تماثيل الملح

نشر في 27-07-2010
آخر تحديث 27-07-2010 | 00:00
 د. نجمة إدريس الذكرى حالة وجدانية وذهنية صرفة، تلعب فيها المخيلة دوراً شعرياً وجمالياً بديعاً لا مثيل له في غناه ونضارته وتجدده الدائم. وكأني بالذكرى نافورة للروح، أو ينبوع ماورائي ينضح بغضارة العمر وماء الشباب.

كثير منا لا يقنع بهذا الخيال الشعري، أو يدعه في غفوته الهانئة، وإنما يظن – جاهلاً – أن باستطاعته أن يجمع الغيم أو يصطاد الدخان! فيجدّ ويجتهد في محاولة منه لإعادة الماضي ومطاردة الزمن، كما يفعل صائد الخيول البرية الجامحة حين يلقي بأنشوطته في الهواء، فتعود خائبة، أو في أحسن الأحوال تكبّه على وجهه معفراً، في حالة علوقها بما يشبه الذكرى، أو يشبه رأس فرسٍ جامح ما عاد يسكن براري القلب!

قد تستدرجنا الذكرى كما يُستدرج الطفل الصغير إلى قطعة حلوى، فنسير وراءها من أجل أن نجدد العهد بصديق أو صديقة قديمة تفصلنا عنه أو عنها سنوات طوال، فنذهب إلى الموعد والمخيلة يانعة بصور الوجه القديم ودفء الأيام الخوالي وحميمية الصلات السالفة، فنفاجأ بالسراب والهشيم، وان الوجه لم يعد هو، والدفء بات صقيعاً وغربة، والجلسة ليست سوى مجاملات باهتة ونفخ في الرماد!

وقد تخاتلنا الذكرى مرة أخرى، فتأخذنا من أيدينا كالعميان إلى مرابع طفولتنا أو مدرستنا الابتدائية أو بيتنا القديم أو مدينة عشنا فيها أو مصيف لهونا بين بساتينه، وكالعميان ننطلق نحو الزمن الضائع والطفل الذي كان والأيام المتوردة بالحنين والشغف، لنسقط في هوة من الحسرة والخيبة. فالعالم الذي نام في المخيلة ليس هو هذا الطلل الحائل، المتسربل بالصيرورة، الآيل إلى الذبول والفناء!

ولعل من الأمور الداعية إلى التهكم والسخرية، ما ندعيه دائماً بأن الآخرين أو الأشياء هي التي تغيرت ظواهرها وشاخت بواطنها، متجاهلين ما يحدث لنا شخصياً من تغيرات في المظهر والمخبر، ناكرين ما يفعله الزمن بنا كما فعل بغيرنا! ولا يحوجنا الأمر للتأكد من ذلك غير أن ننظر في المرآة بتمعن، أو نستفتي أرواحنا وأفئدتنا في لحظة صدق.

أستذكر في هذا المقام قصة امرأة لوط، حين حُذرتْ من النظر إلى الوراء، لأن إمعان النظر في ما مضى سيقود إلى مالا تحمد عقباه، حين تتحول إلى تمثال من الملح. وكأني بالقصة التوراتية تلقننا درساً في التقليل من الانغماس في الماضي أو التحايل على بعثه وإحيائه، لئلا نتحول إلى تماثيل من الملح والخيبة.

إن الذكرى تظل حالة وجدانية وذهنية لا غير، وجمالها يكمن في شعريتها وقدرتها على ملء تجاويف الروح والقلب لئلا تصفر فينا الريح. ورغم ضرورة الانكباب على صناعة الحياة الآنية والواقعية، تظل سمة التذكر والتخيل أجمل ما فينا.

back to top