أوروبا ودورها العالمي المتصاعد

نشر في 01-01-2010 | 00:01
آخر تحديث 01-01-2010 | 00:01
 خوسيه مانويل باروسو بعد عشرين عاماً من سقوط سور برلين ونهاية الحرب الباردة، مازالت ملامح النظام العالمي في تطور التكوين، ولكن في هذه اللحظة يتجلى اتجاهان من "الاتجاهات الكبرى": نشوء الموجة الأوسع نطاقاً والأشد عمقاً من موجات العولمة التي شهدها العالم على الإطلاق، وظهور لاعبين عالميين جدد في آسيا وأماكن أخرى من العالم، كما تعالت الأصوات المطالبة بتنسيق عالمي أكثر فعالية في مواجهة أعظم التحديات في عصرنا الحديث، ومع دخول معاهدة لشبونة إلى حيز التنفيذ، فقد أصبح الاتحاد الأوروبي في اعتقادي مستعداً على نحو متفرد لتحمل مسؤولياته القيادية.

لقد خدمت العولمة الاقتصادية مصالح آسيا وأوروبا بصورة واضحة، وتعمل القوى الاقتصادية النشطة في آسيا على تزويد العالم باحتياجاته، ولقد نجحت بفضل نموها الاقتصادي المذهل في انتشال الملايين من قبضة الفقر وتوفير فرص جديدة كبرى للاستثمار والازدهار، ولقد ساعد هذا دولاً عظيمة مثل الصين والهند في ترسيخ أقدامها بكل ثقة بوصفها قوى عالمية، ولقد استفادت أوروبا أيضاً من العولمة في تعزيز مكانتها باعتبارها الاقتصاد الرئيس والتاجر الأساسي على مستوى العالم.

ولكن العولمة أدت أيضاً إلى تصعيد حِدة المنافسة وكشف نقاط الضعف، فالآن يخشى العمال في أنحاء العالم المختلفة أن يخسروا وظائفهم، وهم يشعرون وكأن التغير الاقتصادي قد تجاهلهم، كما أدت الأزمة الاقتصادية إلى تفاقم الجانب السلبي من العولمة، ونتيجة لهذا فقد بات ترابطنا الاقتصادي في حاجة إلى التنسيق الدقيق، ليس فقط في الأسابيع القادمة، بل في المقام الأول من الأهمية، في الأمد الأبعد.

يتعين علينا أن نعيد النظر في هياكل الحوكمة العالمية، لضمان عملها على نحو أفضل ولمصلحة الشعوب في كل مكان، وبالشكل الذي يحقق مصالح الأجيال الحالية وأجيال المستقبل. وكان الاتحاد الأوروبي في طليعة المناقشة الدائرة في هذا السياق في إطار مؤسساته الخاصة، كما قاد المناقشة إلى المحافل الدولية على نطاق أوسع. والواقع أننا نرحب بالدعوة التي أطلقتها القوى الاقتصادية الناشئة إلى إصلاح المؤسسات العالمية.

وتشكل التجارة مثالاً حياً لهذا الاتجاه، ومما يصب في مصلحتنا الذاتية المستنيرة جميعاً ألا نستسلم لإغراءات الحماية، فبسبب الأزمة الاقتصادية أصبح إحراز التقدم في المفاوضات الجارية في إطار أجندة الدوحة للتنمية التابعة لمنظمة التجارة العالمية أمراً أشد أهمية.

إن إطار منظمة التجارة العالمية، الذي أعطاه الاتحاد الأوروبي الأولوية دوماً، أصبح معترفاً به على نحو متزايد باعتباره عنصراً أساسياً في تحقيق الازدهار العالمي، فهو يساعد في ترسيخ الاقتصاد العالمي في ظل نظام مفتوح قائم على قواعد ثابتة ويستند إلى القانون الدولي، وإنه لأمر طيب أن نرى ذلك الموقف الأكثر إيجابية الذي تبناه شركاؤنا الآسيويون في دفع هذه العملية إلى الأمام، ولكن الأمر يتطلب المزيد من العمل.

ويشكل الأمن واحداً من التحديات الأخرى المهمة، حيث يواجه العالم تهديدات تقليدية وغير تقليدية، فقد أصبح عدد كبير من بلداننا هدفاً للإرهاب، الذي يتعين علينا أن نعترف بأنه آخذ في الانحسار بعد مرور ثمانية أعوام منذ وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001، ولكن تهديده لم ينته بأي حالٍ من الأحوال.

وهناك دول هشة يتعين علينا أن نتعامل معها، فضلاً عن المخاطر المتمثلة في انتشار أسلحة الدمار الشامل، والأنظمة الاستبدادية، والتطرف، كما أفرزت العولمة تحديات أمنية غير تقليدية لا تحترم الحدود الوطنية، فقد بات بوسع الأوبئة العالمية أن تنتشر بسرعة أكبر؛ ومن الممكن أن يدفعنا الافتقار إلى الموارد الآمنة المستدامة من الطاقة إلى ركود عالمي؛ أما تغير المناخ العالمي فقد يخلف عواقب جغرافية سياسية أفظع من العواقب التي قد يخلفها على البيئة.

إن المشاركة المتعددة الأطراف تشكل أهمية أساسية في التعامل مع هذه التهديدات، ولا شك أن عنصر التعددية متأصل في نخاع الاتحاد الأوروبي، وهناك آخرون من الممكن أن يستفيدوا من تجربته، وكان الأوروبيون دوماً من أنصار الأمم المتحدة والتعاون الدولي، وهم يسعون بشكل مستمر إلى ضمان انتشار الاستقرار، والحرية، والديمقراطية، والعدالة باعتبارها أحجار زاوية في بناء العلاقات الدولية.

والاتحاد الأوروبي يضطلع أيضاً بدوره في رفع الأحمال الثقيلة. فقد أرسل ما يقرب من مئة ألف من قوات حفظ السلام، والشرطة، فضلاً عن القوات المقاتلة، إلى المناطق الساخنة في العالم، ليساعد بذلك في توطيد السلام. وعلى المستوى السياسي أيضاً يتحمل الاتحاد الأوروبي على نحو متزايد نصيبه من الأعباء العالمية، ومن الأمثلة على ذلك المهمة التي كلفنا بها الاتحاد الأوروبي- أنا والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي- في موسكو وتبليسي، ولقد سمحت لنا هذه المهمة بإحراز تقدم ملموس على مسار تنفيذ خطة الاتحاد الأوروبي التي تتألف من ست نقاط لوقف إطلاق النار بين روسيا وجورجيا.

إن التوصل إلى اتفاق بشأن تغير المناخ يشكل أولوية عاجلة بالنسبة لنا جميعاً. ولن يتسنى لنا تحقيق هذه المهمة إلا بالعمل الجماعي المنسق، فنحن جميعاً معرضون لخطر المعاناة من آثار تغير المناخ، بما في ذلك زيادة حِدة الجفاف، والفيضانات، وغير ذلك من الظروف المناخية القاسية. والاتحاد الأوروبي يضطلع بمسؤولياته باعتباره مصدراً أساسياً للانبعاثات الغازية الضارة في الماضي. ولقد حدد لنفسه أهدفاً طموحة للمستقبل، وهو الآن يحمل لواء المبادرة في السعي إلى التوصل إلى اتفاق عالمي شامل، بما في ذلك جهود التمويل الهائلة.

إن تغير المناخ يمثل أيضاً دراسة حالة للكيفية التي يمكننا بها أن نحول الضرورة إلى منفعة، والتهديد إلى فرصة. ذلك أن تطوير واستخدام التكنولوجيات الخضراء الرحيمة بالبيئة من الممكن أن يشكل مصدراً جديداً للنمو، وبناء اقتصاد أوروبي قادر على الاستمرار من شأنه أن يساعد في ضمان رخاء شعوبنا وازدهارها.

وهو يبين أيضاً كيف أن أوروبا لا تستطيع تحقيق أهدافها في الداخل إلا من خلال توجه استباقي وعالمي، وهذا التوجه يشكل في واقع الأمر الأساس الذي تقوم عليه السياسة الخارجية، فلن يكون بوسعنا أن نتصدى للتحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي بشكل فعال وناجح من دون أوروبا القوية على الصعيد العالمي، إن الرخاء والنمو، والأمن والاستقرار، وبقاء مجتمعاتنا على الأمد البعيد، يتطلب تعزيز مصالحنا وقيمنا في الخارج، والمشاركة في التصدي للتهديدات الخارجية والتحديات العالمية.

إن التزام الاتحاد الأوروبي بالنظام المتعدد الأطراف في حوكمة العالم عن طريق الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية أمر واضح تمام الوضوح، ونحن نتحدث عن اقتناع وبكل وضوح فيما يتصل بالتحديات الرئيسة التي تواجهنا. والواقع أن معاهدة لشبونة تسمح لنا بتحقيق قدر أعظم من التماسك والترابط، وتمنحنا المزيد من القدرة على العمل، ومن شأن هذه المعاهدة أيضاً أن تسمح لنا باستخدام الدبلوماسية، وإدارة الأزمات، والقدرات الدفاعية الأوروبية الناشئة، جنباً إلى جنب مع سياسات أكثر تقليدية، مثل التجارة والتنمية.

كثيراً ما يقال إن الميزة النسبية التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي تكمن في قوته المعيارية الطبيعية، أو قوة قيمه، وأظن أن هذه المقولة صادقة، ففي عالم ما بعد الأزمة، وحين تتطلع الشعوب إلى سبل جديدة لضمان الرخاء والرفاهية والسلام والازدهار، فإن الاتحاد الأوروبي قادر على تقديم الكثير من الخبرات المفيدة.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».

back to top