على كورنيش عين المريسة. ففيه تطرح علاقة المسرح بالفضاء العام، وبالذاكرة كفضاء عام أيضاً. وإذا بها تمسك من لا يعرف التاريخ القريب، لتأخذه إلى بدايات تكوّن حركة المسرح في بيروت الستينات. حركة كانت جزءاً لا يتجزّأ من حياة العاصمة السياسيّة والثقافية، وتحوّلها إلى منبر حريات في العالم العربي وملجأ العرب الهاربين من القمع السلطوي، وفي أوج أحلام القوميّة العربيّة التي تحولت كابوساً.

كتبت الحاج علي في تصديرها للكتاب: {في عملية رصدنا لإنتاج الفضاءات المتعددة والمتحولة في، ومن، وإلى {مسرح بيروت}، حاولنا تخطي التقسيمات الراسخة التي تتكرر في رصد الحراك الفني والمسرحي والثقافي: أي القسمة الراسخة بين مرحلة ما قبل الحرب، وبين مرحلة الحرب، وما بعد الحرب. {فطائر الفينيق الذي كان محلقاً في الستينات، وترمّد حرقاً في أتون الحرب المؤامرة} كما يحلو القول للخطاب الرسمي، لم ينهض سليماً معافى كما تؤكد الأسطورة اللبنانية وإنما نهض من رماده فاقداً للذاكرة عن سابق تصور وتصميم محركاً مع كل رفة جناح رياح القسمة والتقاتل}.

أضداد

من خلال تناولها {مسرح بيروت} خلال الحرب، تبين الحاج علي كيف عاش هذا الفضاء بين الأضداد، إذ لم تكن الحرب مدمرة فحسب، بل حفّزت وألهمت تجارب عدة في حينها امتداداً الى الحاضر. تركة كبرى تركت وارثيها في ذهول، لكنها سرعان ما أذكت لدى فنانين من جيل ما بعد الحرب خصوصاً، حمى البحث والتساؤل والنبش بالحاضر وبالذاكرة وإعادات النظر في المسلمات وفي وظيفة الفن وأدواته وخطابه. وترى صاحبة الكتاب مسرح بيروت كمقر في المدينة، كممر عبرها، وكمفر منها وإليها. وتسأل لكن هل يعني هذا الطرح أن بيروت واحدة لا تتغير؟ بيروت مدينة نسبية، ومتحولة، وافتراضية، ومشتهاة، وعنقود ضيع يتنادم على عتيق خمرها لاعنوها وناكروها. بيروت اليوم {بيروتات} شتى تتطابق وتتنافر الى أقصى حد.

يقع {مسرح بيروت} في منطقة عين المريسة في شارع غراهام الذي يحده شارع {بلس} من جهة وكورنيش البحر من جهة أخرى، أي ضمن منطقة محاذية لمنطقة الحمرا جنوباً، ومنطقة ميناء الحصن ووسط البلد شرقاً، ورأس بيروت شمالاً وغرباً. وقد أشار كثر الى أهمية هذا الموقع. فتحدث المخرج والكاتب المسرحي جلال خوري عن حظ هذا الموقع ورده الى مجموعة عوامل، أما الناقد والفنان سمير صايغ فتكلم عن حتمية نشوء هذا الفضاء في هذه المنطقة. وكانت علاقة {مسرح بيروت} وجمهوره بمحيطه علاقة متوجسة وحذرة في البداية، وكل كان على مسافة من الآخر، المسرح له حدوده والشارع له حدوده. لكن نوعية نشاط المسرح واقتراب العاملين فيه من قضايا الشارع استطاعت، مع الوقت، كسر حائط الجليد هذا، خصوصاً على مستوى بعض العلاقات الفردية في البداية، ثم إن أحداث 1967 وما تلاها جعلت المسرحيين الذين انخرطوا في هموم الناس ينقلون صرخات الاحتجاج الى المسرح.

فضاءات

يتميز موقع {مسرح بيروت} بعدد من هذه الفضاءات العامة (شارع الحمراء وكورنيش البحر)، حيث يتقاسم المواطنون أرضية ثقافية مشتركة ومتشكلة من تمفصل أنظمة قيم عدة. وهذه الفضاءات (صار {مسرح بيروت} في عدادها)، تملك الخصائص التالية: توفر التجاور والاختلاط والتنوع في التعبير والانتماء. ففي القرب من المسرح نصب تذكاري لجمال عبد الناصر، وجامع عين المريسة، وفي الطرف الغربي مبنى الجامعة الأميركية، يربط بين هذه الدلالات الكورنيش برصيفه العريض، المحاذي للصخور حيث تمارس نشاطات متعددة موقتة عابرة، أو يومية متكررة لسباحين ومتنزهين ومخبرين وباعة ومارة وساكنين ومتسكعين ومتسولين ومدمنين وصيادي سمك وفنانين. فهذا الفضاء العام تنتابه تحولات وظواهر توسع أو تحد من انفتاحه، وتفتح أو تضيق فيه هامش الحق في ممارسة حرية القول والتنزه والتعبير والتلاقي والانفراد. وبالقرب من المسرح حصلت أحداث تاريخية، من بينها تفجير السفارة الأميركية في أبريل 1983، واختفاؤها من المشهد البحري بعد أعوام من حلولها فيه وتصدرها دوراً بارزاً، وخلال مرحلة ما بعد اتفاق الطائف حلت المقاهي معولمة من نوع {الهارد روك كافيه} ومطعم {الماكدونالد} بالقرب من المسرح مع اندثار المقاهي الشعبية الطابع مثل مقهى {الحاج داود} (بين سنتي 1973 و1978، مع ردم خليج الزيتونة). وساعد هذا التحول في استقطاب شريحة شبابية من جيل ما بعد الحرب الى المنطقة، وهو جيل إما منقطع تماماً عن ذاكرة ما قبل الحرب، وإما يرفض امتلاكها ويهزأ باستذكارات حنينية تحيل الى بيروت الماضي (مقهى الحاج داود) حتى لو استعاد بعضاً من مظاهرها من ناصية الموضة الاستهلاكية أو المعولمة (القعدات، النارجيلة، الكوفية). أما الجيل المخضرم المتحسر على فضاءات المقاهي، فاكتسب مع الوقت عادات أكثر مدينية (في الظاهر على الأقل) قوامها مشاركة مرتادي الكورنيش بالتنزه والتريض، وشرب فنجان قهوة {إكسبرس}.

كذلك حلت فنادق ضخمة مكان بيوت سكنية أو تجمعات حرفية وتجارية صغيرة سابقة (بدءاً من عام 1930 مع بناء فندق {السان جورج})، ما يزكي طابع المدينة المديني الخدماتي والسياحي للمدينة. ومع نمو العمارات العملاقة في مقابل الواجهة البحرية مثل بناية الأحلام (1998) التي تحجب ناطحتها رؤيا البحر عن المدينة التي تقع خلفها، لم يبق لصيادي عين المريسة إلا مرفأ صغير يصلهم بالبحر، بعد أن اقتطع قسماً إضافياً منه مرفأ أصحاب اليخوت الخاصة من المالكين.

شكل مسرح بيروت وفضاؤه علامة للسجال حول المكان العام والذاكرة، وهو يقع في مبنى آيل الى الهدم مستقبلاً، ربما يكون البديل عن المسرح مطعماً مع نراجيل كثيرة.

back to top