المخرج أنغ لي ينتقل بـ Taking Woodstock من الدراما الى الكوميديا
من الواضح أن وودستوك كان أكثر من مجرد مهرجان. بالنسبة إلى المشاركين الذين تخطى عددهم الـ500 ألف والذين ذهبوا إلى تلك المزرعة في أعالي ولاية نيويورك منذ 40 عاماً، كانت هذه دعوة امتدت على ثلاثة أيام وجسدت الموسيقى باعتبارها خبرة تتيح التحرّر من القيود، تفجّر الطاقات، هذا إلى جانب القليل من الجنس والمخدرات وموسيقى الروك آند رول. بيد أن خبرة المخرج أنغ لي مع هذا الحدث كانت أكثر هدوءاً بكثير لكنها مبدِّلة في الوقت نفسه. لقد حصل عليها من خلال جهاز تلفزيون أبيض وأسود. كان لي طالباً يبلغ الرابعة عشرة في المرحلة المتوسطة في تايوان، يدرس بكدّ وإصرار لامتحان الدخول إلى المدرسة الثانوية. ثم وقع نظره لبرهة على المهرجان الموحل في نيويورك. يقول لي، «كان مشهداً مزعجاً. كانت اليابان في منتصف الحرب الباردة والولايات المتحدة حاميتها الوحيدة من اجتياح الصين الشعبية». كانت ثمة قاعدة جوية أميركية في الجوار، وقد درج لي على رؤية الجنود في الشارع. ويتذكر أنه شعر بالاضطراب بسبب الصور التي جالت مخيّلته، وفكّر: «إذا لم تكن الولايات المتحدة الحامية والشرطية ماذا سيحلّ بنا؟».
لمحة مؤثرةعلى رغم ذلك كانت تلك اللمحة عن وودستوك مؤثّرة جداً. ويصف لي الذي أصبح الآن مواطناً أميركياً، الأجواء بالقول، «شبان مشعثّو الشعر يعزفون على الغيتار. شيء ممتع حقاً. لا تستطيع إلا أن تُعجب بهم». غير أن اسم فيلمه الجديد Taking Woodstock لا يمكن أن يُترجم إلى اللغة الصينية الأساسية. ويوضح المخرج (54 عاماً) أنه إذا وصل الفيلم إلى الصين أو بالأحرى عندما سيصل إلى هناك سيسمى «اضطراب وودستوك» أو ربما «حدث وودستوك».مرتدياً سروالاً كاكي اللون وقميصاً منقوشاً بالمربعات، عاد المخرج للتو من نزهة طويلة نسبياً سيراً على الأقدام عبر جادة الغروب Sunset Boulevard في ظلّ حرٍّ مزعج بحثاً عن مطعم صيني في جوار الفندق. يشبه بمظهره أستاذاً وهو يصر مراراً وتكراراً على وصف نفسه بالمتحفّظ والخجول. لكن يبدو أن هذا الوصف ينطبق على مظهره الخارجي وليس على شخصيّته الفنية. في أفلامه، يلجأ بهوس إلى شخصيات، منطوية على نفسها أو إلى إملاءات اجتماعية خفية مقيّدة وفاسدة، كأداء هيث ليدجر دور راعي الأبقار المتحفّظ الذي يختبر رغبات شاذّة في فيلم Brokeback Mountain، وتجسيد إيما طومسون دور الشقيقة الحساسة المقموعة في فيلم Sense and Sensibility وأداء وي تانغ دور البطلة الجاسوسة في فيلم Lust, Caution التي تصبح عاجزة بفعل هوسها الجنسي الذي يتملكها بالمسؤول السادي في الشرطة السرية الذي تحاول المساعدة في اغتياله. حتى فيلمه Crouching Tiger, Hidden Dragon سمِّي على مثال قول صيني يتحدث عن الأشخاص الموهوبين والخطيرين المحتجبين عن الأنظار. من خلال Taking Woodstock يعود لي إلى النهج الكوميدي الخفيف الذي ميّز أولى أفلامه الصينية على غرار Eat Drink Man Woman المقتبس عن قصة حياة ايليوت تايبر (الذي يؤدي ديمتري مارتن دوره في الفيلم)، وهو شاب شاذّ جنسياً يخفي حقيقته أقنع مروّجي وودستوك بإقامة مهرجان الموسيقى الخاص بهم في مزرعة Max Yasgur، وقد استعمل منتجع Catskills الذي على وشك الإفلاس والذي يملكه والداه كمقرّ لهما ومكان حصري لبيع التذاكر. التقى لي بتايبر للمرة الأولى في الغرفة الخضراء في المحطة التلفزيونية بسان فرانسيسكو فيما كان يجوب البلاد ويروّج لفيلمه السابق Lust, Caution. فرمى تايبر بمذكراته التي تحمل عنوان Taking Woodstock بين يدي لي وجعل من نفسه وكتابه أساساً لفيلم The Ice Storm الذي أخرجه لي عن الفوضى السائدة في ستينيات القرن الماضي. وقد أثار ذلك اهتمام لي بما يكفي ليعرض الكتاب على جيمس شاموس، رئيس شركة Focus Features للأفلام، وهو شريك بارز مقرّب منه كتب له معظم أفلامه. يقول لي {إن ذلك قد يبدو محض صدفة لكن هذه الصدفة تحصل طيلة الوقت. أنا أختار ما أقوم به وتربطني علاقة معه. أعتقد أنه القدر». دراما بحتة يُذكر أيضاً أن Taking Woodstock قدّم إلى لي متنفساً جيداً بعد 13 عاماً من تقديم الدراما البحتة وخصوصاً Lust, Caution، الذي تدور أحداثه في الحرب العالمية الثانية خلال الاحتلال الياباني للصين. ويصف لي إعداد هذا الفيلم باعتباره إحدى أكثر الخبرات الفنية شدّة في حياته. ويعلق لي «لا أعرف ما إذا كان جسدي وأعصابي يستطيعان تحمّل ذلك مجدداً. بدا ذلك الفيلم شخصياً جداً ومخيفاً جداً بالنسبة إلي»، ذاكراً هجومه على المجتمع البطريركي الذي تربى على احترامه.المشاهد الجنسية الموجودة في ذلك الفيلم، التي اعتبرت الأفكار الجنسية نوعاً من الأداء الوجودي، كانت تصويرية لدرجة أنها أكسبت الفيلم ترتيب NC-17 في الولايات المتحدة. ويوضح لي «عليّ أن أجعل الممثّل يعتقد بأن المسألة تتعدى حدود الجنس. الأمر محمِّس جداً لكنه أشبه بانتحار». قلّة من المخرجين نعموا بمسيرة مهنية متنوّعة كمسيرة لي الذي يستطيع الانتقال من نوع إلى آخر بسهولة كبيرة؛ فينتقل من ملحمة فنون قتالية إلى فيلم وسترن خفيف ومن دراما جاسوسية إلى رواية سعيدة. من خلال إخراج الأفلام، تعلّم كيف ينظر بشكل منطقي إلى الفوضى والأوهام التاريخية، ويفهم شخصيته الخاصة التي جابت الثقافات والقارات.يُذكر أنه أتى إلى الولايات المتحدة ليدرس، وقد ارتاد في نهاية المطاف كلية الإخراج التابعة لجامعة نيويورك في ثمانينيات القرن الماضي. عندئذٍ بدأ بقراءة كتب شيوعية عن الصين كانت محظَّرة في موطنه تايوان. ويوضح لي «قلب ذلك طريقة تفكيري كلها، وشعرت بالضياع. فإدارة تايوان بأكملها تستند إلى وهم مفاده أننا سنعود ونتمكّن من استعادة الحكم في الصين الشعبية، وقد كان ذلك كله كذبة. كان لذلك تأثير كبير فيّ».كان الإخراج ملاذه. فبحسب لي «يمنحني إخراج هذه الأفلام شعوراً أكبر بالانتماء. كذلك تنتمي القصة إليّ كما أنتمي أنا إلى هذا العالم». في هذه الأيام يبدو أن لي يعمل بالتوازي على إخراج أفلام صينية وأميركية. في الصين، فريق عمله أصغر وأقل تطوراً لكنه ويا للسخرية أكثر حرية. يوضح لي «يتمتع الإخراج بصبغة فنية أكبر في الصين لأننا لا نملك قطاع صناعة أفلام كبيراً كما هي الحال في الولايات المتحدة. بالتالي فإن عادات المشاهدة والتوزيع واستجابة الجمهور أكثر حرية. هم يتقبلون كل ما أقدمه. في الصين يمكنك أن تمزج بين ثلاثة أنواع مع تحقيق الفيلم نجاحاً كبيراً. أما هنا فالأمر صعب جداً. لدى المشاهد نمط تفكير معين، إذا انحرفت عنه تُنتقد. أو أنهم يوزعون الأفلام على نطاق محدود جداً لا أستطيع تحمّلها كثيراً». كذلك تميل أفلامه الصينية إلى أن تكون شخصية أكثر. ويعلق لي «أستمد حبكتي من خبراتي الحياتية الخاصة». بالنظر إلى ذلك، خلال إخراج Taking Woodstock نفخ لي الحياة في شخصية إيليوت مضفياً عليها أوجهاً من شخصيته، أمر محتم على الأرجح. ويتابع لي «تصبح الشخصيات الرئيسة في مرحلة ما مطابقة لشخصيتك. أعتقد أن إيليوت يشبهني إلى حدّ كبير. أنا خجول ومتحفّظ نوعاً ما، لست اجتماعياً جداً أو عصرياً». ثم يبدأ بالضحك ويضيف: «لذلك تصبح شخصيته أقرب إليّ أكثر فأكثر».مما لا شك فيه أن إيليوت الخجول والخنوع، الذي يتمتع بمقدار من العزم والشجاعة، يصبح جزءًا لا يتجزأ من الأحداث الثقافية التي تركت بصمات واضحة على تلك الحقبة. غالباً ما يطغى تأثير المجهول والإعتاق النفسي على شخصيات لي، كما على المخرج نفسه.اسألوه كيف يختار مشاريعه فيجيبكم بكل بساطة: الفضول.يوضح لي: «أشعر أن قوة شريرة أغرتني لاختيار هذا المشروع. أنا فضول وحسب. كنت خائفاً من تولّيه لكني لم أستطع منع نفسي من الاطلاع عليه. كلما أنجزت مشروعاً وبدا أعمق، أشعر بأنني بلغت مستوى أعلى من الصراحة. على الفنان أن يواجه حقيقته الداخلية ويكون صادقاً مع نفسه. كذلك عليه أن يغامر ويقدم لجمهوره مواضيع جديدة دوماً. إذا كان الموضوع جريئاً جداً، فهذا يعني أنه جيّد. عليه أن يتخطى الخطوط الحمر من دون الوقوع في المحظور.