الناقد المغربي عبد الفتّاح كيليطو... صانع لذّة النص
كلما قرأت نصاً نقدياً للكاتب والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو أحسده عليه أتمنى لو أكون أنا كاتبه، أحسده كيف ما زال قادراً على سحر القارئ من خلال النقد في زمن بات فيه هذا الجنس الأدبي أشبه بالمنقرض أو قائم على العدوات والتبخير والأسماء المستعارة. لا يكتب كيليطو كثيراً عن نصوص جديدة، يلجأ غالباً إلى كتب تراثية وكلاسيكية وفلسفية ويكتب عن بنية السرد والحكاية في شتى تقاطعاتها وأجناسها وإشاراتها وبنيوتها.صدر لكيليطو أخيراً كتاب «العرب وفن الحكي» بالفرنسية.يوضح الكاتب العلاقة بين الكتابة والسلطة السياسية من خلال القراءة الحاذقة التي يقوم بها لبعض النصوص الكبرى، ويشدّد الكاتب على أنّ عدداً لا يستهان به من المحكيات رُويت أو كُتبت بناء على أمر، على طلب وبإذن من الملك. المثال الأكثر رمزية يوجد في «ألف ليلة وليلة»: شهرزاد مدينة بحياتها، ليس لحيلتها وموهبتها الحكائية فحسب، لكن أيضاً وخصوصاً لكون الملك، شهريار، يأذن لها كلّ ليلة بمواصلة حكاية الليلة الماضية.
يذكر كيليطو أنّ المؤلفين الكلاسيكيين (الحريري، الجاحظ، التوحيدي) يعلنون أنّ مؤلفاتهم تلبّي أمر سلطة ما، شريك ما حقيقي أو متخيّل. ضرب من «اكتبْ!» يحاكي «اقرأ» التي تلقاها الرسول محمد من الملك جبريل. ما يميز كيليطو أنه يعيد اكتشاف الأشياء، يضعها في المرايا ويحاكيها كما لو أنها منامات، بل هو يدون اللامرئي فيها بالنسبة الى القارئ، يكتب شيئاً من «لذة النص» الذي تحدث عنه الفرنسي رولان بارت. يعيد كيليطو تقليب الكتب الكلاسيكية العربية والنبش في ثنايا نصوصها واستخراج زبدة أفكارها، كأن يكتب عن ابن رشد والجاحظ والمعري ومقامات الهمذاني أو «ألف ليلة وليلة» ونيتشه وأحمد فارس الشدياق المنفلوطي وكثيرين من رواد النهضة. إنه الكاتب أسير اللغتين (العربية والفرنسية) كما يقول عن نفسه. لنقل إنه يكتب عن الثقافة العربية الكلاسيكية بمناهج نقدية أكثر حداثة وتجريباً وتأصيلاً بسبب انفتاحه على الأدب الغربي ومناهجه النقدية واطلاعه العميق على التراث العربي القديم.بلاغةلا تكفي مقالة واحدة لتلخيص ما يقوله كيليطو في كتبه الوارفة الأفكار والمتشظية في جمع المعارف والقائمة عن ذهنية بنيوية. يلاحظ كيليطو في كتابه «الأدب والارتياب» أن الثقافة العربية الكلاسيكية على مستوى التقبل والتلقي قائمة على الغرابة والإبعاد والاغتراب كما يظهر ذلك جلياً في الشعر والبلاغة اللذين يعتمدان على الصور الفنية القائمة على التشبيه والاستعارة والكناية التي تساهم في تعمية النص وإثرائه بالغموض والإبهام المجازي اللذين لا ينكشفان إلا بنبراس الشمس ونورها الوهاج ومشكاتها الكاشفة.وإذا كانت المعاني والأفكار تتغير بسرعة في العصر الحديث بتغير الموضات والمدارس والتيارات الأدبية والفلسفية، فإن المعاني في الآثار العربية الكلاسيكية مهما كانت مبتذلة ومكررة فإنها لا تزال تحافظ على مصداقيتها ومطلقيتها المعرفية والثقافية، وفي هذا يقول كيليطو: «أما في العصر الكلاسيكي فإن المعنى كان يعتبر مطلقاً ويمتاز بالعمومية أي إننا نجده في جميع العصور، وهذا ما يفسر إيجابيته. نجد عند كل شاعر تشبيه الكريم بالبحر والمرأة بغصن البان». وإذا كان معظم الدارسين يتعامل مع المنهج البنيوي بطريقة حرفية آلية قائمة على الإسقاط الخارجي حتى يصبح العمل النقدي تمريناً منهجياً آلياً يسمو فيه المنهج على حساب النص، إلا أن عبد الفتاح كيليطو يتعامل مع المنهج البنيوي بذكاء خارق، إذ يخضع المنهج للنص ويستنبط من داخله دلالات عميقة لا يمكن أن يتصورها القارئ الضمني والفعلي على حد سواء. ويرتبط المنهج البنيوي لدى كيليطو بالوصف والتفسير والتأويل من خلال استقراء اللغة في سياقاتها النصية مع تنويع المنظورات والتصورات في التحليل والمقاربة، إذ يعتمد في إحالاته البيبليوغرافية على الشكلانية الروسية والبنيوية الفرنسية والسيميائيات والفلسفة الغربية وجمالية التلقي. ويبدو من خلال قراءتنا لكتب كيليطو أنه يوجز في الكتابة اختصاراً وتكثيفاً. وعلى رغم هذا الإيجاز غير المخل الذي يظهر واضحاً في صغر حجم الكتاب إلا انه كتاب دسم مليئ بالمعارف المنهجية والمعلومات المتعلقة بالآداب الغربية والعربية.فن الحكيتمتاز مقاربة كيليطو النقدية بلغة وصفية تعتمد على المساواة بين اللفظ والمعنى والمتعة اللفظية وشاعرية التحليل وتنوع السجلات المعجمية والنقدية بتنوع المرجعيات التناصية، كأننا أمام عمل إبداعي محكم يحقق للقارئ الضمني والفعلي متعة ولذة نادرتين. يقول الكاتب روث غروسريشارد: {إذا كان من اللازم توصيف عمل عبد الفتاح كيليطو، سنقول بسرور «كلّ صغير جميل». هذه الصيغة توافق بشكل محكم كتاباته المتعددة: ليست عنده ثرثرة، ليس عنده إسهاب عديم الجدوى. النصوص موجزة، الكتابة مقتضبة، مقتصدة، ممتعة والسبل التي يسلكها لاستحضار النصوص الكبرى للأدب العربي الكلاسيكي هي دائماً سبل مثيرة وغير منتظرة. كيليطو ليس أحد الذين يسلّمونك دراسات نسقية وشاملة للآثار التي يدرسها. على العكس، فهو يعرضها عبر الشذرة، عبر الجزئية أو التفصيل، عبر النادرة أو الحكاية الصغيرة، وخاصة يملك فنّ مساءلتها. مقاربة تعمل على تشظية النص، تعمل على ألا تسمّره وتجمّده في تأويل وحيد، وتمنح القارئ لذّة التسكّع والحلم. الحلم؟ نعم، لأن دراساته تُقرأ كأنها حكايات بما يندمج فيها من تواريخ وما تترصّع به من مرجعيات وألغاز ظلت من دون حل. إلى هذا النمط من القراءة يدعونا كتابه الأخير، «العرب وفن الحكي».الهزلمن خلال كيليطو اكتشفنا كاتباً أسمه أبو العبر، في كتابه «الحكاية والتأويل»، الفكرة الأساس في مقالة كيليطو عن أبي العبر قوله إن معظم الباحثين لا يهتم إلا ببعد واحد: الجد، ويهمل البعد الثاني المكون للأدب الكلاسيكي: الهزل. يضيف كيليطو متسائلاً: لماذا يتركز الاهتمام على الجد؟ صحيح أن بعض الدارسين يتطرق إلى ظاهرة الهزل، لكنه يكتفي باعتبارها أمراً غريباً أو وحشياً لا يستحق وقفة طويلة. أما بالنسبة إلى القدماء فإن الهزل لم يكن لينفصل عن الجد ولم يكن يقل أهمية عنه، فكانوا يربطون أبا العبر بأبي العنبس الصيمري الذي ألّف «في الرقاعة نيفاً وثلاثين كتاباً». أمر أخر لاحظه وهو أنه إذا كانت مقامات الحريري والهمذاني يغلب عليها الهزل واللهو بسبب الكدية والاستجداء الدنيوي، فإن مقامات الجرجاني هي مقامات دينية وعظية وإرشادية قائمة على الترغيب والترهيب ويغلب عليها الجد لارتباطها بما هو أخروي. كذلك يطغى عليها النقد الذاتي والعتاب النفسي وتأنيب الضمير. وهو في مقاماته لا يوجه خطابه إلا إلى ذاته لتقريعها وتوبيخها ولومها وإسداء النصائح لها من خلال صيغ الأمر والنهي والتحضيض والاستفهام والإطناب بالترادف والطباق.إضافة إلى أن لغة المقامات تجمع بين معجمين: معجم الضلال ومعجم الهداية. فالدنيا امرأة فاتنة كثيرة الإغراء والافتتان، ولترويضها لا بد من سلوك طريق الجد والاستعداد للموت.كذلك نتعرّف عبر كيليطو إلى الزمخشري الذي ينظر إلى الأدب من وجهة نظر غريبة، أي إنه يعرض أغراض الأدب وأدواته (النحو والعروض والقافية) من خلال نظرة واعظ متزهد. ويوجه الزمخشري كتابه إلى قارئ ضمني وسيط مدرس للأدب يقوم بتبليغ المقامات لأصحاب الفضل والديانة، ولا يمكّن منها العامة وقليلي الدين. العين والإبرةكيليطو كاتب المعاني قبل كل شيء، يجعل للحكاية مبررات وجودها، يستقى منها جمال وجودها، هو القادر على الولوج في أعماق التراث، يخرج الحكايات القديمة من متاهتها وغموضها إلى رحاب الوضوح والمعاصرة، بل يأخذ الحكايات إلى معانٍ مختلفة عما نعرفه عنها، فليس «ألف ليلة وليلة» كتاب تسلية فحسب، أنه مرآة لأحوال السلطان وأوامره.في فصل من كتاب «العين والإبرة» بعنوان «الكتاب القاتل» يذكرنا كيليطو بإحدى حكايات «ألف ليلة وليلة» و«بطلها» كتاب أوراقه ملتصقة ببعضها بفعل مادة مسمومة. وقد مات أحد الملوك بعد تصفحه وكان ذلك بمثابة انتقام متأخر واستثنائي من طرف أحد الحكماء الذي تمت معاملته بشكل جائر. وكانت الخلاصة التي توصل إليها كيليطو كالتالي: «في حالة عدم اتلاف الكتاب القاتل يجب منع لمسه والاقتراب منه، وهذا يعني أنه يجب التأكيد على كونه يحمل الموت معه، وأنه سبق أن قتل. باختصار تجب رواية حكايته». من يستطلع تاريخ الكتب في العالم يلاحظ أن معظمهاكان قاتلاً بامتياز، شهرذاد من خلال السرد في «ألف ليلة وليلة» نجت من القتل، كانت تروي لتعيش، أو لتبقى على قيد الحياة، السرد هنا أحد أشكال فعل الأمر والسلطان كما القراءة.من هو؟عبد الفتاح كيليطو باحث مغربي وأستاذ جامعي. درس الأدب الفرنسي في كلية الآداب في جامعة محمد الخامس في الرباط. بدأ ممارسة الكتابة النقدية منذ الستينات، وكرّس حياته العلمية لمقاربة الثقافة العربية الكلاسيكية على ضوء مناهج نقدية حديثة بنيوية وسيميائية، مستفيداً من الفلسفة الغربية وآليات البلاغة العربية القديمة ومعارف التراث العربي القديم والحديث. وقد أثرى الساحة الثقافية العربية عموماً والمغربية خصوصاً بدراسات جادة وقراءات أدبية دسمة تنم عن ذكاء خارق وكفاءة تحليلية واضحة وعمق معرفي وتأمل منهجي كبير، حتى أن كتبه تشبه الإبداع في الغواية والافتتان واللذة والمتعة والشاعرية على مستوى التلقي والتقبل، وأبرزها: «الأدب والغرابة، الحكاية والتأويل، الكتابة والتناسخ، الغائب (في دراسة مقامات الحريري)، المقامات والأنساق الثقافية، لسان آدم والخيط والإبرة». كذلك أصدر بالفرنسية كتبا لها قيمة كبرى في المعالجة النقدية والتحليل الأدبي وتأويل النصوص.