سقوط الرقص الشرقيّ

نشر في 19-05-2010 | 00:00
آخر تحديث 19-05-2010 | 00:00
لا أدري ما الذي دفعني إلى تدوين مقالات وعجالات كثيرة عن الرقص الشرقي والراقصات في العالم العربي، ربمّا يكون السبب فقدان كتب جيدة بالعربية عن هذا النوع من الرقص، الذي طالما شغل الجمهور وأهل السياسة والأدباء. ولاحظت خلال «تنقيبي» عن مصادر الرقص الشرقي أنّ معظم الكتب المدونة عنه يأتي من الغرب، ويصبّ في خانة الاستشراق... من كتابات وندي بونا فنتورا، وكارين فان نيوكيرك، ويورو بيرغر، وصولاً إلى الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير وغيرهم.

يسمي الغربيون الرقص الشرقي بـ{هز البطن» وهذه التسمية غير وافية. فالجسد كله يتحرك من رأس المرأة الى أخمص قدميها. ولا يقتصر الرقص على حركة حوض الجسد والوركين. فهو يفترض ليونة الصدر، والكتفين والذراعين، واليدين والبطن، والقدرة على الانقباض والتحرك. ولوحات القرن التاسع عشر الاستشراقية جعلت هذا الرقص رمزاً إلى الشرق المتهتك وأبرزت اختلافه الدرامي عن الرقص الغربي، إذ أنه «لم يكن مثله مجرد تصوير نوع من النشاط الاجتماعي»، بل كان يهدف بالدرجة الأولى إلى إرضاء المشاهد الذي لا يشارك في الرقص، بل يجلس ليملي النظر بالمرأة الراقصة كما في لوحة «العرس اليهودي» للرسام رينوار: حيث تبدو المرأة هي الوحيدة التي ترقص ومعظم من حولها يشاهدها ويتأمل حركاتها.

ويظن البعض ألا علاقة بين الرقص والسياسة، فيما يرى البعض الآخر أنهما وجهان لعملة واحدة، وربما اختفت هذه العلاقة في العصر الراهن. وإحدى أبرز العبارات التي قيلت وثبت صدقها أن «الراقصة تتشابه مع السياسي في عشق كل منهما للرقص}، فالسياسي يرقص بلسانه أما الراقصة فبوسطها الذي يبهر العقول ويجذب الأنظار. وكان الروائي التشيكي - الفرنسي ميلان كونديرا أبدع في الرقص السياسي في العصر الحديث، على لسان بطله «بونتيفان» في رواية «البطء» قائلاً إن جميع سياسيي هذه الأيام، في داخل كل منهم جزء من الراقص! وجميع الراقصين متورطون في السياسة، الأمر الذي ينبغي ألا يجعلنا نخلط بينهم.

الراقص يختلف عن السياسي في أنه لا ينشد السلطة، بل المجد! ليس لديه الرغبة في أن يفرض على العالم هذا المشروع الاجتماعي أو ذاك، وإنما في أن يستحوذ على المسرح كي يلمع تحت الأضواء، والاستحواذ على المسرح يتطلب إبعاد الآخرين عنه، وهذا تلزمه تكتيكات قتالية من نوع خاص.

لا ضرر في القول إن العرب نتيجة للثقافة الشعبية والبطريركية السائدة، يبتذلون الرقص الشرقي (الشيطاني)، باعتباره أكثر أشكال الإغراء سلبيةً وفحشاً، ومع أنَّ الجمهور يستمتع به ويشاهده، ويسعده كثيراً نموذج سامية جمال وهند رستم ونجوى فؤاد، إلا أنه يبتذل مهنة الرقص، ومن الملاحظ أنَّ كثيراً من صنّاع السينما المصرية، ساهموا إلى حد كبير، في تكوين ذلك الموقف السلبي تجاه الرقص الشرقي والراقصة الشرقية عموماً، فثمة أفلام كثيرة تدور قصتها عن فتاة «شريفة» اضطرت إلى العمل كراقصة بسبب الفقر والظروف الاجتماعية والمعيشية الصعبة. وما من شك في أنَّ فكرة سينمائية متداولة على هذا النحو تحاول أن تتسول التبرير الأخلاقي لممارسة الرقص، الأمر الذي عمّم محاكمة هذا الفن الأخلاقية وعمل على وضعه في أحط المراتب وأكثرها دونية وابتذالاً واحتقاراً.

يعزو المفكر الراحل إدوارد سعيد سقوط أو سوء فهم هذا الفن الراقي (الرقص الشرقي) إلى إحدى مراحل الازدهار المصري أي أواخر أيام الملك فاروق وحين أتت فورة النفط بالخليجيين الأثرياء إلى مصر، وهذا ما يصح أيضاً على لبنان حين كان ساحة ترفيه العالم العربي، فظهرت آلاف الفتيات الجاهزات للعرض والإيجار فيما كان النادي الليلي مجرد واجهة موقتة للعرض.

ولم يعد للراقصة الشرقية حضورها في الأفلام المصرية الجديدة بسبب تنامي الأصوليات الدينية المتزمتة (على عكس الزمن الغابر الذي كانت فيه الراقصة عمود الفيلم الناجح الفقري). واذ وجوهر فن الرقص العربي التقليدي شأن مصارعة الثيران ليس في كثرة حركات الراقصة وإنما في قلتها: وحدهن المبتدئات أو المقلدات البائسات (جواري الفيديو كليبات) يواصلن الهزهزة والنطنطة الفظيعة هنا وهناك، ما يُحسب «إثارة» وإغراء حريمياً. ولم يعد أهل السياسة يتجرأون على الاقتراب من الراقصات على الملأ، وأصبحت «الراقصة» دينا أشبه بـ{اليتيمة» وحصلت على لقب «الراقصة المصرية الأخيرة». وهي تجاوزت برقصها المشهد المألوف من خلال الظهور بثياب مثيرة (رخيصة)، يمكن القول إنها أقرب إلى «ستربتيز» غير لائق وإيروتيكي رخيص.

من دون معلم

حين بدأت العمل في ميدان الصحافة الفنية، سنحت لي الفرصة أن ألتقي فنانين كثيرين وبعض الراقصات اللبنانيات. كانت المفارقة أنني التقيت أخيراً الراقصة ديب التي تسعى إلى ترويج الرقص الشرقي في الوسط الثقافي وإخراجه من سمعته السلبية التي باتت تلتصق به. وحين أرادت تقديم عرض لها على «مسرح المدينة» - بيروت، بدا كأنها تكسر المألوف، وتقدّم الرقص خارج إطار الكباريه أو الملهى الليلي، فهذا الفن يرتبط في أذهان الناس غالباً بالاستيهامات والابتذال والتخيلات.

لم يهتم أهل الثقافة بمحاولة ديب نقل الرقص الشرقي إلى مكان جديد خارج النمطية، أي الى مكان ثقافي هو «مسرح المدينة» في الحمرا، على رغم أن الصحافة اللبنانية أصابتها أخيراً حمّى الكتابة عمّا يسمى «الرقص المعاصر» القائم على التجريب وفذلكة الحركات المجانية.

لم يكتب أحد عن تجربة ديب التي تحاول «تبييض» الرقص الشرقي وإعادة الاعتبار إليه بوصفه فناً له قواعده وأسسه وجمهوره، وليس «هزي يا نواعم». وقدمت ديب حفلة لجمهور تحبه وليس لجمهور ينثر المال على الراقصات وينتظر اصطيادهن في نهاية الليل، فهي تعرف مشكلة الرقص الكبرى، التي تتجلّى بأن جمهوراً عريضاً لا يرى الراقصة إلا في المخدع، وتلك نمطية يجب تغييرها من خلال إعادة الاعتبار إلى الرقص الذي يتعدّى «الهز»، ليصير فناً لا يدرك سره إلا من يتعلّمه ويشعر به ويحبه. والمفارقة أيضاً أن أهل الثقافة في لبنان، اهتموا بشاب يقدم الرقص الشرقي أكثر من اهتمامهم بسهى ديب، فعندما أتى الراقص ألكسندر بوليكفتش اعترض على عنصرية الرقص الشرقي، وعلى أن يكون حكراً على النساء. لذلك رقص لثلاث ليال متتالية على مسرح «دوار الشمس» في بيروت، رافضاً بقاء هذا الرقص قرين «العروض الرخيصة والترفيه الذكوري»، كما جاء في الكلمة التي رافقت ملصق العرض.

وتحت عنوان «محاولة أولى» رقص بوليكفتش بتقنية تفوق بمهارتها تلك التي تجيدها الراقصات، لكنه على رغم ذلك، لم يستطع إقناع جمهوره كله بأن هزّ البطن، قد يكون فناً ذكورياً. تقول الكاتبة سوسن الأبطح في مقالة لها: «على رغم التصفيق الذي أطلقه البعض في نهاية الحفلة، مستزيداً بوليكفتش طالباً عودته إلى المسرح، فإن عديدين آخرين خرجوا من قاعة العرض، وعلى محياهم ابتسامات وكأنهم يستغربون ما شاهدوه أو ربما يستنكرونه أو يستقبحونه. فالناس أتوا يسبقهم فضولهم ورغبتهم في اكتشاف هذا الرجل الذي يريد أن يزاحم النساء على واحد من الفنون القليلة المسجلة تاريخياً باسمهن».

صعود موجة رجل الرقص الشرقي في السنوات الأخيرة يشير إلى أن العالم مقبل على جنس جديد من البشر يجمع الأنثى والرجل معاً، تماماً كتجربة مغني البوب الأميركي الراحل مايكل جاكسون.

back to top