ضريح امرىء القيس... تحت رحمة السياسة

نشر في 12-03-2010 | 00:01
آخر تحديث 12-03-2010 | 00:01
لم يستحوذ خبر اكتشاف ضريح الشاعر العربي الجاهلي امرؤ القيس في تلة هيديرليك، المشرفة على مدينة أنقرة التركية، اهتمام الشعراء والمثقفين العرب.
 أعلن رئيس اتحاد كتاب أوراسيا التركي عمر دلي أوغلو أن تركيا تبذل الجهود للحفاظ على الضريح وترميمه. متوقعاً أيضاً أن يتحول المكان الى مزار للسائحين العرب. وبالطبع يحتاج اكتشاف الضريح الى تأكيد علمي وليس مجرد «زوبعة» كلامية تأتي في إطار التحالفات السياسية الجديدة، لكن ما ينبغي التنبه إليه أن الأضرحة والأمكنة الثقافية «المقدسة» تكون  غالباً أسيرة السياسات والأيديولوجيات. لنقل إن الحكم الصفوي في إيران عمد خلال حكمه لأجل تمييز الإسلام الإيراني عن العثماني - التركي إلى تشجيع بناء أضرحة الأئمة الشيعة ومزاراتهم، ولأجل بعض الحضور الإعلامي والثقافي طلب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي نقل رفاة الروائي البير كامو من مسقط رأسه الى مقبرة العظماء في بارس، ولا يختلف الأمر بين سورية وتركيا اللتين تعملان على تطبيع العلاقات بينهما بمختلف الوسائل، ففجأة من دون مقدمات بدأ يُقال في السياسة السورية أن «الوجود العثماني» في سورية لم يكن «احتلالاً» بل «فتحاً»، وفجأة ومن دون مقدمات علمية، أعلنت تركيا عن اكتشاف ضريح الشاعر الجاهلي، ربما بعد غد يصير جمال باشا السفاح أيقونة للحداثة من وجهة نظر السياسات الجديدة.

 لنقل إن معظم كتابات التاريخ في المشرق قائم على أسس أيديولوجية أي أنه يعمي رؤية التاريخ الحقيقية، والأمر لا يختلف مع سياسات الأنظمة التي لأجل مصالح معينة تفرض تأريخاً جديداً، يثبت عنفوان الرؤساء.

قفا نبكِ

ليس همنا الإغراق في الحديث السياسي، بل التأمل قليلاً في موت امرؤ القيس الذي لقب بـ{الملك الضليل»، وقد استندنا في معلوماتنا الى موقع «دار الوراق» الذي استند بدوره الى أكثر من مصدر في تبيان سيرة «الملك الضليل». تقول الروايات أن صاحب قصيدة «قفا نبك» ذهب الى القسطنطينية، بناء لنصيحة الغساسنة، لطلب النجدة من الأمبراطور البيزنطي ضد خصومه في الجزيرة العربية، بعد مقتل والده أسد، وما كان من الأمبراطور، بسبب وشايات، إلا أن سمّمه عبر تلبيسه عباءة مسمومة ما لبثت أن قتلته في منطقة أنقرة حيث دُفن.

تحتمل الرواية التاريخية وجود قبر امرؤ القيس في أنقرة، لكن التأكد من ذلك يحتاج الى ما هو أكبر بكثير من الاعتقاد والتكهن، علماً أن كتاباً تاريخياً صادراً في عام 2007 عن بلدية إسطنبول، أكد وجود قبر امرؤ القيس في تلة هيديرليك، التي كانت تعرف أيضاً باسم تلة تيمورلنك.

وامرؤ القيس أشهر شعراء العرب على الإطلاق، يماني الأصل، مولده في نجد. وهو ما زال غلاماً جعل يشبب بالنساء في شعره ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، فأبعده إلى حضرموت موطن أبيه وعشيرته، وهو في نحو العشرين من عمره. آنذاك كان الرجال الذين يرتكبون أخطاء أخلاقية بحق القبيلة يطردون منها وينبذون من أفرادها. وصفهم الرحالة دوفتي باسم «هبيلة} في كتابه «الصحراء العربية} يقول: {الهبيلة أشرار الصحراء الذين يخشاهم رجال القبائل البدو الرحل، كما يخشى الحضر وسكان الواحات البدو. الهبيلة عادة شباب أوغاد لا يملكون ماشية أو قطعاناً يعرضون أنفسهم لكل مخاطرة شرسة، لكن بعضهم رجال وحيدون مفعمون بالنشاط يحركهم مزاجهم غير الهادئ من كسلهم في ظل الخيام إلى التجوال خلسة كالذئاب بحثاً عن فريسة في البراري. يتحمل هؤلاء الخارجون عن القانون المصاعب الشاقة، وتكون لهم صفات الوثنية المتوحشة غالباً».

هام امرؤ القيس سنوات يعيش حياة مجنون بين عرب الصحراء، حياة محفوفة بمخاطر تشوبها الفاقة، تتراوح بين الوقوف في بئر ماء إلى الاحتفال ورفاقه بلحم ناقة واحتساء الخمر بينما تغني المطربات. هكذا، كان الشاعر منهمكاً في الشراب واللعب عندما جاءه رسول من قبيلته يعلمه بمقتل والده على يد متمردين من رعيته.

 لم يجب امرؤ القيس وقال لرفيقه الذي توقف عن اللعب «استمر»، لكن عند نهاية اللعبة قال لرفيقه إنه لم يود إفساد لعبته، ثم التفت إلى الرسول واستمع إلى تفاصيل اغتيال والده وقال «ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، اليوم خمر وغداً أمر». وذهب إلى المنذر ملك العراق، وطاف قبائل العرب حتى انتهى إلى السموأل، فأجاره ومكث لديه مدة، ثم قصد الحارث بن شمر الغساني في الشام، فسيره الحارث إلى القسطنطينية للقاء قيصر الروم يوستينيانوس، ولما كان في أنقرة ظهرت في جسمه قروح فأقام فيها إلى أن مات. بالطبع تحتاج سيرة امرؤ القيس الى كتب لتدوينها وهي ممتعة على اعتبار أنها تؤرخ لمرحلة الصراعات بين القبائل، بل الصراعات بين الأديان والأمبراطوريات في المشرق.

تاريخ

وتاريخا ولادة امرؤ القيس ووفاته مجهولان، ويصعب الوصول إلى تحديد تواريخ دقيقة مما بلغنا من مصادر. يذهب بعض الدراسات الحديثة إلى أن امرؤ القيس توفي بين الأعوام 530 وعام 540، فيما توضح أخرى أنّ وفاته كانت حوالى عام 550، وتحدّد غيرها عام 565.

الحدث الذي يسهم، من دون غيره، في تحديد الفترة التي توفي فيها امرؤ القيس، ذهابه إلى القسطنطينية ولقاؤه قيصر الذي توجّه إليه لطلب المعونة في استرداد ملك أبيه، مستغلاً العداوة التاريخية بين الروم والفرس وصراعه مع المنذر بن ماء السماء الذي أعاده أنو شروان إلى الحيرة طارداً منها جدّه الحارث. وكانت بين امرؤ القيس وبين المنذر حروب طويلة. وكان إمبراطور بيزنطية آنذاك يوستنيانوس، آخر أعظم أباطرة بيزنطية الذي حكم من عام 527 إلى 565، وخاض حروباً طوال حياته ضد أنوشروان، كانت أنطاكية والمناطق المحيطة بها مسرحها، إلى حين توقيع أول معاهدة سلم بين العدوين عام 532، وسُمِّيت «معاهدة السلام الأبدي». غير أن الحرب عادت إلى الاشتعال وسقطت أنطاكية بيد الفرس عام 540، وحكموها حتى عام 545 عندما وقّع الطرفان اتفاقية هدنة، لتتجدَّد الحرب بينهما عام 551، ثم اتفقا على هدنة أخرى عام 557، ولم تعد أنطاكية إلى بيزنطية إلاّ عام 561، حين اتفق يوستنيانوس وأنو شروان على هدنة مدّتها 50 سنة بشرط أن تدفع بيزنطية الجزية لفارس.

ربما يصحّ الاستنتاج ممَّا تقدّم بحسب الباحثين، أن امرؤ القيس لم يذهب إلى القسطنطينية إلا بعد عام 561، حين انتهاء تلك الحروب وبعد عودة أنطاكية إلى الروم، لأن طريق رحلته إلى القسطنطينية تمرّ في تلك المناطق التي لن يجتازها وهي بأيدي أعدائه من الفرس وأنصارهم من العرب. وقد وفَّر امرؤ القيس نفسه دليلاً على الطريق التي سلكها في تلك الرحلة في قصيدته «سما لك شوق بعدما كان أقصرا»، وفيها يذكر بلاد الشام التي مرَّ بقراها ومدنها كحوران وبعلبك وحماه وخملى، ومنها إلى أراضي الإمبراطورية الرومانية الشرقية.

ويذهب الرواة إلى أن قيصر بعث إليه في طريق عودته بحلّة مسمومة تقرّح جلده حين لبسها فتوفي. ورواية الحلّة المسمومة ظاهرة التهافت وكذلك قصة قتله والوشاية به، وليس في شعره ما يوحي بذلك. يبدو أن امرؤ القيس مات بمرض جلديّ يذكره في شعره، كان قد عاناه سابقاً لكن ليس بالحدّة نفسها، وهو افتراض يدعمه بيت شعر قاله:

تأوَّبني دائي القديمُ فغلّسا

 أُحاذِرُ أن يرتدَّ دائي فأُنْكَسا

back to top